فرنان بروديل: المؤرخ العادل

فاطمة بنت ناصر

يتناول الكاتب هيثم مزاحم في مقاله المنشور بمجلة التفاهم مسلك المؤرخ الفرنسي فرنان بروديل في تناول التاريخ وتفسير الحضارات. لا أعلم إن كان جهلاً منّي ألا أعرف بروديل سوى بقراءتي لهذا المقال أم أن المؤرخ لم يحظ بالنصيب الذي يستحقه من الانتشار والشهرة.

من هو فرنان بروديل؟

يعتبر أحد أهم المؤرخين الفرنسيين. عاش في الفترة (1985-1902). عمل في التدريس متنقلًا بين الجزائر أثناء فترة الاستعمار الفرنسي وبين البرازيل. وضعه الألمان تحت الإقامة الجبرية لمدة خمس سنوات عمل خلاها على إتمام رسالة الدكتوراه. أبرز إسهاماته حوته مجلة (الحوليات) التي تغير اسمها مرات عدة على مر السنين فأصبح (حوليات التاريخ) وبعدها (أمزاج تاريخية) وبعدها (الحوليات: اقتصاديات – مجتمعات – حضارات). ما يميز هذه المجلة هو تبنيها لأهم ما يؤمن به بروديل وهو قراءة التاريخ بطريقة غير تقليدية آخذين في عين الاعتبار البنى الخفية التي تشير إلى دور الذهنيات والمجتمع والاقتصاد والجغرافيا والتي أهملت لوقت طويل في قراءة وكتابة التاريخ، حيث تم تناول التاريخ التقليدي بإعلاء الشأنين العسكري والسياسي فقط وتم إهمال الجوانب الإنسانية الأخرى. ومن المهم كذلك أن نتعرف على أسماء أخرى تبنت أفكاراً مشابهة لبروديل وأسهمت إسهاماً كبيراً في هذه المجلة كأمثال: إميل دوركهايم، وكلود ليفي شتراوس وغيرهم الذين نشأ بفضلهم ما يعرف بالتاريخ الجديد.

كتاب (قواعد لغة الحضارات)

لم يحظ هذا الكتاب بالصيت الذي نالته الكتب الأخرى لبروديل ويعلل كاتب المقال هذا بقوله إن اللغة المبسطة للكتاب قد تكون أحد هذه الأسباب فهو كتاب موجه لتعليم التاريخ في الصفوف الثانوية. وقد حمل الكتاب في طبعته الأولى عنوان (العالم الراهن) حتى تم إعادة نشره عام 1978 ليحمل العنوان الحالي، ولم يكن التغيير من نصيب العنوان فقط، ولكن كانت هناك مراجعه شاملة للكتاب مع الأخذ بعين الاعتبار مستجدات الأحداث العالمية حينها، ليصبح بعد ذلك في متناول جمهور أوسع من القراء. ولعل أهم المسالك التي سلكها هذا الكتاب هو تناوله للتاريخ دون تعظيم من شأن حضارة على أخرى كما هو معهود في السابق، وهذا يفسر خلوه من اللغة الاستعلائية الغربية المعهودة. ويلخص كاتب المقال أفكار الكاتب في تناوله للحضارات بالآتي:

•  محدودية حرية الإنسان في صنع تاريخه.

•  قوة تأثير الجغرافيا وخاصة البحر.

•  اعتماده على مفهوم (المدى الطويل) للوقوف على معنى الأحداث والظواهر التاريخية العميقة وهو مفهوم مستوحى من الجغرافيا والماركسية.

•  ضرورة إجراء مقاربة بين اقتصاديات العالم ومفهوم (الاقتصاد – العالم).

•  أهمية التثاقف بين الحضارات.

 

وبهذا نجد أنّ التاريخ وسيرة الحضارات في هذا الكتاب لم يكن عن استعراض ما مرّ من حروب وحكام فقط وإنّما نجد أن العوامل البنيوية المهمشة كالجغرافيا والديموغرافيا والاقتصاد كان لها كلمة في صناعة ذلك التاريخ. فذلك أمر منطقي جداً حيث إن هذه العوامل المهملة كان لها دور بارز في صناعة التاريخ وكتابة سيرة الحضارات.

مكونات الأزمنة الثلاثة: الزمن الجغرافي – الزمن الاقتصادي/ الاجتماعي – الزمن السياسي

 

الزمن الجرافي:

يعتبر هذا الزمن ثابتا وشبه مستقر ويتضمن علاقة الشعوب بالبيئة المحيطة بها.

الزمن الاقتصادي/ الاجتماعي:

حركة هذا الزمن بطيئة وتعكس الفعل الضمني للشعوب وأثره وغالباً ما يكون أثراً عميقاً له جذور ضاربة ولكنه لا يظهر على السطح.

 

الزمن السياسي:

وهو يعبر عن التاريخ المتحرك الظاهر على السطح. ويعتبر الزمن السياسي وأحداثه ومفترقاته الكبيرة أثرا للفعل الاجتماعي الضمني الذي يظهر على بعد فترة طويلة من الزمن على هيئة أحداث متحركة ومشوقة ولها أثر غني على المستوى الإنساني.

 

مفهوم الحضارة عند بروديل

لعل كلمة الحضارة من الكلمات التي يصعب تعريفها لهذا نرى تعريفات متعددة لذات المفهوم، فلكل مفسر زاوية ينطلق منها ومن هنا نرى الخلط، كالذي حصل بين مفهوم الحضارة والثقافة. ورغم أنّ مفهوم الثقافة أقدم من مفهوم الحضارة من ناحية العمر إلا أنّ الخلط بينهما قد ورد في سياقات متعددة. فنرى الفليلسوف هيغل استعمل الكلمتين لتشيرا إلى الشيء نفسه دون تفريق بينهما، إلا أنّ الحاجة إلى فصلهما أصبح ضرورة لاحقاً. وسنرى أنّ الحضارة رغم احتوائها على عناصر مادية وأخرى أخلاقية وقيمية، فإنّ مفسريها غلّبوا الجانب المادي عليها ليطغى لاحقا عليها وتصبح هي مرادفة للإنجاز المادي والثقافة مرادفة للقيم الأخلاقية النبيلة. ونرى التفاوت في استخدام اللفظتين يختلف من حيز جغرافي لآخر، فنجد أنّ كلمة حضارة أكثر شيوعاً في إنجلترا وفرنسا والولايات المتحدة، بينما كلمة ثقافة أكثر استخداماً في ألمانيا وروسيا مثلاً. ويؤمن بروديل أنّ الحضارة لا يمكن تعريفها إلا بتظافر كل العلوم الإنسانية بما فيها التاريخ، فهو يربط مفهوم الحضارة بالرجوع إلى الجغرافيا وعلم الاجتماع وعلم النفس الاجتماعي والاقتصاد. فالحضارات تشكلت بفعل هذه المقومات ونجاحها أو إخفاقها يعود أيضا إلى هذه العوامل التي لا يجدر إهمالها. فالموقع الجغرافي مثلاً ساهم في نجاح بعض الحضارات وساهم أيضا في اضمحلال بعضها الآخر.

 

الحضارة والمجتمع

كما حدث الخلط بين الحضارة والثقافة حصل خلط آخر بين الحضارة والمجتمع ولكن على عكس التناقض الأول يأتي الاتفاق حد الترادف بين الحضارة والمجتمع. فالمجتمع لا يمكن فصله عن الحضارة ولا الحضارة يمكن فصلها عن المجتمع. يرى بروديل أنّ الحضارة تعني ضمنياً فضاءات كرونولوجية أكثر من أية طبيعة اجتماعية فهي أكثر تحركاً واستجابةً للعامل الزمني وسرعتها أكبر من المجتمعات التي تتكون منها وتحتويها. كما يشدد بروديل على أهمية العنصر البشري وعدده في صناعة ونهوض الحضارات، فكل زيادة في العدد يقابلها زيادة في الإنتاج والازدهار. أما في الجانب الاقتصادي وأثره على الحضارات فيرى بروديل أنّ الحالة الاقتصادية متقلبة وأنّه من المهم إنفاق الفوائض الاقتصادية كلما توفرت فهي القادرة على خلق متسع للفنون والترف الحضاري.

 

الأديان عند بروديل

يرى بروديل أن الدين المسيحي لازال حاضراً في المشهد الأوروبي رغم ما نشاهده من فصل ظاهري. فالدين صاغ الكثير من المواقف الأخلاقية كقيمة الحياة والموت وقيمة العمل ودور المرأة وغيرها. ولكنه في المقابل يرى أن سمة الحضارة الغربية هي ارتقاؤها الدائم نحو العقلانية فكانت في تطور دائم ولم تجمد عند الفكر الأغريقي أو المسيحي.

أما الإسلام فيرى بروديل أنّه لم ينفصل عن الحضارات التي سبقته بل إنّ إرث تلك الحضارات من عادات وطرق عيش استمر معه ولم يخرج عنها إلا بشكل يسير. ونظم العيش والتكوينات القبائلية هي التي ساندت الإسلام وساهمت في انتشاره بالغزوات.

أخبار ذات صلة