هل نحن مُتسامحون؟

قيس الجهضمي

ينطلق الكاتب عاطف علبي في مقاله "إشكالية التسامح" -والمنشور بمجلة "التفاهم"- من فكرة أنَّ التسامح وُلِد من التعصُّب أو اللاتسامح، ولفهم الإشكال القائم في التسامح لابد من التعرض لتعريف التعصب وتأريخه، ثم تحديد ما هو التسامح وتأريخه في ظل تحولات المفاهيم في مجرى التاريخ، منها نستطيع أن نقرأ موضع الإشكالية في التسامح؛ فاللاتسامح يتضمن الرغبة الوحشية لملاحقة من هم على خطأ أو ضلال. ودينيا: هو رؤية المخالفين لديننا بأنهم المخطؤون، أما مدنيا، فيتمثل في ممارسة العنف تجاه الأشخاص الذين يختلفون معنا في الرؤى والأفكار ضمن نطاق الحياة الاعتيادية، وغالبا ما يتجلى اللاتسامح المدني في أولئك اللامتسامحين دينيا. ويعود ظهور اللاتسامح الديني إلى الفترة التي امتزج فيها الدين بالدولة؛ حيث يرى روبير جولي أنه يجب على الإنسان المسيحي أن يجنب مثيله الإنسان جهنم ولو بالعنف، وبهذه الصورة يصبح اللاتسامح أخلاقيا، أما التعصب -حسب رأي فولتير- فهو هوس ديني فظيع لا يمكن علاجه من خلال الدين أو التسامح، إنما فقط بالروح الفلسفية التي تجعله يدرك حقائق الأشياء من حوله ثم يتصالح معها.

ويعرف التسامح لغويًّا بأنه التساهل، وعند علماء اللاهوت الصفح عن مخالفة المرء لتعاليم الدين، أما حسن حنفي فيعرف التسامح بأنه "سلوك شخص يحتمل دون اعتراض أي هجوم على حقوقه في الوقت الذي يمكنه تجنب هذه الإساءة"، ويصفه أديب إسحاق بأنه هو رضا المرء بمعتقداته واحترامه لرأي الآخرين كائنا من كان بالنسبة إلى ما يريد أن يعامله الناس بمثله؛ فالتسامح هو "موقف من يقبل لدى الآخرين وجود طرق تفكير وطرق حياة مختلفة عما لديه هو"؛ أي موقف من يتحمل العوامل الخارجية عليه هو بذاته، وهنا يرى الكاتب أن مبدأ التسامح هو سعي للتوافق مع الآخرين والحياة، كمعنى إضافي لما وجد في التعريفات السابقة.

يلخص التسامح تاريخيا على أن الدولة هي المسيطرة على النطاق الديني، ويقتضي النظام العام لهذه الدولة لتكون متسامحة سياسيا أن تسمح بالتعبير الحر عن الآراء والمعتقدات بصورة طبيعية؛ لأنَّ استعمال قوة الدولة لإخضاع الإنسان لمعتقد معين لن يؤثر على معتقدات الإنسان الحقيقية والرضوخ لها هو لأجل مداراتها ودفع الضر، ويذكر الكاتب أن من أمثلة التسامح السياسي رجل وثني يسمى تيمستوس علَّم الطوائف المسيحية التسامح؛ حيث وجه خطابا إلى فالنس الإمبراطور يحضه فيه على إلغاء المراسيم التي فيها اضطهاد لمخالفيه؛ لأن إجبار مخالفيه سينشر الكذب والرياء ولن يحبب الشعب فيه، وفي الجانب المقابل حينما رأى كونستتان التفاني لدى المسيحيين في معتقدهم رغم كل ما يمر بهم من تعذيب فرض الدين المسيحي على الدولة؛ لأنه يخدمه ويزيد من ولاء أتباعه له عن طريق ديانتهم بالمسيحية، ويرى الكاتب أنه من خلال المثاليْن السابقين يكون التسامح السياسي حسب الظروف التاريخية.

أما لالند، فيذهب إلى أن التسامح هو موقف فكري أو قاعدة سلوكية تتلخص في أن يُترَك للإنسان حرية التعبير عن آرائه في الوقت الذي لا يوافقه عليها ولا يشاركه فيها غيره، ويرى الكاتب أن أهم القيم في العصر الحديث هي التسامح؛ لأنه يسمح بوجود التنوع بغرض الاغتناء في الحياة، والتسامح إن تعدى الحدود في التساهل يُوْصِل للاتسامح الذي سيقوم به الآخرون تجاه المتسامح الذي سيكون في موقف الضعيف بسبب تسامحه، وكذا اللاتسامح يوصِل للتسامح؛ لأن الوجود خاضع لقانون النسبية.

 

ما هو المشكل في التسامح؟

في دوامة العولمة، أصبح لابد من الأخذ بالتسامح "كون كنه الإنسان هو الحرية، والتسامح والحرية توأم"، فلا يمكن أن توجد الحرية إلا بتسامح الآخر. أما الموسوعة الفلسفية لبول إدوردز، فترى أن هناك فارقا بين التسامح والحرية، وهذا الفارق هو بقصد التمييز بين التسامح واللامبالاة التي قد تظهر في أقصى حدود التسامح، كما أنه يمكن من خلال الدولة منع الاشخاص عن التعبير عن أفكارهم، لكن هذا لا يعني أنه استطعنا أن نمنعهم من التفكير؛ فالذكاء بحاجة لحرية محاكمة الأفكار، والتسامح هو من يعطيه هذا الخيار في التفكير من خلال التنوع في الأفكار والمعتقدات في محيطه، واللاتسامح يجعل الإنسان غبيا من خلال النظرة الأحادية للأفكار والمعتقدات، والغباء بدوره يجعله غير متسامح، وأيضا يضيف علبي بأنه من نتائج لاتسامح الدولة ضعف الروابط الاجتماعية بين أفراد الشعب؛ فمن خلال التسامح نصل إلى حرية الأفراد المحترمة بين الجميع وبها تتقوى الدولة.

 ومن إشكاليات التسامح: غياب الحدود والشروط التي تمايز به عن اللاتسامح، وقد رأى بعض المفكرين أنه لابد من وضع الحدود للحرية، ومعها التسامح كي لا تصبح فوضى، ولحفظ النظام المدني والسياسي في الدولة. وأيضا من الإشكاليات التي يذكرها علبي في التسامح أنه إذا تمسكنا بالحرية والتسامح نضطر باسم الديمقراطية قبول تصرفات مؤذية، وإلا سنتعارض مع الحرية والتسامح. وبهذا، سنصل لصنع اللاتسامح بقبولنا وجود الأفعال الضارة، يقول فلادمير جانكليفيتش: "إن التسامح إذا ما دفع به إلى آخر الحدود ينتهي بنفي ذاته"، ويؤكد كارل بوبر على هذا الأمر قائلا: "إذا ما أخذنا بالتسامح المطلق حتى اتجاه غير المتسامحين ولم ندافع عن المجتمع المتسامح ضد هجماتهم، يفنى المتسامحون ومعهم التسامح أيضا". إذن، التسامح بلا حدود يؤدي إلى نهاية التسامح، فنحن بحاجة لوضع حدود للحرية والتسامح حتى نتخلص من هذه الاشكالية؛ لأن الأخذ بالتسامح يكون لا أخلاقيا في مواقف أخرى.

إنَّ التسامح يكون له قيمة عندما يكون وقع الإساءة علينا لا على غيرنا، فنحن لسنا بمتسامحين في قضايا الإساءة للآخرين، وهنا تتمحور الإشكالية الثانية في نظر الكاتب، وهي صعوبة تقدير الحدود للتسامح تجنبا للوصول للأنظمة التوتوليتارية التي تفرض قوانينها بقوة في عالم يسير نحو العولمة بصورة سريعة، وأيضا من الإشكالات أنه يظهر في كلمة التسامح شيء من معاني التعجرف والعلو أو بعض الكُره للآخر؛ فمثلا لو تسامحنا مع أفكار الآخرين أليست هي عندنا في مقام الخطأ أو أقل شأنا؟ وفي الجانب المقابل، فإن العبادات والعقائد الأخرى هي حقوق للآخرين، فلا مجال للتسامح معها بل احترامها؛ لذا اقترح عددٌ من المفكرين والفلاسفة استعمال مصطلح الاحترام بدلا من مصطلح التسامح؛ لأنها أكثر دقة في التعامل والانسجام، وإنما صارت العادة على استعمال لفظة التسامح واكتسبت معنى الاحترام. ويلخص الكاتب التسامح بأنه "حامل للتناقض"، كثير التحول والتحرك حسب الأحداث والصراعات التي تدور في العالم بين شتى الأنظمة؛ سواء كانت من الجهة النظرية أو الجهة التطبيقية، وأرى أن إشكالية مجتمعاتنا العربية في التسامح هي النظرة الدونية للمخالف عبر القنوات الاجتماعية والدينية مما يصنع لدينا إنسانا أحادي النظرة في تعامله مع الآخر ولا يستطيع التعاطي مع التنوع في المعطيات الفكرية لصنع المنجز الحضاري.

أخبار ذات صلة