«تكيف الأسواق: التطور المالي في سرعة الفكر»

20.jpg

لأندرو ون تشوان لو

محمد السالمي

يحدثُ الآن تطور كبير في علم الاقتصاد؛ من حيث تفسير الظواهر الاقتصادية، والابتعاد قليلا عن الاقتصاد الرياضي.. فهناك ميول عامة في الدارسات الاقتصادية لربط هذا العلم مع العلوم المتعددة مثل البيولوجيا والسيكولوجيا...وغيرها من العلوم، وظهور بشكل واسع لأفرع متعددة لهذا العلم؛ مثل: الاقتصاد السلوكي، واقتصاد السعادة، والاقتصاد البيئي...وغيرها، مع العلم بأن الفائر بجائزة نوبل في الاقتصاد للعام 2017 هو ريتشارد ثال؛ لإسهاماته الكبيرة في الاقتصاد السلوكي. وعند النظر في الكتب الاقتصادية الحديثة، فأغلبها تتحدث في الاقتصاد الجزئي والسلوكي وتفسير ظواهر البشر، والمحاولة في تغير بعض القوانين مثل الاستهلاك والمنفعة. فكتاب "تكيف الأسواق: التطور المالي في سرعة الفكر"، يحاول تفسير الأسواق المالية من مبدأ التطور البيولوجي للإنسان. هذا الكتاب من تأليف أندرو ون تشوان لو (Andrew Wen-Chuan Lo)، ويشغل منصب أستاذ في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT)، كما تم تنصيف الكتاب ضمن أفضل الكتب الاقتصادية لعام 2017 حسب الفايناشيال تايمز.

وفي دراسة حديثة لأسواق رأس المال، كان هناك نوعان من الابتكار: الأول الأفكار التي تسهم في قدرتنا على اتخاذ أحكام أفضل؛ أما النوع الثاني، فهي الفرضيات والنظريات الحقيقية، والتي هي قابلة للاختبار، كما أنها أيضاً قابلة للتزوير، وهذه الأخيرة قليلة ومتباعدة.

 

وعند النظر في صور آثار الكساد الاقتصادي في اليونان أو الأرجنتين...وغيرهما من الدول سابقا؛ مثل: ألمانيا أو الولايات المتحدة، تجد تجمع الحشود خارج البنوك، على أمل سحب مدخراتهم قبل أن ينهار البنك. يطلق الاقتصاديون على هذه الظاهرة مفهوم الذعر المصرفي، ويفسرها آندرو لو بأخذ مقارنة بيولوجية في التمييز بين حشد البشر من قطيع من الإوز أو قطيع من الغزلان من الناحية النوعية، عبر الانخراط في نفس السلوك. كلاهما تكيف مع الضغوط البيئية، ومنتجات الانتقاء الطبيعي. في الواقع، أدرك الاقتصاديون دون وعي الطبيعة البيولوجية لهذه السلوكيات عندما وصفوها بأنها "الذعر". ويؤكد علم الأعصاب وعلم الأحياء التطوري أن التوقعات العقلانية وفرضية الأسواق الفعالة لا تأخذ إلا جزءا من مجموعة كاملة من السلوك البشري. هذا الجزء ليس صغيرا أو غير مهم. في الواقع، سيكون من الحكمة أن يعتمد المستثمرون فرضية الأسواق الفعالة كنقطة انطلاق لأي قرار تجاري.

ويُمكن تلخيص فكرة آندرو الأساسية في عدة مبادئ رئيسية؛ ألا وهي: أن سلوكياتنا ليست دائما عقلانية ومنطقية، ولكن نحن كيانات بيولوجية شكلت معالمها وسلوكياتها عبر التطور البيولوجي. كما أننا عرضة للتحيز السلوكي واتخاذ قرارات دون المستوى الأمثل، ولكن يمكننا أن نتعلم من الخبرة السابقة ومراجعة الاستدلال ردا على ردود فعل سلبية.

ويؤكد الكاتب أن لدينا القدرة على التفكير المجرد من التنبؤات على أساس الخبرة السابقة، والتحضير للتغيرات في بيئتنا.

ويشير إلى أن ديناميات السوق المالية تعتمد بشكل رئيس على تفاعلاتنا في التصرف والتعلم والتكيف مع بعضنا البعض، وإلى البيئات الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية والطبيعية التي نعيش فيها. والبقاء على قيد الحياة هي القوة في نهاية المطاف التي تقود إلى المنافسة والابتكار، والتكيف.

هذه المبادئ تؤدي لاستنتاج مُختلف جدا من العقلانية. في إطار فرضية تكيف الأسواق، في العادة لا يعرف الأفراد على الإطلاق ما إذا كان استدلالهم الحالي "جيدا بما فيه الكفاية". حيث إن هذا الاستنتاج هو نتيجة التجربة والخطأ. فالأشخاص يتخذون الخيارات بناءً على تجربتهم السابقة وأفضل تخمين فيما يتعلق بما قد يكون مثاليا، ويتعلمون من خلال تلقي ردود الفعل الإيجابي أو السلبي من النتائج. ونتيجة لهذه التغذية الراجعة، يطور الأفراد الاستدلال الجديد والقواعد الذهنية للإبهام لمساعدتهم على حل مختلف التحديات الاقتصادية. وطالما بقيت تلك التحديات مستقرة على مر الزمن، فإن استدلالها سيتكيف في نهاية المطاف ليؤدي إلى حلول مثلى تقريبا لتلك التحديات. مثل نظرية هربرت سيمون حول العقلانية المقيدة، فإن فرضية تكيف الأسواق يمكن أن تفسر بسهولة السلوك الاقتصادي. ولكن هذه الفرضية تذهب أبعد من ذلك ويمكن أن تفسر السلوك الاقتصادي الذي يبدو غير منطقي تماما.

البشر وبقية الكائنات على حدٍّ سواء يتكيفون مع بيئتهم. وإذا تغيرت البيئة، فإن استدلال البيئة القديمة قد لا يكون ملائما للبيئة الجديدة. وهذا يعني أن سلوكهم سيبدو "غير منطقي". وإذا لم يتلق الأفراد أية ردة فعل من بيئتهم -سواء إيجابيا أو سلبيا- فلن يتعلموا. إذا تلقوا التعزيز غير المناسب من بيئتهم، فإن الأفراد يتعلمون السلوك دون المستوى الأمثل. وإذا كانت البيئة تتحول باستمرار، فإنه يصبح مثل القط الذي يطارد ذيله ما لا نهاية، أي أن الأفراد في هذه الظروف لن يصلوا إلى الخيار الأمثل. وهذا أيضا سيبدو "غير منطقي". لكن فرضية الأسواق التكيفية ترفض تسمية مثل هذه السلوكيات بأنها "غير عقلانية". وهي تدرك أن السلوك دون المستوى الأمثل سوف يحدث عندما نأخذ الاستدلال من السياق البيئي الذي ظهرت فيه، مثل القرش الأبيض الكبير على الشاطئ. حتى عندما يبدو السلوك الاقتصادي غير عقلاني للغاية، مثل المتداول الغارق الذي يضاعف استثماره من أجل تعويض الخسائر الغير قابلة للاسترداد، فإنه قد يكون لا يزال لديه تفسير التكيف. لاقتراض كلمة من علم الأحياء التطوري، وصف أكثر دقة لمثل هذا السلوك ليس "غير المنطقي"، ولكن "سوء التكيف". ما يحافظ على سلوك المستهلك من الفوضى تماما هو عملية الاختيار. إن عملية الاختيار، من خلال التخلص من السلوكيات السيئة من السلوكيات الجيدة، تضمن أن سلوك المستهلك، وإن لم يكن بالضرورة هو الأمثل أو "العقلاني"، عادة ما يكون جيدا بما فيه الكفاية.

كما تطرق الكاتب لتفسير الاقتصاديين حول سلوك السوق. على الرغم من أن معظم الاقتصاديين عرفوا لسنوات أن فرضية الأسواق الفعالة ليست وصفا دقيقا لسلوك السوق، إلا أنهم واصلوا استخدامه لأنه ليس لديهم أي شيء أقوى ليحل محله. يبدأ الكاتب مع نظرية المستهلك الفردي، تماما كما فعل بول سامويلسون في عام 1947. في رأي سامويلسون الأفراد دائما يسعون لتعظيم الفائدة المتوقعة. وهذا يعني أن المستهلكين ينفقون دائما أموالهم للحصول على أقصى ما يستطيعون الحصول عليه من الأشياء التي يريدونها حقا. وعلاوة على ذلك، فإنها يمكن تفسيرها رياضياً.

عرف سامويلسون أن التحسين الرياضي كان غير واقعي من الناحية النفسية. لذلك، فإن الطريقة الواقعية الوحيدة لقياس قوة رغبة المستهلك هي استخدام السعر الذى يرغب الشخص في دفعه من أجل الوفاء أو الرضا عن رغبته. لا تزال فرضية الأسواق التكيفية تحمل مجالا لتعظيمها، ولكنها تجعل الافتراض أكثر تواضعا بكثير من سامويلسون حول قدرة الفرد على تحسين السلوك. حتى لو كنا نستطيع حساب التفاضل والتكامل، فإننا عادة لا نطبقه على ميزانياتنا اليومية. تدرك فرضية تكيف الأسواق أنه على الرغم من الضغوط التطورية لتعظيمها، فإنها قد لا تؤدي إلى السلوك الأمثل. إن التكيف الناجح بشكل تطوري لا يجب أن يكون الأفضل؛ فإنه يحتاج فقط إلى أن يكون أفضل من البقية. في إطار فرضية الأسواق التكيفية، سلوك المستهلك يعتمد على مسار كبير. وما يحفظ سلوك المستهلك من الفوضى تماما هو عملية الاختيار. إن عملية الاختيار، من خلال التخلص من السلوكيات السيئة من السلوكيات الجيدة، تضمن أن سلوك المستهلك، وإن لم يكن بالضرورة هو الأمثل أو "العقلاني"، عادة ما يكون جيدا بما فيه الكفاية.

ومع ذلك، فإن فرضية الأسواق التكيفية لا تدعي أن سلوك الفرد يتم تحديده فقط بواسطة البيولوجيا. فرضية تكيف الأسواق هي نظرية تطورية، ولكنها ليست نظرية لعلم النفس التطوري. التكيف يعمل على مستويات متعددة. ففي تكرر الأفكار الناجحة فإنها تتداول، في حين أن الأفكار الفاشلة تنسى بسرعة. ونتيجة لذلك، لا يعمل الاختيار على جيناتنا فحسب، بل أيضا على معاييرنا الاجتماعية والثقافية. ويعتمد سلوكنا التكيفي على البيئة الخاصة التي وقع فيها الاختيار أي من تجربة الماضي. وهذا يعني أن نظرية المستهلك الفردي في إطار فرضية الأسواق التكيفية تختلف اختلافا جوهريا عن نظرية سامويلسون الجديدة الكلاسيكية. ففي النظرية القياسية، فإن المستهلكين يستخدمون أموالهم في ما يريدون على أساس الأسعار لتعظيم الاستفادة المتوقعة. حيث يتم تحديد تفضيلاتهم مع مرور الوقت، وسلوكهم يتغير فقط مع تغير الأسعار. ليس لديهم ذاكرة للظروف السابقة، لأنه في ظل فرضية الأسواق الفعالة، فإن الأسعار تعكس بالفعل جميع المعلومات السابقة، وتحت التوقعات العقلانية، فإن الفائدة التنبؤية للماضي هي بالفعل صفر!. وعند تفسيرها رياضيا، فإن سلوك المستهلك لديه "مسار مستقل": فقط نقطة البداية النهاية. سوف يشتري المستهلك السلع بطريقة مثلى رياضيا، ومن هنا تم الحكم عليها بالعقلانية. ولكن في فرضية تكيف الأسواق، لا يتم احتساب كيف استخدم المستهلكون أموالهم على حساب الأسعار. بدلا من ذلك، يعكس سلوك المستهلكين بيئتهم التطورية والاقتصادية السابقة أي تاريخهم. حيث يستخدم المستهلكون الميراث البشري المشترك للتحيزات السلوكية التي تطورت على مدى الأطر التطورية، وكذلك الاستدلال والقواعد الإبهامية التي تطورت من تجاربهم الشخصية.

يرى الكاتب أن إسهام سمويلسون يكمن في تحليل الظواهر الاقتصادية باستخدام الفيزياء الرياضية، وكان هذا في حد ذاته تكيفا مع البيئة. دون الحاجة إلى تفسير نصي مثل الفيلسوف، عندما نقرأ من الاقتصاديين الكلاسيكيين الذين جاءوا قبل بول سامويلسون، سنضيع من نثرهم الطويل. ولكن مع إسهام سمويلسون، أصبحت العديد من الأسئلة في الاقتصاد أكثر قابلية للتحكم فكريا. ولكن في المقابل، المشكلة مع هذا النهج هو أن علم الأحياء هو أكثر ملاءمة للاقتصاد من الفيزياء. في الواقع، فإن معظم الظواهر الاقتصادية في العالم الحقيقي تبدو ببساطة أشبه بيولوجيا من الفيزياء. فمن النادر جدا العثور على أية أفكار اقتصادية تتفق تماما مع مشتقات رياضية أنيقة. كما يمكن للفيزيائيين تفسير 99% من جميع الظواهر الفيزيائية الملحوظة باستخدام قوانين نيوتن الثلاثة للحركة. وعلى النقيض من ذلك، فإن الاقتصاديين، لديهم 99 قانونا يفسرون 3 % من جميع السلوك الاقتصادي، وهو أمر محبط للغاية.

هناك تحول ملحوظ في علم الاقتصاد من التفسير الفلسفي ومن ثم التحول نحو الرياضيات والفيزياء في منتصف القرن العشرين، ومن ثم دمجها مع العلوم الأخرى من الأحياء والسيكولوجيا وغيرها من العلوم. فكتاب تكيف الأسواق يقدم مجموعة من الملاحظات حول الطبيعة البشرية، وبالتالي سلوك الأسواق. كما أنه يقدم الكثير من المواد الصعبة وغنية بالمعلومات، ولهذا السبب يستحق الكتاب القراءة.

-------------------------------

- الكتاب: "تكيف الأسواق: التطور المالي في سرعة الفكر".

- المؤلف: أندرو ون تشوان لو.

الناشر: Princeton University Press، بالإنجليزية، 2017.

عدد الصفحات: 504 صفحات.

أخبار ذات صلة