«لحوم البقر في الهند العظيمة»

Picture1.png

لسوامي شاكتي بهادرانندا

فيلابوراتو عبد الكبير

البقرة حيوان وديع يُحبه الجميع، فيها دفء ومنافع كثيرة للناس، يسقون مما في بطونها من بين فرث ودم لبناً خالصاً سائغاً للشاربين، يجعلون من جلودها وأصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين، ولهم فيها جمال حين يريحون ويسرحون، ولكن ما بال أقوام يرفعونها إلى آلهة مُقدسة؟ تلك هي الكارثة التي حاقت بالهند والتي تجعل نعمة البقرة هذه نقمة. وللأسف قد أصبحت البقرة الآن مضطرة لأن تحمل على ظهرها أعباء الفاشية الهندوسية الآثمة مما أدى إلى اغتيالات أبرياء كثيرة ليس المسلمون فقط بل المنبوذون من الطبقة السفلى من الهندوس أيضًا. وكانت البداية في قرية " دادري" بولاية "أوتارا براديش" حيث تجرأ في العام الماضي حشود من "البقرهابيين" لاغتيال مسلم ضرباً اسمه محمد أخلاق بتهمة حفظ لحم البقرة في ثلاجة داخل بيته. حين اغتيل كان ابنه يحرس مرابطا في حدود البلاد. وبعد هذه الحادثة قامت شرطة العاصمة بدلهي بحملة على مطبخ المكتب التابع لحكومة ولاية "كيرالا " بنفس التهمة. وأثار هذان الحادثان ضجة كبيرة في وسائل الإعلام آن ذاك. " البقرهابية " ظاهرة جديدة أنجبتها حكومة "ناريندرا مودي".

وتقول التقارير الصحفية إن 98% من الاغتيالات المتعلقة بعنف العصابات من "لجان رعاية البقرة" التي تشكلت في أنحاء البلاد إنما حدثت بعد أن تولى مودي الحكومة المركزية عام 2014. و84% من ضحاياها كانوا من المسلمين، وفي "قرية"أونا" قامت جماعة من المتطرفين الهندوس باغتيال رجل من طائفة "شامر" بنفس التهمة قبل ثلاث سنوات، وفي الحقيقة إنما سلخ جلد بقرة ماتت، وتلك كانت من ضمن مهنتهم التقليدية، إثر هذا الاغتيال ثارت طائفة "شامر" وقاموا بتظاهرة كبيرة هددوا من خلالها بترك مهنتهم التقليدية احتجاجاً على أعمال العنف التي واجهوها من قبل عصابات الطبقة العليا من الهندوس المتطرفين، مما أربك السلطات الحكومية وأدخلها في مأزق، لأنَّ السلطات تعرف جيدًا أن أفراد هذه الطائفة إن تركوا مهنتهم التقليدية ستترتب عليها أزمة نظافة في البلاد حيث لا يستعد أحد للقيام بأعمال التنظيف سواهم. ولكن التصرفات الرعناء من قبل بلطجة "البقرهابيين" لم تتوقف موجتها ولم تتخذ الحكومة إجراءات مشددة ضدها، وكان آخرها اغتيال طالب مدرسة إسلامية اسمه جنيد داخل قطار أواخر رمضان الماضي جراء هجوم قام به بعض المسافرين معه، طعنوه بسكين عدة مرات أمام شرطة سكة الحديد. كان ذلك الطالب يرجع مع شقيقه من مدينة دلهي إلى مسقط رأسه بعد أن اشترى ثياباً جديدة لاحتفال عيد الفطر.  فتقدم البرلمان بعض أعضائه وخاصة النساء منهم مثل السيدة "سوبريا" بكلمات احتجاجية انفعالية كما قام جمع غفير من السواد الأعظم بمظاهرات كبيرة في مدن مختلفة في أنحاء البلاد تحت لافتة "ليس باسمي" (Not In My Name).

وقد أصبح أكل لحوم البقر قضية سياسية أكثر من قضية دينية وتحول الفضاء العام إلى أسوأ حالة بعد أن بدأت عصابات تفرعت من رحم الأحزاب الهندوسية المتطرفة قتل كل  من يريدون بتهمة أكل اللحم. فإنهم إنما يحاولون أن يجعلوا أكل لحم البقرة همّا يرهق المسلمين فقط بينما هو في الحقيقة قضية حرية اختيار طعام تهم جميع الفئات من الناس. الطبقة العليا من الهندوس ولو كانوا عموما نباتيين تقليديا فليس جميع الهندوس كذلك. لأن الأغلب منهم غير نباتيين يفضلون أطباق اللحوم حتى أن طائفة "البراهمة " الطبقة العليا من الهندوس في "كشمير" يأكلون لحوم البقر منذ زمن بعيد. يقول المؤرخ المشهور "أم. جي. اس. نارايانان" في مقالة نشرتها إحدى المجلات السيارة الصادرة في "كيرالا" إن الكتب المقدسة الهندوسية لا يوجد فيها نص يدل على تحريم لحوم البقرة، وجدير بالذكر أن "نارايانان" كان موقفه من قضية المسجد البابري المتنازع فيها يميل إلى موقف الحزب الحاكم الحالي. ويستنبط أيضاً من الكلمة "جوجنان" الموجودة في معاجم اللغة "السانسكريتية" والمستعملة مرادفة لكلمة "الضيف" أنها تشير إلى أن عادة أكل لحوم البقر تعود جذورها إلى الزمن الأسطوري الهندوسي لأن الكلمة ذاتها مؤلفة من كلمتين -  "جو" معناها بقرة، و "جنان" معناها آكل. وهي توحي بتقليد سائد في ذلك الزمان حيث يستقبل الضيوف بذبح بقرة لكي تٌقدم لهم أطباقاً تشمل لحومها.

وعلى هذه الخلفية إذا قرأنا كتاب "لحوم البقر في الهند العظيمة" لسوامي شاكتي بهدراناندا " تتضح لنا أهميته من عدة وجوه. أوّلاً أن مؤلفه رجل يمثل تيارا روحانيا في الديانة الهندوسية. وثانيا أنه ملم بكتبهم المقدسة وأساطيرهم المختلفة ولا يتكلم على هواه بل يدحض مزاعم المحافظين الجدد المتزمتين من الهندوس بنقل نصوص من كتبهم المقدسة والمعترف بها لديهم جميعاً مثل "فيدا" و"أوبانيشات" و"رامايانا" و"ماهابهاراتا" لا يستطيع أحد أن ينكرها. وفي مقدمة الكتاب يقول المؤلف إنه لا غرو أن يختار شخص حرية الصمت ولكن اختيار هذه الحرية بصفة دائمة في ظروف تزداد فيها المظالم خطير مثل استعمال السكر بدون حد. لذا يرفع الرجال الفطن أصواتهم حين تقتضي الظروف ذلك. وقد تقدم كثير من الكتاب والفنانين والأكاديميين والنشطاء في مختلف المجالات بانتقاد شديد لسياسات حكومة مودي، ويقول المؤلف أيضًا إنَّ هذا الكتاب إعلان تضامن لتصاريح أصدرها هؤلاء النشطاء بهذا الصدد. إن عدم مساءلة مَن غيّر جهة مسار ثقافة اللاعنف الهندية إلى تحريم ذبح البقرة وإجازة قتل الإنسان ظلم على الغاندي العظيم، ويقول إنَّ هذا التميز هو الذي دفعه لتأليف هذا الكتاب رغم أنه لم يتذوق أبداً في حياته لحم البقرة. ويشير إلى تناقض موقف عباد البقر الذين يتجرؤون على اغتيال من يأكل لحومها حيث لا يمتنعون من لبس الأحذية والأحزمة المصنوعة من جلودها ولا عن صناعتها التي تدر الأرباح. ومن المسخرة أن آلات الطرب مثل الطبل اللازمة لاحتفال المهرجانات التي تعقد في معابدهم إنما تصنع أيضاً من جلود بقرات من صغار السن. ألف هذا الكتاب في فراغ توافر له بين فينة وأخرى خلال رحلاته المستمرة وشغله الشاغل المرتبط بعلاج شقيقه الذي كان يعاني من مرض السرطان.

وفي الفصل الأول يفحص مدى تطبيق نظرية اللاعنف المبنية عليها مبررات النباتيين ويؤكد بأنَّ الأغلبية من القديسين في الديانة الهندوسية كانوا ممن لم يلتزموا بهذا المبدأ طوال تاريخ الهند حتى الآن. ويكشف هنا عن بطلان المزاعم التي وردت في كتاب "أكل لحوم البقر في الهند القديمة" للروحاني "أم. آر. راجيش " ببراهين دامغة من الكتب الدينية القديمة. ويقول صحيح أن بعض مشايخ الهندوس قد نهى عن أكل لحم البقرة ولكن إسناد هذا الموقف إلى جميع المذاهب الهندوسية مجرد محاولة فاشلة لتضليل القراء. وينقل هنا نصوصا من "مانوسمريتي" (الفصل الخامس، الآية رقم 41) أحد أقدم الكتب الفقهية لدى الهندوس التي تثبت أن لحم البقرة كان جزءا من النذور التي تقدم لآلهتهم كما أن رهبانهم كانوا يأكلونها عند انتهائهم من طقوس دينية يقومون بها. وبهذا الصدد يشير إلى "تفسير مانوسمريتي" (صفحة: 216) للروحاني "سيدهي ناتهاناندا" النباتي الخالص الذي ينتمي إلى مذهب راما كريشنا الروحاني ردا على قول "راجيش" بأن النخب العلمانية الذين يدّعون أن سلف الهندوس كانوا يتناولون أطعمة اللحوم إنما يستندون إلى كتب المستشرقين أمثال "ماكس مولار" (Max Mullar) و "إي. بي. كيت" (Keith) ومونير ويليامس (Monier Williams) الذين لا يدركون اللغة "السانسسكريتية". وإضافة إلى "سيدهي ناتهانندا" يقدم المؤلف قائمة من جهابذة العلماء الذين لهم باع طويل في بحوث الكتب الدينية الهندوسية والطقوس المرتبطة بها وممن ساهموا بشروح وافية لها أمثال "ايركارا رامان نمبوتيري باد" وأو. أم. سي. نامبوتيري باد و"في كي بهاتاتيري باد" و"ناريندرا بهوشان" داخل كيرالا و"داياناندا ساراسواتي" وآربيندو" في شمال الهند ممن يعترف بهم الحزب الحاكم الهندوسي. حتى أن منظّر الدولة الهندوسية "جول فالكار" قد اعترف بأن البقرة كانت تذبح في مناسبات دينية في القرون الأولى. وينقل من مجموعة أدبيات "جول فالكار" (الجلد السابع ص 18) رسالة كتبها "جول فالكار" إلى " شوندهي ماهاراج" بهذا الصدد ردا على استفسار الثاني عن جواز ذبح البقرة في مناسبات دينية. طرح "شوندهي" هذا السؤال حين انعقد قربان معروف باسم " فاجا بييي" في عام 1959 وشاع خبر يفيد بأن بقرات قد تذبح في هذا القربان. فرد "جول فالكار" بأنه لو لم يكن مرجعيًا في مثل هذه الشؤون إلا أن هناك روايات تؤكد بأنَّ ذبح البقر كان من العادات السائدة في الهند يمارسها الرهبان في طقوس دينية في القرون الوسطى. وقد كتب " ناريندرا بهوشان" الذي ينتمي لطريقة "آرياساماج" أن "إندران" أحد آلهة الهندوس كان يأكل لحوم البقر. ويوجد في اللغة الماراتية المحلية كتاب يسمى "دهارما شاسترا فيهار"، وهو شرح للكتب المقدسة المعروفة باسم "براهمانياهات". ينقل المؤلف مبررات وردت في الطبعة الثامنة عشرة من هذا الكتاب بأن قداسة البقرة هي ذاتها سبب جواز أكل لحومها مثل الريحان الذي يعتبرونه الهندوس نباتاً مقدساً. الهندوس المتدينون، هم يأكلون أوراقه ويشربون عصيره تبركا بقداسته كما يشربون ماء نهر "جانجا" تبركا. ويُمكن أن نجد في "تايتاريا برهمنا" من الكتب الفقهية الهندوسية أوصافا وأنواعا من البقر والعجول التي ينذر ذبحها لآلهتهم المختلفة. وفي كتاب "أشفالايا جريهاسوترا" تفاصيل مراسم تُقام بها فيما يتعلق بجنازة الرهبان من طائفة البراهمة من الهندوس. وبموجب هذه المراسم تجب تغطية وجه الجنازة ورأسها بحشو دابة أنثى كما يجب وضع قلبها على مكان قلب الجنازة فضلاً عن وضع كل عضو من أعضائها موصولة بأعضاء الميت. وهكذا إن نقلنا الكتب التي تُجيز ذبح البقرة وأكل لحومها يطول بنا ذكرها لذا نكتفي بهذا الاختصار.

ومما يكشف عن نفاق عُبّاد البقر تجارة لحوم البقر التي تترعرع بتصديرها إلى الخارج. وتُشير الإحصائيات إلى أن تصدير لحوم البقر قد زاد 28000 طنا بعد أن تولى مودي الحكومة. وجدير بالذكر أن ولاية "غجرات" التي حظرت ذبح البقر هي في مقدمة هذا التصدير. والأغرب من هذا أن الشركات الكبيرة التي تقوم بتصدير لحوم البقر يملكها الهندوس وتوجد حصص فيها لأعضاء بارزين من الحزب الحاكم مثل "سوني سوم" عضو المجلس التشريعي بولاية أوتار براديش.

تتناقل التقارير الصحفية في الهند أن هناك تحركا لتخصيص حقيبة لشؤون البقر عند تشكيل مجلس الوزراء المركزي من جديد. فحينئذ يحظى الشعب الهندي بوزير جديد يهتم بشؤون البقر في عموم الهند. وتصديقًا لهذا الخبر صدر تقرير في "لكهنو" من قبل "أميت شاه" رئيس الحزب الحاكم يؤكد فيه أن الحكومة المركزية قد تسلمت عددًا من المقترحات في هذا الصدد وأنها تفكر جديا في تنفيذ هذه المقترحات. صرح بهذا في مؤتمر صحفي نقلته الجريدة "تليغراف" مؤخرًا، علماً بأن هذا كان من مطالب سبق أن قدمها "آدتيا ناتها" رئيس مجلس الوزراء الحالي في "أوتاربراديش" أمام مودي حين تولى الثاني منصب رئيس الوزراء في الحكومة المركزية بعد الانتخابات العامة التي انعقدت عام 2014. وفي ولاية "راجاستان" التي يحكمها حزب "بهارتييا جناتا" توجد حاليا وزارة خاصة برعاية البقر. وقد أوصت لجنة أخرى كلفتها وزارة الداخلية المركزية ببناء حظيرة تُرعى فيها على الأقل 500 بقرة من بقرات هائمة يتركها أصحابها بحيث تتحمل تكاليفها الحكومات في الولايات. ومن السخرية أن هناك لجنة تشمل 19 عضوا تستغرق الآن في البحث عن قوى كامنة في روث البقرة وبولها في علاج الأمراض. وحين يكون الهم الأكبر الذي يشغل رأس حكومة مودي البقرة والإجراءات الرسمية بتخصيص مبالغ بالغة على قدم وساق في شأن رفاهيتها يموت في جانب آخر مئات من الأطفال في مستشفى حكومي في ولاية أوتاربراديش بعدم توافر الأوكسجين اللازم لعلاجهم لتقصير من قبل وزارة الصحة العامة في دفع المبلغ المستحق لشركات توزع أسطوانات الأوكسجين. والسخرية في تقديس البقرة قد بلغت يافوخها من ترهات يصنعها عُبّاد البقر حول آلهتهم هذه، يقولون إن في قرون البقر أشعة مفاعلات راديو وفي روثها بلو تونيا. ويسخر منهم الكاتب والعضو البرلماني "شاشي تارور": " فليقوموا بتصدير البقر إلى "شيرنوبيل" في أوكرانيا وإلى فوكوشيما في اليابان حتى يتمكن من توطيد العلاقات الثنائية بيننا وبين كل من هذين البلدين ويصل مستوى رعاة البقر عندنا إلى أحسن الحالة". يدعي السيد مودي أنه تولى الحكومة ليقود الهند إلى العصر الرقمي ولكن للأسف جميع محاولاته للإصلاحات سواء كانت في مجال الاقتصاد مثل إلغاء الفئات من ألف روبية وخمسمائة روبية أو في مجال السياسة والتربية كانت كثيرة الضجيج وقليلة الطحين.    

قد يستغرب القارئ كيف يحدث كل هذا في بلد يوجد فيه دستور علماني؟ صحيح أن دستور الهند علماني من حيث الأصل ولكن الثغرات الكامنة فيه التي يمكن سوء تفسيرها أيضاً من جهتها، هذه حقيقة صادمة. وتتضمن المبادئ الإرشادية في دستور الهند بندًا يطالب الحكومة بحظر ذبح البقرة. عند تسجيل هذا البند كان هدفه حفظ ثروة الأنعام من أجل تطوير المنتجات الزراعية. وهذا البند هو الذي تستغله القوى الهندوسية الآن بينما صلاحية هذا البند قد عفا عليها الدهر حيث استبدلت الأنعام بجرارات (تراكتورات). وقد أشارت الكاتبة الأكاديمية "بريتام سينغ" إلى مثل هذه الثغرات في دستور الهند في إحدى مقالاتها.

وقد نجح المؤلف "سوامي شاكتي" من خلال هذا الكتاب في تعرية الهندوسية من ردائها الزائف وإظهارها على حقيقتها.

-----------------------------------------------------------------------

عنوان الكتاب: لحوم البقر في الهند العظيمة

اسم المؤلف: سوامي شاكتي بهادرانندا

عدد الصفحات: 66

لغة الكتاب: مالايالام (لغة محلية في الهند)

الناشر: دار النشر الإسلامي، كوزيكود، كيرالا، الهند

أخبار ذات صلة