أسرار «طريق الحرير» القديم في تركستان الشرقية

Picture1.png

عبداللاهات كخاروف

أحمد الرحبي*

ليس من شك في المكانة التي يحتلها طريق الحرير بين إنجازات الحضارة الإنسانية، هذا الطريق الذي ألّف بين بلدان العالم وقاراته. فبشبكة خطوطه التجارية الصغيرة والكثيرة، ربط الشعوب القديمة وعقد الأواصر الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية فيما بينها. وعلى الرغم من الاكتشافات الجغرافية الكبرى في البحار والمحيطات، تلك التي اقتحمت العالم وفتحت أمام الإنسان آفاقا جديدة للتجارة والتنقل، والتي أسفرت - في نهاية المطاف - عن إهمال طريق الحرير العظيم، بدءا من القرن الخامس عشر وطيلة خمسة قرون تالية، إلا أنّ العلماء ما لبثوا أن عادوا إليه ثانية، وشرعوا يهتمون به: يستوعبونه بالدراسة ويحيطونه بالنقاش وذلك لما يعتقدون فيه من أهمية تاريخية وثقافية للحضارة الحديثة. وقد شهد النصف الثاني من القرن التاسع عشر بداية مُثلى لدراسة منهجية لهذه الظاهرة (طريق الحرير) التي تركت أثرا كبيرا على الحياة الحضارية في كوكبنا.

مؤلف الكتاب الذي بين أيدينا، الدكتور عبداللاهات كخاروف، خبير في الدراسات التاريخة، تلقى تعليمه في روسيا وحصل على الدكتوراه في علم الاجتماع. وبكونه ينتمي إلى العرقية الإويغورية فقد انكب في السنوات الأخيرة على البحث في المسائل المتعلقة بتاريخ الشعوب التركية عامة والشعب الإويغوري بوجه الخصوص. وبذلك أصبح الدكتور كخاروف أول عالم من آسيا الوسطى مختص بتاريخ قومه بعد مائة سنة مرت على البعثات الأوروبية والروسية (1814-1914) التي اشتغلت على تنقيب الأثريات الأويغورية القديمة في طريق الحرير وتسجيل الحقائق التاريخية لهذه البلاد الغامضة.

ولم يتوقف اجتهاد المؤلف في كتابه هذا على تجميع وتفسير الحقائق التاريخية والإثنولوجية والأثرية حول طريق الحرير، أو لوصف إنجازات جل البعثات والدراسات العلمية للعلماء والرحالة الروس والبريطانيين والفرنسيين والألمان والفنلنديين واليابانيين وآخرين من جنسيات أخرى، أو لإخبارنا عن أهمية الظواهر الثقافة المادية للبشرية التي كانت لها صلة بطريق الحرير، بل اجتهد كذلك لكشف ما يمكن تسميته بمجمع أسرار الطريق الذي يحتوي فيما يحتويه مئات المومياوات الطبيعية ذات الملامح الأوربية التي احتفظت بها ثاني أكبر صحراء في العالم بعد الربع الخالي، صحراء تكلامكان. كما شارك المؤلف القراء انطباعاته العميقة عن حضارة الأويغور القديمة والحديثة على حد سواء. وعلى الرغم من طابعه العلمي، إلا أن نبرة التعاطف مع القوم الأويغوري لا تكف عن الظهور في مجمل صفحات العمل، إذ لا سبيل للكاتب من تلبية نداء الدم وأصوات الأسلاف التي ترتفع من سهول آسيا الوسطى وأراضيها الشاسعة.

من الصفحة الأولى يقوم الكاتب باصطحاب قارئه في رحلة مثيرة وموحية عبر السهول والتلال والمدن التاريخية والواحات والصحاري لأراضي الأويغور التي ضمت عام 1759 إلى امبراطورية منشوريا ضمن إقليم سنجان، ومن ثم في عام 1955 تحولت المنطقة الأويغورية لإدارة حكم ذاتي في إطار الجمهورية الصينية بمساحة تقدر بمليون وستمائة وستين ألف كيلو متر مربع أي ما يعادل سدس مساحة الصين الحديثة.

وإضافة إلى التمحيص الدقيق للبعثات العلمية ذات الأهمية إلى منطقة الأويغور والإحاطة بنتائجها، يعرض الكاتب التمايز الذي وسم تلك البعثات مختلفة الجنسيات، ويناقش النهج والأهداف والمبادئ التي انطلقت منها، لاسيما البعثات الغربية والروسية المختصة بالدراسات الشرقية. ووفقا للمؤلف فإن الغالبية العظمى من البعثات الأوروبية إلى آسيا الوسطى تتصف بمحدودية الأهداف وضيق الأفق. وكانت تنبني على أساس استخباراتي عسكري وبتوجهات سياسية. وكما يذكر الباحث فإن "هذه السمة التي وسمت الرحالة والباحثين الإنجليز أثرت سلبيا على اكتمال دراسة تركستان الشرقية من قبلهم" ويضيف قائلا: "لقد كانت مهام الرحالة تقتصر على أهداف محددة، وتبعا لذلك تحجمت لديهم المادة الإخبارية التي كان من الممكن أن تتأسس عليها معرفة تحليلية تشمل المنطقة بأسرها. مثالا على ذلك كان للإنجليز معرفة جغرافية جيدة بتركستان الشرقية، أما معرفتهم بحال الأهالي والبنية الاجتماعية والثقافة والاثنوغرافية فكانت غامضة وكثيرا ما تفقر إلى البحث الميداني (...) وقد أدت محدودية مهامهم تلك إلى أنه وفي لحظة تاريخية معينة، فشلت محاولة بريطانيا الجادة لاستخدام تركستان الشرقية لتحقيق أهدافها الاستراتيجية" (ص 110-111). وبالنسبة لروسيا يلاحظ الباحث أنها كانت ترسل الخبراء العسكريين جنبا إلى جنب المستشرقين وعلماء من مختلف الاختصاصات كالجغرافيين والمؤرخين واللغويين والخبراء في تصنيف الحيوانات. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الكثير من أولئك الرحالة والبحاثة أصبحوا أشخاصا بارزين ولعبوا دورا في التاريخ الروسي، من بينهم وزير الحرب في الإمبراطورية الروسية لافر كورنيلوف والرئيس المقبل لفنلندا بعد أن نالت استقلالها من روسيا عام 1917 كارل جوستاف مانرهايم، والفنان والفيلسوف الصوفي المشهور نيكولاي ريريخ. وبفضل هذه المقاربة تمكنت روسيا طوال القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين من جمع مواد أثرية وعدد كبير من الأعمال الفنية والأدبية الأويغورية ومن الشروع في العمل المعمق على دراستها فأصبحت سبّاقة في مجال الدراسات الأويغورية.

كرّس المؤلف فصولا من كتابه للمدن الميتة في طريق الحرير العظيم، كما قدم تصورات مفصلة لإعادة إحيائها. من جهة أخرى يصوّر حياة المدن الأويغورية التاريخية كمدينة كاشغر التي يقدر عمرها بألفين وسبعمائة عام والتي مثلت في القرون الوسطى مركزا إسلاميا إيوغوريا يشع بالعلم والثقافة، وتشتهر بمدارسها التي فتحت أبوابها على مدى قرون لتعلم اللغة العربية والقرآن الكريم، وعُرفت المدينة أيضا بالأضرحة ومنها ضريح ستوق بغرا خان حاكم الإمبراطورية القراخانية الذي اعتنق الإسلام عام تسعمائة وعشرين ميلادية بتأثير من صديقه الأمير الساماني أبي نصر، ومنها ضريح العالم اللغوي محمود الكاشغري صاحب أول دراسة مقارنة للغات التركية "ديوان لغات الترك" التي أكملها في بغداد حوالي عام 1072م، وقد قام بإهداء إنجازه هذا لنجل الخليفة العباسي المقتدي بأمرالله. ويعرض المؤلف وصفا للآثار المتبقية في المدينة منها حديقة "توربان" بكرومها الضخمة ونظام قنوات الري المحفور تحت الأرض لحماية المياه الجليدية من حرارة الشمس القوية. ففي طقس المنطقة شديد الحرارة يتبخر الماء على سطح الأرض بسرعة قياسية. ويزور المسلمون في هذه المدينة كهفا لولي يمني جاء للدعوة إلى الإسلام في هذه البقاع. ويستعيد المؤلف قصة العابد اليمني حيث يقول: "استقبله البوذيون بمقاومة عنيفة ومارسوا الاضهاد في حقه. وبحسب الحكاية المحلية فقد لجأ الولي اليمني إلى الكهف هربا من مضطهديه وهناك قرأ تعويذة خاصة. وعندما تبعه البوذيون لم يجدوا أحدا في الكهف. وقد ظل اختفاؤه من الكهف المغلق لغزا حتى اليوم، كما أنّ الناس عكفت على زيارة الكهف على أمل أن يظهر لهم الولي اليمني من جديد" (ص 367).

ويشدد المؤلف في كتابه على مساهمة العرب المباشرة وغير المباشرة في تطوير طريق الحرير ويصفها بالإيجابية إجمالا والمفيدة للمنطقة. وحسب الباحث فإن الدور العربي في طريق الحرير يتكثف بدءا من الفتوحات العربية في آسيا الوسطى وحتى غزو المغول. ويكتب في هذه السياق: "إنّ التحول الجذري في تاريخ طريق الحرير العظيم وانطلاقته الجديدة كان متعلقا بالأوضاع السياسية وتغيراتها في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى وبالخصوص ما تعلق بالفتوحات العربية وتثبيت الخلافتين العربيتين الأموية والعباسية. إن الفتوحات العربية في آسيا الوسطى التي استمرت من منتصف القرن السادس وحتى النصف الثاني من القرن الثامن، ومعركة العرب مع الصينيين في عام 751م في وادي تالاس، ترتب عنه أفول الهيمنة الصينية في المنطقة، ووضع حد لتدخل الصينيين العميق في هذه الأراضي (...) وأسهم (الوجود العربي) في إنشاء دولة مركزية مع نظام موحد للحكم والضرائب والتعريفات الجمركية الموحدة وفي مزيد من تطوير طرق التجارة (...) كما تيسر نقل السلع والبضائع من أقصى ضواحي الخلافة إلى المراكز الأخرى أو من المناطق الوسطى إلى الأطراف. وخلال هذه الفترة تم تعزيز العلاقات التجارية والثقافية على طول طريق الحرير وكذلك تم دمج مداره بين كل من منطقة الفولغا الروسية وبعض بلاد أفريقيا" (ص 23).

ويكرس كخاروف فصلا مستقلا من كتابه لانطباعاته عن زيارته للمملكة العربية السعودية ولقاءاته هناك بشخصيات من ذوي أصول أويغورية. يقول واصفا زيارته: "تعجبت كثيرا من وجود أشخاص من أبناء جلدتي مستقرون في المملكة العربية السعودية. لقد جاء هؤلاء إلى الأماكن المقدسة في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي لأسباب مختلفة. في البداية عملوا بلا كلل في الخياطة وزاولوا تجارة صغيرة واشتغلوا في الخبازة وغيرها من الحرف. وأصبح العرب يعرفونهم باسم "تركستاني" أو "بخارى" تيمنا باسم الباحث اللاهوتي الإسلامي العظيم وجامع الحديث النبوي الإمام البخاري وهو أحد أبناء آسيا الوسطى. واكتسب أبناء تركستان سمعة محترمة بين الناس بما يتمتعون به من صدق وخفة دم، وفي وقت لاحق أصبحوا من مواطني هذا البلد (...) وأصاب العديد منهم مكانة وشهرة في المجتمع السعودي، فها هو عبد القادر تاي من ملاك المصانع، وعبد القادر طاش رئيس تحرير صحيفة المسلم، ورحمة الله تركستاني رئيس قسم في هيأة التعليم، والطبيب نور محمد يرقندي رئيس المستشفى العام في مكة المكرمة، ومحمد يوسف كاتب وشاعر معروف والكثيرون غيرهم (...) يعملون في مختلف المجالات، في إدارة البنوك وشركات القطاع الخاص ومختلف المؤسسات، لكنهم وللأسف الشديد يجهلون لغة وعادات وتقاليد أسلافهم" (ص 12-11).

ويتحدث المؤلف عن دور الصين تجاه الشعب الأويغوري باعتباره دورا سلبيا. فمن نسج حديثه عموما نجد خيطا لوّاما للصين ومعارضا لتوجهها حيال هذا الشعب وقضاياه. فلنستمع إليه في هذا المقطع من الكتاب: "إنّ أي ذكر لاستقلال تاريخ أو ثقافة الأويغور يلاقي معارضة من حكم النظام الشيوعي في الصين. كما يُحظر عليهم ذكر اسم وطنهم التاريخي والعرقي "إويغوريا". وكل ما يتعلق بقضية الأويغور في الصين يخضع للرقابة الأيديولوجية الصارمة من قبل الهيئآت الخاصة للدولة الصينية. كما تم إلصاق تسمية "سنجان" بطريقة قسرية لوصف المجتمع الأويغوري. ويقابل بالعزل والتهميش كل من يأتي على ذكر العرقية والخصوصية الأويغورية أو يلهج بتسمية "تركستان الشرقية" أو "أويغورستان" أو يكشف عن وقائع التعدي على الحقوق الوطنية للأويغوريين في الصين" (ص 35). وبحسب الباحث فكل هذا التطويق والحصار على الهوية الإويغورية يشكل عقبة كأداء أمام الدراسات التاريخية وتعيين الدور المفتاحي الذي لعبته المدن الإويغورية في تشكل طريق الحرير سواء في العصور القديمة أو القرون الوسطى، ناهيك عن معاقبة هذا التاريخ وتهديد حضارة بأكملها بالنسيان المطلق".

ويخلص الباحث من كتابه أن الكنوز الإويغورية، الأثرية والثقافية ما تزال مغمورة تحت طبقات من التراب، وأن بقايا الحضارات القديمة هذه يمكنها أن تظل خارج مجال رؤية وعمل الباحثين المختصين، مرة وإلى الأبد. يقول في هذا الصدد: "المدن القديمة والواحات والتقاليد تختفي تدريجيا وتظهر في مكانها أبنية إسمنتية متشابهة حديثة الطراز. أمّا التراث الثقافي الإويغوري وما يزخر به من ألوان نادرة ومتنوعة، التراث الذي تراكم عبر العصور القديمة والوسطى فيتم تكييفه - بلا هوادة - حسب مقاسات اليوم، وهو ما ينطبق على الديانات القديمة التي يُنظر إليها كمخلفات من الماضي" (ص 8). ومع ذلك لا يتخلى الكاتب عن الاعتقاد بأن قوة الشخصية الإويغورية ستكفل لهم المستقبل الذي ينشدونه.
--------------------------------------------------------------------------------

الكتاب: أسرار طريق الحرير القديم في تركستان الشرقية.

المؤلف: عبداللاهات كخاروف.

الناشر: دار نشر "فيتشي" موسكو 2017.

اللغة: الروسية.

عدد الصفحات: 400 صفحة.

*كاتب عماني

 

أخبار ذات صلة