«الابتكار في مياه عكرة: العلوم والتكنولوجيا والأيديولوجيات»

New Microsoft PowerPoint Presentation.jpg

لإيفان سانسوليو وأرنو سانت مارتان

سعيد بوكرامي

أصبح الابتكار حافزًا حيويًّا للدول والشركات ومراكز البحث؛ لأنه يُمكِّنها من صناعة قيمة مضافة علميا واقتصاديا تُسهم بفاعلية في التنمية. يتم تعريف مفهوم الابتكار على أنه تحقيق لفكرة مبتكرة وتسويقها؛ فالابتكار يجب أن يكون مُجديا تقنيا واقتصاديا. لكن تطوير المنتجات أو الخدمات على المستوى الداخلي فقط، ليس عمليا تقنيا، أو قد يكون مكلفا جدا من الناحية المالية. ويبقى الخيار الذي تعتمده الشركات على نحو متزايد هو البحث عن التعاون عن طريق الاستعانة بمصادر خارجية أو إقامة شراكات. وعادة ما يكون تقاسم المهام بين الشركات الشريكة هو الحل الأقل تكلفة. ومن هنا، أضحى الابتكار ذا طابع عالمي، بالنظر إلى ضرورات العولمة، وظهور المنافسة الآسيوية، واعتماد الاقتصاد الجديد القائم على المعرفة، واتصاله بالقضايا الجديدة المرتبطة بالتنمية المستدامة، أصبحت إدارة الابتكار شاغلا إستراتيجيا دائما للشركات.

ومن الصعب الهروب من الخطابات المحتدمة حول الابتكارات التكنولوجية، وتجنب وعود وإغراءات رجال الأعمال المشهورين في "السيليكون فالي"، أو طوكيو أو في شنجهاي...أو غيرها من تجمعات البحث العلمي المرتكز على الإبداع والابتكار المستقبلي. ولا يخفى على أحد مشاركة صناع القرار السياسي، الذين أجمعوا على أن البحث التكنولوجي "الرقمي" أو "النانو تكنولوجي" يعد، الآن، عاملا للمنافسة والتقدم والازدهار، لهذا يتجه الإنفاق العام الكبير لصالح(R&D)  البحث والتطوير العمومي والخصوصي، وهذا يعبر عن إجماع أيديولوجي يشترك فيه العلماء والمبتكرون والسياسيون.

وفي هذا السياق، يقترح الكتاب مساءلة هذا الوضع المشترك والمخاطر الناجمة عنه عبر رحلة استكشافية نحو المياه العكرة للابتكار؛ وذلك من خلال تناوب منهجي على تقديم أربعة عشر تحليلا. يجمع بين النقد والمقاربة للممارسات الابتكارية المتعددة التخصصات والتكنولوجيا الفائقة. وقد كشفت دراسة الحالات المختلفة المجمعة عن كل حالة على حدة أن هناك حالات غير معروفة. لهذا؛ يقترح الباحثون سبلا جديدة للبحث، مستندين في الوقت نفسه إلى معطيات بحثية واستبيانات أصبحت متوفرة بشكل وافر. ونتيجة لذلك، أصبح لدينا بانوراما نقدية وتفسيرية، ومعلوماتية وتربوية، قادرة على تغذية التفكير العام حول قضية الابتكار العلمي والتقني وكواليسه الغامضة.

كان هذا الكتاب الجماعي ثمرة ندوة متعددة التخصصات حول الابتكار العلمي والتقني، التي جعلت رهانها العلمي الجمع بين المقاربة النقدية لمفهوم الابتكار الذي ازدهر بصورة فائقة وأيضا القيام برسم خرائط لبعض استخداماته من أجل "إعادة صياغة موضوع مفخخ، والتحقق من مكوناته وقابليتها لأن تتحول إلى مشكلة بحثية حقيقية" (صفحة 20). ينتظم الكتاب في قسمين يتناولان الابتكار من حيث "وجوهه وتجلياته" ثم "وضعه وحالاته". يضم الكتاب أربعة عشر فصلا هي مجمل مساهمات متخصصين يتساءلون عن استخدام المفهوم ودراسة الحالة المفكر فيها كنوع من التحقيقات حول أشياء توصف في عصرنا الراهن بـ"الابتكار".

دعونا نقول كل شيء بوضوح؛ لأن البعد النقدي الحاسم للكتاب ليس مكمن اهتمامه الرئيسي. في الواقع، يعرف مصطلح "الابتكار" نجاحا يجعله من الصعب فصله عن دلالته الإيجابية بشكل كامل تقريبا. وأي مقاربة تعاكس ذلك تكاد تتأثر أو تفشل. في مقدمة الكتاب، يتم وضع مفهوم الابتكار من حيث المنظور بطريقة واسعة جدا تتجاوز بكثير معنى التكنولوجيا الفائقة التي غالبا ما تكون محدودة من أجل تصور بديل يدعى "أيديولوجيا الابتكار" لإبراز علاقاته مع التحول الليبرالي الجديد للاقتصاد، وقربه من تقنية "الحلول الرقمية" أو علاقاته بتيارات فكرية معية في مجال الاقتصاد الذي تدعمه وتمكنه من الانتشار. على سبيل المثال، المنظور التاريخي للباحث غيوم كارنينو (الفصل الأول) يوثق لمفهوم الابتكار الذي يرافق المخترع/البطل من خلال سيرته الأخلاقية والاعتبارية التي تواكب التقدم الصناعي والتكنولوجي.

وقد أصبح مفهوم الابتكار مستخدما على نطاق واسع في الأدبيات الأكاديمية. وليس من المهم أن نلاحظ أن هذا المصطلح قد أثبت نفسه بقوة في مجال الإدارة أو الأعمال التجارية أو الاقتصاد، قبل أن ينتقل إلى الابتكار التقني والعلمي. يخصص الباحثان جيروم لامي وأرنو سانت مارتن الفصل النقدي الثاني للخطابات العلمية المتعلقة بالابتكار العلمي والتكنولوجي منذ الخمسينيات، حينما حاول أن يظهر تأثيره الإيجابي استنادا للقيمة الاجتماعية للتكنولوجيا، وعلاقة الابتكار بالاقتصاد والتقدم التنموي. ومنذ الثمانينيات من القرن العشرين، انتشر استخدامه وإدماجه (من خلال مروجيه من المستثمرين) وبناء على مفهوم شائع أطلق عليه اسم "حكومة العلم". كما تم التنظير له في العمل الأكاديمي، والتطبيع له من طرف الليبرالية الجديدة بحيث أصبح مفهوم الابتكار جزءا متأصلا في السياسة العامة، ويتضح من "النجاح الهائل لمفهوم" نظام الابتكار الوطني" (ص70) الذي أدخلته (OECD) منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية في العام 1980. وجاء هذا الانتشار دون أدنى انتقاد أكاديمي من طرف المتخصصين الأكاديميين، الذين كانوا يركزون على أمور أخرى مثل التقدم التكنولوجي، وتحديد جوهره "باعتباره حقيقة اجتماعية فعلية" (ص75).

هذا الابتكار الذي یعطي قيمة لنفسه هو موضوع السیاسات العامة التي استحدثت لغة جدیدة. في الفصل الثالث يعكف الباحثان رونان لو روكس وجيروم لامي على كيان المجموعة، التي تستحضر إعادة هيكلة التعليم العالي باسم السعي لتحقيق الابتكار الذي يحمل الحلول السحرية للتوصل إلى بناء واقع أكثر فاعلية وكفاءة. لهذا؛ انتشرت لغة الابتكار وأدمجت في مسالك البحث والدكتوراه. هذا ما يلاحظه جان فرانسيس وجيرار جاجليو وأرنو سانت مارتن في الفصل الخامس. هذا التلقين لفكرة تنظيم المشاريع المقترحة لطلاب الدكتوراه هو "عملية إدارة فحوى الدكتوراه والعلوم التي لا تكشف عن أبحاثها"؛ وبالتالي فهي تنشر "أيديولوجية خالصة ومكتملة عن تداخل العلم والابتكار" (ص141-144). وفي سياقات أخرى مثل القانون، يمكن أن يسلط الشيء المبتكر الضوء على "فراغ قانوني"، ليصبح الابتكار موردا جدليا لتبرير تدخل المشرع (ميلاني كليمنت فونتين، الفصل الخامس). وكما يلاحظ سانت مارتن ولامي، فإن "هيكلة الأنشطة العلمية والتقنية قد أعيد تشكيلها منذ الثمانينيات. إن الإشارة في هذا النظام الجديد إلى الابتكار العلمي والتقني موجودة في كل مكان، وسواء شئنا أم أبينا، فإنه يشكل في الواقع نشاطا محددا، و[...] وبالتالي لا بد من دراسته في جوهره" (ص85).

غير أن التحليل النقدي لا يمكن أن يستبعد تماما مصطلح "الابتكار" لأنه يوجد، على الأقل، في نتائجه وفعاليته الأدائية. لكن هذا الأداء له حدوده. خلال دراستهم لبرنامج البحوث الأوروبية لمحاكاة الكمبيوتر مع الدماغ البشري الكامل لدراسة أدائه، أشار إيفان سينسوليو، موريل سورديز وإروان لامي، إلى أن وراء "العمليات التقنية والعلمية واسعة النطاق، يبدو أن القناعات العلمية للقادة ستبقى هيكلية... أكثر من الوعود التي تدعي تغيير الحياة والمجتمع والاقتصاد" (ص285).

أما يانيك مايغنيان ودومينيك فينك، وبعد رجوعهما لعدد من الوثائق، فإنهما يعتبران أن التنفيذ المركزي لمنصة البيانات الكبيرة في المركز الوطني للأبحاث العلمية الفرنسي، هو مصدر "الابتكار في العلوم الإنسانية والاجتماعية" وفي إطار "العلوم الإنسانية الرقمية". ويفسران أيضا الصعوبات التي يواجهها عدم تجانس الجمهور المستهدف بهذا الابتكار. وبعيدا عن التأثيرات الأدائية، يسهم التفيؤ أيضا في وصف التحولات في مجالات علمية معينة. وبالتالي؛ فإن الباحث ماكسانس غايلارد يأتي في الفصل السابع بإضاءات غنية عن التحولات المعرفية والعلمية التي تحدث في مجال علوم الإدراك من خلال إدخال تقنيات التصوير الدماغي والعصبي. وقد فرضت هذه التقنيات نفسها في غضون سنوات قليلة؛ مما أدى لتفادي بعض الفروق، لا سيما استقلالية علم النفس فيما يتعلق بعلم الأعصاب.

وإذا كانت دراسات الحالة تعكس غموض الظواهر المصنفة تحت مصطلح هندسة الابتكار المتغيِّر، فإن المساهمات المختلفة حول موضوع الابتكار غير متكافئة. ولا شك أن الفصل العام الذي كتبه سانت مارتن ولامي يمثل مجالا مهما في التفكير. وبالمقابل، فإن بعض دراسات الحالة ترسم خطوطا مثيرة للاهتمام للتفكير، خاصة تلك التي تهتم بدور المستخدمين في الابتكار، لكنها في الغالب لم تتوفق في ذلك نظرا لخلفياتها الإيديولوجية وتواطؤها مع المستثمرين.

وهذه هي الحال بالنسبة لنتائج الدراسة الاستقصائية عن تصورات الطلاب للابتكار، التي أجراها استبيان في مدرسة واحدة فقط خاصة بالتجارة (الفصل الرابع)، وهو أمر غير معقول إلى حد ما. دون إرادة في التحديد الكمي، أو تفسير ذلك. وهذا أمر إشكالي في كتاب يستهدف نقد منظومة علمية يكتنفها الغموض والالتباس. وأكثر من ذلك هناك بعض المساهمات التي تستخدم مصطلح الابتكار دون احتياطات. وهذه هي الحال في الفصل العاشر المتعلق بالقرصنة التي تعتبر "ابتكارا مضادا" لأن هذه الممارسة تعطل نشر البرامج الخاصة الجديدة. وهنا يتعلق الأمر بمسألة تحديد إلى أي مدى، وبأي ظروف، يمكن صياغة أسئلة مستقلة علميا. ومتى ينبغي المخاطرة بإدراج تحليلات عناصر الخطاب المتحيز للابتكار والتوقعات الأيديولوجية لاقتصاديات الابتكار "المدمّر" وروح المبادرة التكنولوجية العلمية. ومن شأن ذلك أن يخفضها إلى خطاب مصاحب، ومتعاطف وغير ضار خصوصا بالنسبة للمجتمع الليبرالي الجديد المقبل على التكنولوجيا الذي يمنح تصورا غامضا على أنه فعال وخلاق، لكنه في الحقيقة يغامر بظهور مخاطر جديدة. في الوقت الحالي تبدو ذاتية ويمكن تجاوزها، لكنها على المدى القصير ستعطي مجتمعا ليبراليا جديدا غير قادر على التحكم في التكنولوجيا وسرعة الابتكار والتنافسية العلمية التي ستطرح معضلات عويصة تتضارب فيها القيم وتنهار لتظهر قيم بديلة تدفع المجتمعات البحثية إلى ابتكارات معادية، وتحديات حاسمة.

إن منهجية الكتاب تسير في اتجاه خلق تعدد المقاربات. وبالتالي تصبح النتائج الأخيرة هي تقاطع لوجهات نظر مستقاة من (علم الاجتماع والتاريخ والعلوم التقنية والإدارية والقانون والهندسة والفلسفة) هذه الخيارات المنهجية والمقاربات الموضوعاتية هي مجال لمواقف محتملة بشأن سياسات الابتكار.

ونجد هذا الاختيار المنهجي إستراتيجية موحدة بين الباحثين في الفصول من الفصل الأول إلى الفصل السادس. بحيث لا يسمح الباحثون المساهمون فيها بإدراج أنفسهم في خطاب واحد يدعي أن "الابتكار هو الذي سينقذ العالم"، الذي يحظى بشعبية كبيرة منذ أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.إذا كانت جميع المعضلات والمواقف الفكرية العفوية من الابتكار لا يمكن تفكيكها في كتاب واحد، فقد اختار المشرفون على الكتاب "إيفان سانسوليو" و"أرنو سانت مارتان" أن يدرجا في القسم الثاني من الكتاب تحليلات جماعية لصيرورة وتطور الابتكار، من وجهة نظر التكنولوجيا (الفصلان 7و8)، ولكن أيضا علاقته بالأسواق التجارية (الفصول 9و10و11) وارتباطه بمسألة الملكية الثقافية وبراءات الاختراع التي أصبحت معضلة العصر، وكذلك مشكلة هيمنة الإدارة البيروقراطية على البحوث الأوروبية أو الوطنية (الفصول 12و13و14).

وبهذا، يخصص القسم الثاني حيزا بحثيا مؤسسا لمعظم طروحات الكتاب حول الابتكار. ودون حتى معرفة مسبقة لما ستكون عليه النتيجة، أنشأ الباحثون تعاونا بين المهندسين والباحثين في العلوم الاجتماعية. وبدل انتقاد تداخل أجهزة إدارة الابتكار المتعددة التخصصات والهجينة، سعى المؤلفون إلى تسليط الضوء على أساليب تصميم وتشغيل المشاريع والبرامج الحالية (الوطنية الداخلية والأجنبي الخارجية). وهذا يستجيب لخارطة الطريق المصممة للكتاب على مدار الفصول الأربعة عشرة.

وفي الأخير، يمكن القول إن الكتاب عموما مُقنع جدا. عندما ينتقد إدخال فكرة ضمنية عن الابتكار تفترض مسبقا المعيارية. كما يشجع على تكريس الابتكار في الأشياء المبتكرة؛ بحيث تصبح هي موضوع الدراسة والتحليل. ولتحقيق ذلك، ينبغي أن يمتد هذا التفكير إلى أبعد من العلم والتكنولوجيا ليطبق على الاستخدامات الأخرى مثل "الابتكار الاجتماعي". وبصرف النظر عن السياقات والأهداف المنشودة في الكتاب، فإن المقاربات سواء كانت بالمفارقة أو بالمقارنة بين التقاطعات المنهجية والمواجهات بين المواد البحثية هي التي تخلق أرضية مشتركة للأسئلة عن الابتكار العلمي والتقني ومشاكله العويصة والغامضة في عصر التنافسية العلمية والاقتصادية الشرسة التي ستتحول في السنوات القادمة، بحسب خاتمة الكتاب، إلى حروب تكنولوجية في مياه عكرة.

------------------------------------

- الكتاب: "الابتكار في مياه عكرة: العلوم والتكنولوجيا والأيديولوجيات" (كتاب جماعي).

- المشرفان: إيفان سانسوليو وأرنو سانت مارتان.

- الناشر: منشورات كروكان، فرنسا - 2017، باللغة الفرنسية.

- عدد الصفحات: 330 صفحة.

أخبار ذات صلة