«مَن يخاف من محمد؟»

0.jpg

لمارسيل هلسبس

سعيد الجريري *

"من يخاف من محمد؟".. صِيغة استفهامية قد توحي -من طرف ما- بأن الذات الخائفة المسؤول عنها -في العنوان- مقصودٌ بها الأوربيون، في سياق ما يُعرف بـ"الإسلاموفوبيا"، غير أن مضمون الكتاب يكشف عن منهجية المؤلف في قراءة المصادر الدينية والتاريخية نقدياً، متخذاً إياها مدخلاً لمساءلة الحاضر، ووقائعه، وتحدياته، لتحديد مكامن الخوف من الإسلام وعليه في آنٍ معاً، من خلال ما يثيره من تساؤلات، وما يقدمه من إجابات موجهة إلى المتلقي في أوروبا، لاسيما هولندا، حيث يمثل المسلمون -وأغلبهم من أصول تركية ومغربية وآسيوية- نسبة تقدر بـ5.5% من عدد السكان البالغ أكثر من 16 مليون نسمة، في مجتمع يقوم على قوانين التنوع والتعايش الآمن بين الثقافات.

ولا يخفي مؤلفُ الكتاب الهولندي مارسيل هلسبس إعجابه بشخصية النبي الرائعة والأكثر تنوعاً وإثارةً للاهتمام. ولعل كتابه هذا يندرج -إلى جانب سابقه "محمد وأصول الإسلام"، 2015- في سياق المساهمة الإيجابية المأمولة في الجدل الدائر حول الإسلام، من موقعه غير الطارئ على البحث في المجال الديني؛ فقد أصدر في العام 2006 كتاباً جدليًّا تضمن نظرة نقدية للكتاب المقدس، وحظي كتابه عن أصول الإسلام -الذي يترجم حالياً إلى الألمانية- باهتمام المتلقي، باعتباره قراءة جديدة في السيرة النبوية.

(1)

وينقسم الكتاب إلى عشرين فصلاً؛ اختار المؤلف لعنوان كل منها عتبة دالة من سوَر القرآن الكريم، كالفاتحة، الشعراء، النجم، الشورى، المائدة، النساء، البلَد، النحل، الأنعام، التوبة، المنافقون، المؤمنون والأحزاب، يستجلي من خلالها مداخل أولى إلى الإسلام: القرآن، النبي والشريعة، ثم يتبعها بموضوعات تتصدر الواجهة اليومية في العالم الإسلامي، مثل: الجهاد والإرهاب، الإساءة إلى النبي، الحدود، وضع المرأة، الحجاب، تعدد الزوجات، زواج المتعة وملك اليمين، جرائم الشرف والرق...إلخ؛ فيناقشها موصولةً بالتطورات الراهنة، والتصورات المرجعية، وما يصدر من تصريحات مثيرة للجدل. كما يصف أيضا كيف انضم المفكرون المسلمون في القرن التاسع عشر إلى النضال ضد الغرب أو التغريب، وكيف أدت دعوتهم تلك في نهاية المطاف إلى تعزيز فكر الجهادية، غير غافل في الوقت نفسه عن أدوار المفكرين المستنيرين الذين يسعون إلى تجديد الخطاب الديني.

 

(2)

ومما يثيره المؤلف، ويرى أهميته: إشكالية الدين واللغة؛ فلغة القرآن هي العربية؛ مما يعني أن للمسلم العربي درجة أو مَزية على غيره من المسلمين الناطقين باللغات الأخرى من جهة، وأنه من جهة أخرى أقرب إلى فهم النص القرآني وتفسيره، من حيث أن القرآن هو الكتاب الكامل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فهو تمثيل لكلمة الله الموحاة إلى النبي. ولفهم معنى النص العميق، فإن من المنطقي أن يكون المرء متمكناً من مهارات القراءة بالعربية؛ ذلك أن هناك كثيراً مما لا يدرك بالترجمة، فثمة آيات تتجلى فيها إشكالية التفسير والتأويل والاختلاف بين علماء الدين والعربية أنفسهم، ناهيك عن عامة المسلمين العرب، ومن باب أولى أن تكون مشكلة جداً إلى درجة الاستغلاق على المسلمين غير العرب، أو الأوروبيين العرب من الجيل الذي تتلاشى عربيته، ليغدوا منقادين لمذهب ديني ما، يؤول النص القرآني وفق مرجعياته، ويتم تصديره إلى الغرب باعتباره الإسلام، وليس هو سوى اتجاه واحد من اتجاهات تتنازع التأويل والنفوذ في العالم العربي والإسلامي الغارق في أزماته.

ولعل إشارة المؤلف إلى هذه الإشكالية تثير تساؤلات عن مدى فهم حقائق الدين، مادامت بضاعة المسلم الأعجمي اللغوية مزجاة، ويتلقى التعليمات من فئة معينة تدرك ما لا يدركه، وهو ما يبدو للمؤلف متناقضاً مع مقصدية كَون القرآن للبشرية جمعاء، فيما تقوم اللغة حاجزاً بينه وبين فهمه فهماً عميقا، خاصة وأن ما يجري الحديث عنه -كما يقول- هو "تفسير القرآن" لا الترجمة، مما يضفي على اللغة العربية قداسة ما، تكرس اتباعية التلقي؛ باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من الإسلام، بحيث لا يبدو غريباً حينئذٍ أن يزعم أي متشدد أن لا قيمة للصلاة إن لم تكن بالعربية.

 

(3)

هناك نقطة مهمة في الكتاب متعلقة باعتناق الإسلام في الغرب، فـ"أن يكون الشخص مسلماً أمر في غاية البساطة، فليس بالضرورة أن يكون لأبوين مسلمين مثلاً، أو يمارس طقوساً روحانية معينة، فكل ما عليه القيام به أولاً هو نطق الشهادتين باقتناع؛ فهو الركن الأول للإسلام. أما الأركان الأربعة الأخرى، فهي حول ما ينبغي أداؤه طوال الحياة". ويفرد المؤلف حيزاً للنظر إلى الصيام من زاوية ثقافية، فهو يشير -في نظره- إلى التشبث بالهوية؛ باعتبارها جزءاً من النسيج الثقافي للمجتمعات الإسلامية التي ينحدر منها المسلون ذوو الأصول غير الأوروبية، في حين أن هناك مسلمين غربيين يجدون الصيام صعباً جدًّا، ولا يؤدونه، وتعليل ذلك عنده بممارسة النسق الثقافي الإسلامي فاعليته في المجتمع الأوروبي بمعطيات اجتماعية.

 

(4)

وعادة ما ينظر إلى المسلم في الغرب باعتباره مهدداً للثقافة الغربية؛ فالشريعة الإسلامية ارتبطت بنظرة نمطية معينة. ولكن في الوقت نفسه، فإن المسلمين ينظرون إلى الغرب باعتباره مهدداً رئيساً للإسلام، ويعتقدون أن هناك تحالفاً غير مقدس، بين الحكومات والمنظمات الغربية وإسرائيل ووسائل الإعلام، بالتعاون مع القيادات العربية الفاسدة، من أجل إضعاف الإسلام. ويشير المؤلف هنا إلى أحد استطلاعات الرأي الذي أفرز أن  60% من المسلمين الأوروبيين (30% فقط في فرنسا)، يرون أن الشريعة أهم من القانون الوطني. مما يمكن عده مؤشراً على قلق أصولي من تهديد يطال القيم الإسلامية في الغرب. وهذا الشعور لا يسود بين عامة المسلمين فقط، ولكنه يمتد إلى فئة المنادين بإصلاح الخطاب الديني أيضاً، حتى ليبدو الوجود الغربي الحالي في المنطقة العربية في نظر الغالبية العظمى من المسلمين استمراراً للهيمنة الغربية؛ فهاجس الخطر الغربي، كما الإسلاموفوبيا، تغذيه أصوليات متوازية تستعيد معارك دينية استقرت في ذمة التاريخ.

 

(5)

ويقف المؤلف إزاء تيارين في العالم الإسلامي متضادين بالضرورة؛ أحدهما تيار الفتوى: شيعية كانت أم سنية، وهو داعم لأنظمة سياسية معينة ومدعوم من قبلها بقوة. أما التيار الآخر، فهو تيار المصلحين والمفكرين الإسلاميين الذين لهم إسهامات جادة، غير أنهم لا يحظون بدعم واسع أو شعبية، وتتسم جهودهم بالنخبوية غالباً، ولا نفوذ لهم يوازي ما تتميز به مؤسسات التيار الأول المهيمنة على تشكيل الوعي، عبر خطاب ديني يكرس الاتباعية وقيم السلفية في المجتمع الإسلامي المعاصر، وفق رؤية للتاريخ هي على العكس من الرؤية الغربية التي ترى أن الفصل بين الكنيسة والدولة شرط أساس للتطور علميا واقتصاديا وسياسيا واجتماعيا؛ إذ تقوم رؤيتهم على الاعتقاد بأن العكس تماماً هو سبيل الخلاص؛ فالعالم الإسلامي لن ينهض إلا عندما يستعيد مجده القديم، ويسود فيه الإيمان، وعندئذٍ فقط سيولد من جديد، وسيتفوق على الغرب الذي خلخلت العلمنة أسسه الأخلاقية، واستشرت فيه القيم المادية والانحطاط والإباحية والمخدرات.

 

(6)

ومن الموضوعات التي يرى أنها جديرة بالمساءلة في سياق الموقف من المرأة: ملك اليمين، والرق في الإسلام والعالم الإسلامي؛ فحقيقةَ أن للإسلام قيماً أخلاقية عليا، تقتضي أن يكون -من غير المنطقي- التناقض معها، بتبرير الانتهاكات المعاصرة بحق النساء غير المسلمات، خارج السياق التاريخي؛ فمسار تحقيق قيم الإسلام الكبرى تجاه الإنسان، من غاياته أن يفضي إلى إلغاء العبودية لغير الله، سواء للنساء بصيغة ملك اليمين، أم للرجال بصيغة العبيد. الأمر الذي يربك المسلم المستجد، كما يقول، ويداخل أزمنة متعددة في وعيه، حينما يجد تضارباً فقهياً بين من يقول بإمضاء أحكام معينة، وهم المتشددون، ومن يقول بتعطيلها وهم المعتدلون، داعين في الوقت نفسه إلى المقارنة بين الاسترقاق والقتل، في الحروب، وليس بين الاسترقاق والحرية. في حين يشكك أولئك وهؤلاء معاً في عقيدة من يقول بإلغائها انسجاماً مع ما أنجزه الإسلام من قيم حررت الإنسان من عبودية البشر.

ويلاحظ هلسبس على مرجعيات العالم الإسلامي الفقهية في هذا الاتجاه أنها لم تبادر إلى إجراءات إنسانية في هذا السياق، حتى تم تحريم الرق وتجارة العبيد بقرار من الأمم المتحدة عام 1948، ثم بدأت ظاهرة الاسترقاق، على أثره، تتلاشى تدريجياً، وإن بقي الملايين في أنحاء العالم يعيشون العبودية، كما في أفغانستان خاصةً، وباكستان وبنجلاديش وشمال إفريقيا؛ حيث لا يزال في موريتانيا مثلاً ما يقدر بنحو مائتي ألف عبدٍ وأمَة من مجموع سكانها البالغ 4 ملايين، أو كما في السعودية حيث يتم العمل بما يعرف بنظام "الكفيل" إلى الآن، دون أي مراجعة من المراكز الدينية. ويعلل المؤلف هذه الظاهرة بأن عدم وجود نص قطعي يمثل حجة قوية للإبقاء على هذه الممارسة التي لا يفهمها المسلم المعاصر، لاسيما في أوروبا إلا في سياق هاجس التآمر ضد الإسلام.

 

(7)

"لا إكراه في الدين".. مبدأ إسلامي يؤكد احترام حرية المعتقد واختياره، وسلمية التعايش بين الأديان والمتدينين، لكن كيف يجري تطويع النصوص لتسويغ عمليات العنف التي تستهدف الآخر المختلف؟ هذه مسألة إشكالية؛ فالجهاد مبدأ موازٍ أيضاً، لكنْ هناك اعتقاد بأن من يعلن الجهاد هو الخليفة المجمع عليه، بمعنى أنه لا يكون إلا باستعادة الخلافة. غير أن تلك الحركات تربط الأمر تماماً بفكرة أن الإسلام يتعرض اليوم لتهديد خطير، يقتضي الجهاد. وفي سبيل فهم كيف يمكن أن يحدث، فثمة حاجة -كما يقول- للعودة بضعة قرون إلى الوراء، عندما واجه العثمانيون المد الغربي في القرنين الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين بفكرة العودة إلى أيام المجد الإسلامي، وإحياء الخلافة التي ما لبث أن ألغاها كمال أتاتورك، فوُوْجه بفكر أصولي يرفض التأثيرات الغربية كلها، ويدعو إلى العودة للإسلام الصحيح (أبو الأعلى المودودي، حسن البنا، سيد قطب...)، ومناهضة اتجاه الاشتراكية العربية (مصر وسوريا مثالاً)، وما ترتب عليها من مواجهات قاسية، وتصفيات دموية، أعقبتها موجات جهادية شكلت روافد جديدة لمكافحة النفوذ الغربي في المنطقة، بمرجعية مذهبية محافظة اتسعت خارطتها من حركة طالبان شرقاً إلى قاعدة جزيرة العرب وشمال إفريقيا، وصولاً إلى داعش ومجاوراتها ذات المرجعية الأصولية الواحدة العابرة للحدود، والتي تم توظيف آلياتها في خضم الأحداث والثورات والحروب التي عصفت بالمنطقة، وكان معظم ضحاياها من العرب والمسلمين تحديداً، ثم ازدادت حدةً في أتون الشحن الطائفي السني-الشيعي. إلا أن المؤلف يبدي تفاؤلاً بأن حالة من التوازن سوف تعقب هذا التوتر والعنف المتبادل، فقد حان الوقت لإعادة تقييم المصادر ونقدها، وإصلاح الخطاب الديني.

 

(8)

السمة العامة للكتاب أنه يعبر في مجمله عن رأي نقدي موضوعي إلى حد ما، وفق تصور يقوم على فرضية أن الإسلام يواجه في اللحظة الراهنة أزمة عميقة بعد قرون مجيدة من النجاحات. لذلك؛ يدعو المؤلف إلى إعادة قراءة النص وتفسيره وتأويله؛ بحيث يكون صالحاً لكل زمان ومكان كما هو في الأصل. غير أنه يستدرك بأن من يجرؤ ويريد السير في هذا النهج يجب أن يكون قادراً على أن يتحدث، ويناقش، ويؤلف، ويفكر بحرية، دون الحاجة للأمان على حياته خارج العالم الإسلامي؛ لذلك فهو يزعم أن الإسلام ليس مهدداً من الخارج، ولكن الخطر الأكبر عليه من الداخل، من المسلمين أنفسهم، كلما هيمنت في مجتمعاتهم ذهنية الخوف من التنوع والاختلاف والحوار والقبول بالآخر، بدعوى إضعاف الإيمان والتشكيك في المسار التاريخي للإسلام، وهو تحد ماثل لا بد للمسلمين عامةً من مواجهته، بموازاة تحد آخر ينبغي للمسلمين -في هولندا خاصة- أن يصيغوا إجاباته عاجلاً أم آجلاً، في ظل ما لديهم من امتياز العيش بثقافتين، الذي لا يمكنهم، بسهولة، من تحديد الخيارات الواعية أو القناعات الحرة، بعيداً عن تجاذبات الهوية والازدواج الثقافي. غير أن ما يؤخذ على المؤلف أنه أقام فرضية كتابه على تصور يقلل من خطورة العوامل الخارجية وأهميتها، وهي ماثلة وفاعلة بقوة، وليست بخافية على المتابع العام ناهيك عن باحث مثله في الوقائع والمصائر.

-------------------------------

- الكتاب: "مَن يخاف من محمد؟.. كل ما تريد معرفته عن الإسلام".

- المؤلف: مارسيل هلسبس.

- الناشر: مكتبة أثنيوم ـ أمستردام، 2016، بالهولندية.

- عدد الصفحات: 213 صفحة.

* كاتب عربي مقيم في هولندا

أخبار ذات صلة