أخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية

منال المعمريَّة

في مقالهِ "ماكس فيبر: الدين وأخلاق العمل والرأسمالية" -والمنشور بمجلة "التفاهم"- يناقش الباحث اللبناني برّاق زكريا "البروتستانتية وروح الرأسمالية"، وهي أطروحة أعلنها ماكس فيبر سنة 1905، قدَّم من خلالها تصورا لتأثير السلوك الديني في بقية النشاطات الأخلاقية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية.

ماكس فيبر ينحدر من أسرة متدينة ذات نزعة بيروقراطية، أما اهتمامه الأكاديمي فتوزع على الاقتصاد والتاريخ والقانون وعلم الاجتماع، فضلا عن الفلسفة. وتعد دراسته "الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية" من الأعمال المؤسِّسة في علم الاجتماع الديني؛ وفحواها أن الأخلاق البروتستانتية -الكالڤينية بخاصة- كانت من أهم العناصر التي أسهمت إسهاما كبيرا في تطور الروح الرأسمالية الحديثة.

إذ إن تلك الأخلاق قد أنتجت قيمًا ومعايير شجَّعت على العمل الحر والتنسُّك والادخار، وبذلك خلقت مناخا ذهنيا خاصا ساعد بدوره على تطور "المشروع الاقتصادي الحر"، وبالتالي على نمو وتطور الرأسمالية الغربية. وقد اتخذ فيبر من دراسته هذه أساسا يدحض به -دونما قصد منه- نظرية كارل ماركس في أمر غلبة العنصر الاقتصادي وسيطرته على توجيه الفكر الديني والمشاعر الروحية. فقد كان ماركس ينظر إلى البروتستانتية بحسبانها أيديولوجيا الرأسمالية، ذاهبا إلى أن الظاهرة الدينية تعد ظلا للظاهرة الاقتصادية، وأن خاصية السلوك الديني تحددها الطبقة الاجتماعية التي تظهر في وسطها، مستبعدا العامل الديني من أن يكون ذا أثر في التغير الاجتماعي، ذاهبا إلى أن الملكية الفردية -وكذلك العلاقات الاقتصادية والصراعات الطبقية- كانت هي العامل المؤثر في تطور الجنس البشري؛ وبالتالي عقلنة الاقتصاد. أما ماكس فيبر، فعكس القضية، مقيما الحجة على أن الأخلاق "الكالڤينية خصوصا" هي التي أثرت أيما تأثير في الاقتصاد، بل في ظاهرة اقتصادية تعتبر قمة ما بلغه التفكير العقلاني الاقتصادي؛ الرأسمالية الغربية الحديثة.

فالبروتستانتية -حسب فيبر- في شقها الكالڤيني، هي مجموعة من الحوافز التي تدفع الإنسان إلى العمل والإنتاج، وتحصيل الثروة، والإسهام في زيادة ازدهار الحياة الاقتصادية، بل إنها تمنح المهنة قيمة أخلاقية كبرى، وتقدس العمل لدرجة أنها ترى في تأدية العمل بأمانة وحيوية وحماسة واجبا مقدسا، كما تعتبره سبيلا لتحقيق الخلاص الفردي. ويرى فيبر أن الكالڤينية فرضت تنظيما شديد الوطأة والقساوة للسلوك، وهي تمثل في منظوره أكثر أشكال الرقابة الكنسية على الفرد إزعاجا بالمطلق، ولكن على الرغم من ذلك فقد تحملت البلدان ذات الاقتصادات الأكثر تطورا هذه (الطهرية) المتزمتة! بل راحت تدافع عنها وتناصرها.

والطهرية هي المبدأ الذي تقوم عليه تعاليم اللاهوت الكالڤينية، والتي تحض المرء على التحكم في نزواته وشهواته، وتحثه على الزهد والتقشف، لكن ليس الزهد والتقشف السلبيين بمعنى اعتزال العالم والاعتكاف في صومعة والفرار من الحياة، وإنما التنسك في هذا العالم، والخوض في معترك الحياة، والنجاح في الحياة المهنية، وتحصيل الثروة، ومراكمة المال؛ استجابة لنداء رباني داخلي يشعر المرء تجاهه بواجب أخلاقي. وبذلك؛ غدت الثروة وفق تعاليم اللاهوت الكالڤيني مؤشرا للمرء على اصطفاء الله إياه؛ فالعمل الفعال تعبير عن مجد الله، وأمارة من أمارات الاصطفاء القائم على الحياة المعاشة بتقشف.

ومن هُنا، فلا بدع من أن تكون مثل هذه الروح التي أثمرت تلك الإنتاجية الكبرى في العمل بعيدا عن البذخ والترف، قد ولَّدت نمطا معيشيا أثر بصورة مباشرة في روح الرأسمالية بإيجاد مناخ مؤاتٍ لنموها وتطورها. ولهذا كله ينزع ماكس فيبر إلى أنه قد كان للسلوك التقشفي دور هام في صياغةٍ عقلانية للوجود بأسره منسوبة إلى مشيئة الله، كما أدى الضبط المستمر للنفس بصورة منهجية إلى عقلنة السلوك الفردي، وبهذا غدا الطُهري قادرا على الإسهام في تنظيم المؤسسات وبالتالي عقلنة الاقتصاد.

وبما أن الرأسمالية في الاقتصاد -برأي فيبر- كانت نتيجة العقلنة المتزايدة للحضارة الغربية منذ العهد اليوناني، فإنَّه يرى بأنها عقلنة نوعية، خاصة بالحضارة الغربية، على الرغم من أنه يُقر بأنه قد كان ثمة عناصر أولية أو جنينية للرأسمالية في المجتمعات القديمة (المجتمع البابلي والصيني...)، وهي عناصر تمثلت في التقنية والقانون العقليين، والكفاءة التي يتمتع بها الإنسان ليتبنى بعض أشكال السلوك العقلاني العملي، وكذلك القوى الدينية، ناهيك عن الأفكار الأخلاقية والقيمية المتعلقة بها والتي تكون السلوك. لكن فيبر يرى أن التنظيم العقلاني الرأسمالي الدقيق للعمل الحر، وفصل العمل المنزلي عن المؤسسة، والمحاسبة العقلانية، وتطور الملكيات القابلة للتبادل، والبورصة، هي أهم العناصر التي ميزت الرأسمالية الغربية الحديثة.

ومن خلال البحث الذي قدمه ماكس فيبر، يُمكن استظهار أن ثمة شوفينية غلابة تظهر على تفكيره، خاصة في جنوحه إلى القول بفرادة الحضارة الغربية ومركزيتها وتقدمها على سائر الحضارات الكونية الكبرى بما في ذلك الحضارة الإسلامية.

وفيما يتعلق بتصوره للعلاقة بين الإسلام والرأسمالية، ينزع فيبر إلى أن الطبيعة الوراثية للمؤسسات السياسية الإسلامية، قد حالت دون ظهور المقدمات الضرورية للرأسمالية، وبصورة خاصة: القانون العقلاني، والسوق الحرة، والاقتصاد النقدي، والطبقة البرجوازية والمدن المستقلة. ثم إن الإسلام لديه نقيض من جوانب عديدة للمذهب الطهري، خصوصا تجاه النساء والملكية والكماليات، وأنه في ظِل نظام الإقطاع الوقفي والبيروقراطية الإرثية -لا سيما في الدولة العباسية والمملوكية والعثمانية- لم يكن بالإمكان ظهور متطلبات العقلانية الممهدة للرأسمالية.

وهكذا، فإن محور تصور فيبر للمجتمع الإسلامي، يتمثل في المقابلة بين الطابع العقلاني والمنظَم للمجتمع الغربي، خاصة في ميدان القانون والعلوم والصناعة، وبين الأوضاع التعسفية، والاستبداد، واللاعقلانية، وعدم الاستقرار السياسي والاقتصادي في المجتمع الإسلامي. بيد أن فيبر لم يكن الوحيد في تصوره هذا للإسلام، فقد كانت وجهة النظر هذه هي السائدة لدى منظري الفكر السياسي والفلاسفة والاقتصاديين الكلاسيكيين في القرن التاسع عشر فيما يمس الفروقات بين المجتمعات الشرقية والغربية من حيث أنماط حياتها، ونظُمها السياسية، وطرائقها في التفكير والسلوك، إذ كانوا ينزعون إلى أن ثمة فروقات كبرى لا يمكن طمسها بين أوروبا الإقطاعية التي كانت تحمي حق الملكية وبين الاستبداد الشرقي، والنزعة الإرثية التعسفية التي مهدت لظهور ظروف اقتصادية جامدة حالت دون نمو الرأسمالية.

وبالرغم من الرواج والشهرة التي نالتها نظرية ماكس فيبر، إلا أنها واجهت بعض الانتقادات، موجزة كما يلي:

- نزوع فيبر إلى التعميم استنادا لعينات قليلة أو غير ممثلة.

- انطلاقه من أن الذهنية البروتستانتية هي المحرك الأساسي لنمو النظام الرأسمالي، ذاهلا عن أن ثمة عوامل أخرى ساعدت -إن لم تكن قد حركت- عجلة النمو الرأسمالية؛ مثل: تدفق المعادن والمواد الأولية والنقود، وتطور النظام المصرفي وما رافق ذلك من تطورات علمية وثقافية وتكنولوجية...إلخ.

- رأى البعض أن هذه الذهنية الاقتصادية كانت أقدم من الكالڤينية، وتمثلت بروح التمرد لدى الحرفيين في وجه استغلال الإقطاع والكنيسة والعمل الشاق؛ أي أنه يمكن النظر إليها كذهنية اقتصادية/ اجتماعية، ولا يشترط أن تكون ذهنية دينية أو خلقية فحسب.

- نبه بعضهم إلى أن الناس ليسوا بحاجة إلى نداء ديني للسعي وراء المال وتحصيل الثروة، إذ إنهم مجبولون على هذا. على أن فيبر قد أكد في أكثر من موضع أن القضية ليست تعطشا للثروة والكسب!

- لعل أشد ما يؤخذ على ماكس قوله بفرادة العقلانية الأوروبية وتعصبه للحضارة الغربية، وإيلاؤه للوراثة البيولوجية الدور الكبير في هذا المجال، كما لو أن العقلانية والنبوغ وما يرتبط بهما من سلوك اجتماعي واقتصادي، هي من خواص الإنسان الغربي يرثها أبا عن جد.

لقد حظيت هذه الأطروحة ببعض الترحيب من جانب علماء اللاهوت ومقارنة الأديان والسوسيولوجيين، مع أن كثيرا من سوء الفهم -كما اعترف فيبر نفسه- قد أحاط بدراسته هذه، بسبب الخلل الذي اعترى طرائقه في التعبير، والتدليل القاصر الذي اتخذ شكل البرنامج لا الدراسة التحليلية.

أخبار ذات صلة