علي الرواحي
يتطرَّق هذا العمل على مدى أحد عشر فصلاً، وعن طريق أقلام فلسفية شهيرة ومرموقة على المستوى العالمي، للكثير من التحولات السياسية والاقتصادية في ضوء فلسفة النظرية النقدية التي تأسست في العام 1923م، على يد ماكس هوركايمر(1895م-1973م)، ذلك أن العالم يعيش في مرحلة زمنية مختلفة تتطلب تجديد العُدة المعرفية لفهم هذه المسارات والتحولات، وإيجاد بدائل مختلفة؛ ففي هذه الفصول نجد رؤى جديدة حول إمكانية الديمقراطية الانتقالية ومستقبلها في ظلِّ هذه التحولات المختلفة؛ عن طريق الفيلسوف الألماني الشهير هابرماس، كما نجد أيضاً دراسة حول حقوق الإنسان في ظل القانون الدولي والعولمة التي تقودها الليبرالية الجديدة للفيلسوفة سيلا بنحبيب؛ حيث إنَّ الليبرالية أسهمت في انتهاك وتعرية هذه الحقوق في مختلف المجالات الاقتصادية والسياسية والحياة الاجتماعية أيضاً؛ مما يعني ضرورة إعادة صياغة مفاهيم جديدة، وعلاقات مختلفة لنقد الرأسمالية في هذا العصر المعولم، كما يعني أيضاً في الوقت نفسه حاجة النظرية النقدية لمواجهة التراث الأوروبي المتمركز حول تصوراته وُرؤاه، والاستجابة لهذه التحديات في ظل الدراسات المختلفة لما بعد الاستعمار.
في حين نجد في الفصل الثاني من هذا العمل أطروحة مغايرة لما سبقها؛ حيث تُدافِع كريستينا لافونت عن فكرة أن حقوق الإنسان عززت السيادة الوطنية بدلاً من تجاهلها كما عبرت ذلك بنحبيب في الفصل السابق، كما نجد في الجزء الأخير من الفصل الثاني راينر فورست الذي يتفق ويدافع مع لافونت عن أن هناك مزاعم بوجود توتر بين حقوق الإنسان والسيادة الديمقراطية، ذلك أن هناك فكرة شائعة بوجود هذا التوتر.
ينتقل الفصل الثالث إلى منطقة مغايرة للبحث، حيث تتناول المُنظرة الأمريكية الشهيرة ويندي براون القانون الدولي أو العابر للدول والديمقراطية، وتطرح تساؤلاً يقود هذا البحث حول قدرة الدول على ضمان السيادة الشعبية بشكلٍ عام، وبشكلٍ خاص في ظل الليبرالية الجديدة التي جعلت الديمقراطية تتآكل ليس في الجزء الجنوبي من العالم بل وأيضاً في الجزء الشمالي منه، وإن كان ذلك بشكلٍ حاذق كما هي الحال في الخطابات الحرة، والحقوق المدنية، والإجراءات السياسية، واتحادات العمال..وغيرها.
مستقبل الديمقراطية: الاتحاد الأوروبي أنموذجاً
في الفصل الأول يسعى الفيلسوف الألماني هابرماس لاستكشاف معنى التحولات التي تمر بها الديمقراطية مستعيناً بذلك بتجربة الاتحاد الأوروبي في هذا الصدد؛ حيث نجد أنفسنا -كما يقول هابرماس- بصدد مفهوم جديد يقوم على الديمقراطية "العابرة للقوميات"، أو تلك الإجراءات التي تسعى لخلق ديمقراطية "فوق قومية" (ص3)، والتي تعتبر فوق مستوى الدولة بالمعنى التقليدي لها؛ ذلك أن هذه النمط يتخذ النموذج الفيدرالي، ولكن ليس بالمعنى الخاضع للدولة كما هي الحال في الكثير من الدول المختلفة، بل بمعنى يتناول السيادة والمشروعية برؤى مختلفة. فالعصر الحالي -يقول هابرماس- يتسم بازدياد عدم الاستجابة بين المجتمع الدولي الذي يصبح مستقلاً بشكلٍ متزايد ومنظم من جهة، وبين الكثير من الكيانات المختلفة التي تتشرذم بشكل متواصل من الجهة الأخرى، وهو يطرح في هذا السياق الكثير من الأسئلة حول طريقة إدارة الأزمة في ظل العولمة الاقتصادية والتواصل الرقمي الذي يخلق عوالم أكثر كثافة وغنى مقارنة بالحقب الزمنية السابقة.
في الجزء الأول من هذا الفصل يتناول هابرماس المسائل التي تبدو غير قابلة للحل في منطقة الاتحاد الأوروبي، والتي تم تجنبها لفترة طويلة كما هي الحال في مسألة السيادة؛ وذلك لأن البنك المركزي الأوروبي يتولى إدارة هذا الموضوع من وجهة نظر اقتصادية ومالية؛ الأمر الذي جعل الكثير من الاقتصاديين يحذرون منذ فترة طويلة من الأوضاع التي لا تبعث على التفاؤل في منطقة الاتحاد الأوروبي؛ وذلك بسبب تطبيق مبدأ واحد للجميع، وهذا لا يتناسب مع الكل؛ مما يعني أن هذا الوضع يُرسل رسائل خاطئة لصُنّاع القرار حول الأوضاع الفعلية للاتحاد.
كما يتناول الجزء الثاني من هذا الفصل مشروعية السلطة، والتي كانت في الثورة الفرنسية تستمد من مبدأ المشروعية الذاتية للدولة، والتي مصدرها الحرية والمساواة بين المواطنين، وهذا بشكلٍ مختلف عن النموذج الفيدرالي الذي يطرحه هابرماس هنا؛ حيث تقوم ديمقراطية الحكم الذاتي على مجموعة من خبراء القانون الذين يقومون بإصدار هذه القوانين عن طريق مجموعة من الإجراءات الديمقراطية، وهذا يعني أن الشعب يستطيع القيام بتعديل دستوري من خلال تداول القضايا العامة عن طريق اتباع هذه الخطوات، في حين أن الوضع مختلف بشكلٍ كبير في الولايات المتحدة الأمريكية منذ 1789م؛ حيث إن هذه الديمقراطية قد ظهرت من نمط حكم الإمبراطورية البريطانية وانفصلت عنها بعد ذلك باتجاه النظام الفيدرالي، كما نجد أيضاً أن هذا النمط من الحُكم متبع في سويسرا بعد الثورة الدستورية في 1848م، والتي طورت هي الأخرى نمط حكم مختلفا عن المراحل السابقة، غير أن ثمة إشكالية تقوم في هذا النظام وهي في ذلك التداخل بين العلاقات الخارجية وعلاقتها فيما بين الأعضاء من جهة، وبين القانون المحلي والاتفاقيات الخارجية من الجهة الأخرى.
وفي الجزء الثالث من هذا الفصل، يذهب هابرماس بعيداً في تحليله لهذا النظام الفيدرالي، من حيث أن التغييرات أو التأثيرات لا تقتصر فقط على الأنظمة السياسية بين الدول بل تصل أيضاً إلى الاشخاص أو المواطنين ذاتهم (ص8)، فهم من الضروري أن يمارسوا السيادة عن طريق المشاركة الشعبية فيما بينهم، وهو ما يضعنا أمام مفهوم "دولة المساواة" المنضوية تحت القانون الدولي.
يضع هابرماس عدداً من الشروط لفهم الانحراف الدستوري في ظل تجربة الاتحاد الأوروبي وذلك بهدف إصلاحها، وبهدف إعادة الاعتبار للخيارات الشعبية وفق المفهوم الجديد للديمقراطية، حيث من الضروري الحصول على إجماع الأعضاء في الاتحاد الفيدرالي لحدوث أي تغيير، كما أن حق مغادرة الاتحاد تكون مكفولة ضمن مفهوم السيادة الأصلية دون أن يعني ذلك تقسيم الاتحاد، وهذا يؤدي إلى ضرورة مراجعة الدستور القومي لكل دولة على حدة بما يتناسب والبناء المعماري الأكبر للاتحاد الفيدرالي الأوربي.
السيادة القومية وحقوق الإنسان:
في الفصل الثاني (ص22) من هذا العمل، تتحدث الفيلسوفة الأمريكية وأستاذة العلوم السياسية في جامعة ييل الأمريكية سيلا بنحبيب، عن السيادة الديمقراطية للدول والقانون الدولي؛ وذلك على أثر حُكم المحكمة الأمريكية بناءً على واقعة حدثت في 17 أبريل 2013م، حيث أصدرت المحكمة الأمريكية العليا قراراً طال انتظاره، بعد أن قام المدعي النيجيري برفع دعوى ضد الشركة الألمانية للبترول وذلك إثر محاولتها إسكات المتظاهرين الذين يهدفون لحماية البيئة وعدم تدميرها من قبل شركات النفط، حيث تم قتل بعض المتظاهرين كما تم ضرب بعضهم الآخر. تثير هذه الواقعة الكثير من التساؤلات حول السيادة الوطنية من جهة، وحول "الاستثناء الأمريكي" من الجهة الأخرى أو كما وصفه البعض "بالفضيحة الأمريكية" التي تتدخل في شؤون الدول الأخرى عن طريق إصدار الأحكام القضائية وملاحقة الكثير من الأفراد والمؤسسات المختلفة أو التي تصل أحياناً إلى التدخلات العسكرية. كما اعتبره بعض الباحثين وصُناع السياسة تعبيراً عن "سيادة جديدة" وذلك عن طريق ظهور نظام قانوني جديد، أو نظام حكم عالمي. غير أن هذا الاستثناء الأمريكي ليس جديداً فهو متداول ومنذ فترة ليست بالقصيرة في أدبيات النظرية السياسية، وبشكلٍ خاص بعد قرار مونرو الصادر عن الرئيس الأمريكي الخامس.
مهما يكُن، فإن هناك الكثيرَ من الأسئلة التي تطرحها هذه الواقعة وغيرها في السياق الدولي والمحلي على حدٍّ سواء؛ ومن ضمنها: ما هي مكانة القانون الدولي بما فيها القانون القومي لكل دولة على حدة، وهل تعتبر دستورية أو ملزمة قضائياً؟ إذا أخذنا في الاعتبار أن القانون الدولي أصبح جزءاً من الصلاحية الدستورية بموجب الكثير من الاتفاقيات بين الدول كما هي الحال بين جنوب إفريقيا وهولندا.
تثير هذه الواقعة أيضاً سؤالاً آخر في هذا السياق؛ وذلك بموجب التطورات الأخيرة في الجانب القانوني والتطبيقي على حدٍّ سواء؛ حيث من الممكن اعتبارها بأنها تقود إلى "دستورية عالمية" مع أو بدون الدولة، والتي من الممكن اعتبارها كما ذهب الكثير من الباحثين كبذرة "لقانون واحد لجميع الدول" (ص23).
ترى بنحبيب أننا بصدد العودة إلى مفهوم الكونية أو العالمية (ص25) من جديد؛ حيث نشأت هذه الكونية تحديداً بعد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في عام 1948م، الذي تحول العالم بموجبه منذ ذلك الوقت من العالمية إلى مبادئ العدالة الكونية أو الكوسموبوليتية، حيث اتخذت هذه الكونية جانبين، أحدهما: أخلاقي والثاني قانوني. ففي الجانب الأول: هناك التزام باعتبار كل شخص مستقلا ينبغي أن تتوفر له الرعاية والتقدير. في حين أن الجانب القانوني يشير إلى اعتبار كل شخص بصفته القانونية الذي يجب حماية حقوقه أو حقوقها دونما النظر للجنسية. غير أن هذه الاتفاقيات كميثاق حقوق الإنسان وغيره تواجه بعقبات الخصوصية المحلية لكل ثقافة على حدة، بالرغم من توقيع الكثير من الدول على هذه المواثيق التابعة للأمم المتحدة، كما هي الحال في اتفاقية منع ومعاقبة جرائم الإبادة الجماعية، واتفاقية اللاجئين في العام 1951م...وغيرها من الاتفاقيات، كالتمييز العرقي والتمييز ضد النساء التي لم توقعها بعض الدول بحجة عدم اتفاقها مع الخصوصية المحلية لها.
والسؤال هنا حسب بنحبيب: ما الذي من الممكن فعله إذا تصرفت هذه الدول بوقاحة، وتعاملت بعنف مع هذه الحقوق؟ هل تعتبر هذه الاتفاقيات مجرد طموحات لا يمكن تحقيقها؟ ألم تواجه هذه الاتفاقيات بلسعة من قبل هذه الدول؟
في الفصل الثالث من هذا العمل (ص91)، تتناول المُنظرة السياسية الأمريكية الشهيرة ويندي براون، مسألة على قدر عالٍ من الأهمية، تتطرق من خلالها لقضية الليبرالية الجديدة وأثرها على الحقوق السياسية، بحيث أنها قد تأثرت إلى حد كبير بهذه الإجراءات، وهي تتبع في ذلك منهج ميشيل فوكو إلى حدٍّ كبير، وأثر الليبرالية الجديدة أيضاً على القوانين ودورها في الاقتصاد السياسي وجعله مرحلة من مراحل الرأسمالية، أو الايديولوجيا التي فقدت بريقها لدى الطبقة الرأسمالية، حيث إنها قد شكَّلت الكثير من الأشياء بما فيها الإجراءات الإدارية للدولة والعائلة والحرب والأدب وحتى أيضاً التفكير في الرغبات اليومية، غير أن هذا لا يعني أن الليبرالية الجديدة قد جعلت كل شيء تابعاً للسوق أو للبيع والشراء، ذلك أن هناك مجالات تبقى عصية عليها، بالرغم من أنها قد نشرت هذه الفكرة أو هذا النموذج في التفكير في جميع المجالات تقريباً، حتى أصبحنا أمام مفهوم "الإنسان الاقتصادي" القائم على هذا النموذج في تفكيره.
غير أن المهم هنا في هذه الورقة هو تأثير الليبرالية الجديدة على الحياة السياسية بشكلٍ محدد (ص96)، وهذا يعني أنه لا يُمكن الاكتفاء بالقول بوجود فساد أو تواطؤ بين السياسة والقانون والنموذج الاقتصادي، بل يمكن القول بأن هذه المقدمات قد حدثت في الماضي لعدة عقود، وهي التي شكلت الحياة السياسية بطريقة عقلانية إلى حدٍ كبير، وربما اعتباراً من الاقتصادي الشهير آدم سميث والادبيات اللاحقة لذلك.
في الفصل الرابع (ص160)، تناقش الباحثة السويسرية راحيل جيجي مسألة "المفهوم الواسع للاقتصاد: الاقتصاد بوصفه ممارسة اجتماعية ونقداً للرأسمالية"؛ حيث تبدأ هذه الورقة بالعودة للفيلسوف الألماني ماكس هوركايمر؛ وذلك في عمله المحوري "النظرية النقدية والنظرية التقليدية"، وهي تنطلق في ذلك من ضرورة التفريق بين مفهومين للاقتصاد: الضيق والواسع؛ فالنظرية التقليدية كانت ترى تأثير الاقتصاد على العلاقات الاجتماعية، وذلك بتأثير من الفيلسوف المجري جورج لوكاش في عمله المهم حول التشيؤ الذي نظرَ للاقتصاد بنظرة واسعة وعريضة، مع كل ما رافقها من استغلال، وظلم، وتشيؤ، واغتراب...وغيرها. وهو ما انعكس بشكلٍ كبير على فلسفة النظرية النقدية وبشكلٍ خاص في مراحلها الأولى؛ فهي اقتصرت فقط على مهمة نقدها للرأسمالية، غير أن الأجيال اللاحقة للمنظرين من النظرية النقدية ومن ضمنهم هابرماس قد اتخذوا طريقاً مغايراً للنقد، ومنها توسعت مهمة النظرية النقدية لتصل إلى مواضيع تهم الحياة الواقعية وأنماط المعيشة اليومية.
ولكن، ما الذي يعنيه فهم الاقتصاد بالمعنى الواسع عِوضاً عن المعنى الضيق؟
مبدئيًّا، وبشكل متردِّد إلى حدٍّ كبير من الممكن القول أن المفهوم الضيق يجعل زاوية النظر محدودة إلى درجة كبيرة، غير أن المفهوم الواسع في المقابل من الممكن عن طريقه أن يتسع ليشمل تصورات الممارسات الاجتماعية والاقتصادية البشرية، وهو ما يجعل هذه الممارسات متداخلة إلى حدٍ كبير فيما بينها، الأمر الذي يجعل هذه الممارسات الاقتصادية بوصفها نمطاً من أنماط الحياة الاجتماعية المختلفة.حيث يحيل هذا المفهوم "الممارسات الاجتماعية" إلى العالم المادي، بما فيها الممارسات اليومية كالتسوق، وأداء الامتحانات، أو غير ذلك من الممارسات اليومية العامة، كما أنها تشير إلى العادات والسمات المختلفة في الحياة اليومية.
ولأجل ذلك، تقوم الباحثة بتحديد ثلاث سمات مختلفة لمفهوم الممارسة الاجتماعية، وهي على النحو التاي (ص165):
1- لا تقتصر الممارسات على الأفعال المقصودة فقط، أو السمات المتكررة والمعتادة، ذلك أنها من الممكن أن يتم ممارستها بشكلٍ ضمني وليس بشكلٍ صريح.
2- كما أنها ليست تلك "الحقائق البهيمية"، فهي تمر من خلال عملية الفهم والتأويل بوصفها أشياء، لها أهداف واضحة وأخرى ضمنية.
3- تنتظم الممارسات عن طريق المعايير، فكل ممارسة تنتظم من خلال فكرة أساسية وهي إنجازها بناءً على معايير متوقعة.
4- أخيراً: فهي متأصلة أو ملازمة لغاية معينة، أو لهدف معين.
كما نجد أيضاً في الفصل الخامس (ص183)، والمعنون "بنهاية التقدم في أزمنة ما بعد الكولونيالية"؛ حيث تناقش الباحثة آيمي آلين موضوع النظرية النقدية في أزمنة ما بعد الكولونيالية، مفتتحة هذا البحث بعبارة لإدوارد سعيد في كتابه الشهير الاستشراق والتي يتحدث فيها عن النظرية النقدية ناقداً لها أنها صمتت عن النظرية العنصرية، ومقاومة الامبريالية، والمعارضة ضد الإمبراطورية.
الأمر المثير هنا أن ألين تتفق مع إدوارد سعيد في نقده، وذلك بعد مضُي ما يقارب العقدين من الزمان على صدور الاستشراق؛ وذلك من خلال تتبع كتابات الأسماء البارزة في النظرية النقدية مثل هابرماس، وأكسل هونث، على وجه التحديد، غير أن الباحثة تستدرك أسباب هذا الصمت المطبق، معللة ذلك بسبب أن هذه القضايا تقع خارج مجال اهتمامات النظرية النقدية، فهي تهتم إلى حدٍ كبير ومنذ نشأتها بقضايا مختلفة، ومغايرة، مثل:التقدم التاريخي، والتنمية، والتطور الاجتماعي وغيرها من القضايا ذات الصلة، حيث اتخذا إستراتيجية اليسار الهيغلي، من حيث اهتمامهما بالفعل التواصلي كما هو الحال لدى هابرماس أو الاعتراف كما هي أطروحة هونث. كما أنهما -تضيف ألين- قد اعتمدا في مواضيعهما على التعليم التاريخي والتطور الاجتماعي لفهم خبايا معايير رؤيتهما.
خاتمة
وفي ختام عرض هذا العمل النوعي، نستطيع استخلاص الكثير من النتائج، وربما أهمها: أننا أمام تحولات بنيوية عميقة تطال مختلف مسارات الحياة؛ سواء بشكل ضمني أو بشكلٍ صريح، فهي لا تقتصر على مجال واحد فقط، كالمجال السياسي كما هو الحال في الشكل الحالي للاتحاد الأوربي أو بقية التكتلات الإقليمية والعالمية، التي تتغير بين فترة وأخرى في اتجاهات مختلفة، ومتعددة من حيث الانفتاح او الانغلاق، غير أن الثابت هنا أن الشعوب أصبح بإمكانها أن تقرر مصائرها، وترسم خرائط مختلفة لمستقبلها عن طريق اتباع الكثير من الإجراءات الإدارية والتنفيذية وغيرها، وهذا ينطبق على بقية النماذج الاتحادية الأخرى خارج أوروبا. كما أننا أمام مفاهيم تتسع بشكلٍ مستمر، كمفهوم الاقتصاد الذي لم يعد مقتصراً فقط على المعاملات المالية، والأسهم، والأرقام، فهو مرتبط بالممارسات الاجتماعية المختلفة، والمتعددة، ذلك أن الاقتصاد قد أصبح منذ فترة طويلة مفهوماً واسعاً ولم يعد النظر إليه حسب النظرية التقليدية.
وفي الجانب الآخر، وهو الذي لا يقل أهمية عن غيره، نجد أن النظريات والأفكار ومن ضمنها النظرية النقدية بالطبع لا يمكنها أن تتقدم دونما التزود بالنقد الموضوعي على المستويين: الداخلي والخارجي على حدٍّ سواء. ذلك أن هذا النقد من شأنه لفت الانتباه للكثير من المواضيع والقضايا التي لم يتم الانتباه إليها في بداية تأسيس أو نشأة هذه النظريات؛ فالخوف من النقد هو في الأساس خوف من الحيوية والاستمرارية والتغير في المواضيع والأطروحات الجديدة، التي بالضرورة تترافق مع التغيرات التي يمر بها العالم بين فترة وأخرى. ففي سياق النظرية النقدية، نجد أنها لم تتحدث عن المقاومة والاستعمار وغير هذه المواضيع التي شكلت مؤخراً مساراً مهمًّا في التخصصات العلمية والأكاديمية العالمية، كما وجدناه في نقد إدوارد سعيد للنظرية النقدية، وذلك عن طريق تتبع مساهمات وكتابات أهم أقطاب النظرية النقدية منذ تأسيسها.
--------------------------------
- الكتاب: "النظرية النقدية في عالم متغير".
- المؤلف : مؤلف جماعي.
الناشر: Columbia University Press، بالإنجليزية، 2017.
- عدد الصفحات : 290 صفحة.
