حوارات تعادي الصِّدام

عاطفة المسكريَّة

من يقف متأملا لهذا الزمان وما يحدث فيه من صراعات وصدامات بين كيانات مختلفة، يدرك أن الحوار بين هذه الأطراف قد يكون من أنجع الحلول لتخفيف وطأة هذه الفواجع الكونية التي تنخر في أحد أهم الأسس التي خُلق من أجلها الإنسان، ألا وهي إعمار الأرض.

يطرح عماد عبداللطيف أستاذ مساعد في البلاغة وتحليل الخطاب، هذه الفكرة ويناقشها في مقال "إستراتيجيات التعايش وكفاءة الحوار" -المنشور بمجلة "التفاهم"- حيث يوضح أهمية الحوار في العلاقات بين الدول. ولابد من التأكيد هنا على ما سبق، إضافة إلى أهمية وجود هذا العنصر من القاعدة الدنية في هرم العلاقات الاجتماعية وحتى القمة. فحتى في أعمق العلاقات كالعلاقات الأسرية مثلا: غياب الحوار فيها يعد مؤشرا على وجود مشكلة ما، أو احتمالية ظهورها مستقبلا.

وعلى العكس من ذلك، نجد الانسجام حاضرا في البيئة التي اعتاد أفرادها على الحوار؛ كونه يعطي مختلف الأطراف فرصة فهم الأمور واستيضاح ما هو مبهم، والأهم من كل ذلك رؤية الأمور من جانب آخر.. نستطيع تطبيق ذلك على الصورة الكبرى المتمثلة في العلاقات بين مختلف الحضارات والثقافات والدول. حيث إن الحوار يصبح حاجة أكثر إلحاحا كلما كانت العواقب الناتجة عن الصدامات أكبر. والذي يؤدي لهذه الصدامات غالبا هو الاختلافات التي من المفترض أن تكون مصدر غنى وإثراء كوني لتبادل المنافع، إلا أن الواقع يؤكد العكس من ذلك تماما؛ حيث يتم اتخاذ هذه الاختلافات كذريعة للخلاف والتناحر بين البشر؛ وبالتالي يصعب تحقيق التعاون والتعايش الذي ينبني أساسا على الحوار الذي أصبح غائبا بين الأطراف. ومن الأسباب الجديرة بالذكر في هذا السياق، أن غياب الحوار بين الأطراف -خاصة فيما يتعلق بالحوار بين الحضارات والثقافات- قد يكون بسبب التعالي الحضاري الذي يصيب البعض نتيجة التطور الذي ينعكس في نواح عديدة كالتقدم التكنولوجي والاكتشافات العلمية والتعليم والثقافة والفنون والتقدم العمراني...إلخ. ذلك قد يجعلهم يشعرون بالاكتفاء الذاتي وعدم الحاجة للتحاور أو التعامل مع الطرف الآخر، إلا أن الواقع يشير إلى حقيقة أنه مهما بلغ تطور حضارة ما وتقدمها، فإن العالم سريع التغيير في تكويناته وعناصره وأحداثه؛ مما يستدعي الحاجة الملحة لتبادل الخبرات واستغلال الاختلافات هذه وتسخيرها في سبيل تحقيق أقصى قدر ممكن من المصلحة المتبادلة، ولا يمكن تحقيق ذلك دون الحوار.

فتوجهت أنظار العالم نحو هذا الأمر، وتحديدا حول تنمية الحوار بين المشرق والمغرب "وقد حددت الأمم المتحدة عام 2001م عاما لحوار الحضارات، وعينت مندوبا متخصصا لهذا المنصب". ويمكننا الإشارة إلى الأهمية التي لعبتها المجتمعات الإسلامية في سبيل تحقيق ذلك، وذلك قد يكون لسبب كونهم من ضمن الأطراف الأكثر تضررا من الصدامات الناتجة عن الاختلاف في العقود الأخيرة. ناهيك عن سنوات العقد الأخير التي تصاعدت فيها التوترات بشكل مأساوي في المشرق العربي. حيث أشار عماد كذلك في مقاله حول الدور الذي قامت به مصر في خطواتها الأولى نحو التحاور بغض النظر عن عدم موافقة معظم الدول الإسلامية على ذلك، إضافة للمقاطعة التي حدثت بعد ذلك والتحليلات التي كانت تعارض هذه الخطوة التي صدرت من مصر. على كلٍّ، ومع التغييرات العالمية الحاصلة سياسيا ونداءات الحرية والديمقراطية التي تسود العالم من المتوقع أن تقود العالم نحو تبني الحوار كحل للأزمات الحاصلة فيه. أيضا لابد من ذكر نقطة مهمة ألا وهي أن العالم ينقسم بين شرق مسلم إذا تحدثنا بصورة عامة إضافة إلى الغرب الذي يشكل غالبية المسيح في العالم، إلا أنه من المفترض أن لا ننسى أنه في الغرب يوجد عدد لا بأس به من المسلمين واليهود كذلك. ومن الأساس، يصعب العثور على بقعة تتكون من أمة أتت من نفس الثقافة بكل أفرادها وبشكل تام. لذلك لا بد من الاعتراف بأن الاختلاف حقيقة كامنة في أبسط التفاصيل إذا ما جئنا ندقق كثيرا. ومن هذا المنطلق، نؤكد على ما ورد من فكرة أن الاختلاف لا يعني أن الآخر أقل منك مستوى، فالاختلاف يعني الاختلاف فقط لا يعني الدونية. فلنفترض أن بعض الحضارات أكثر تقدما من الأخرى والواقع يؤكد ذلك أساسا؛ حيث أسهمت عناصر التطور التكنولوجي والتعليم والاختراعات على ذلك، عموما هذا التقدم وهذه القوى التي اكتسبتها الحضارات على مدى عقود تلاشت في فترات لاحقة؛ حيث نعود لذكر نظرية ابن خلدون التي وصف فيها الدول والحضارات بالعناصر التي تمر بمراحل أشبه بالمراحل التي يمر فيها البشر من طفولة وفتوة انتهاء بالشيخوخة، أي أن القوي والغالب اليوم قد يكون مهزوما في الغد.

إذن؛ لا بد على الحضارات المتقدمة اليوم أن تنأى بنفسها عن الجدال؛ لأن الغاية منه عادة ما تكون الانتصار؛ وذلك يخلف طرفا خاسرا في الموضوع، والأجدر أن تتحاور في سبيل تحقيق أقصى قدر من التعاون. وفي هذا السياق، بإمكاننا تسليط الضوء على نظرية صدام الحضارات لصمويل هنتنجنتون الذي يشير إلى حدوث صراع وتصادم ما بين الحضارات من ضمنها حضارتا الإسلام والغرب. حيث إن الحضارة الإسلامية لا تزال طامحة، لكن بنموذج متفرد يختلف عن النموذج الغربي. من جهة أخرى، هناك العنصر الغربي الذي يصعب إنكار محاولاته في نشر ثقافته وقيم حضارته عالميا؛ فمن المعروف أن التشابه يجعل أمر السيطرة أكثر سهولة لدى من بيديه القوة والسلطة، ناهيك عما إذا كان الطرف القوي يؤمن بأن النمط الذي تشكلت على أساسه حضارته المزدهرة اليوم يعد من أكثر الأنماط نجاحا؛ لذلك يجب تطبيقه على الكل. وفي حال قوبلت هذه الدعوة بالرفض، فإن ذلك قد يخلق صدامات يصعب حلها إلا بالتحاور ومحاولة رؤية الأمور من منحى آخر.

أخبار ذات صلة