لنيكولاي ستاريكوف
فيكتوريا زاريتوفسكايا*
"المُعتدي دائماً مُحب للسلام" بهذه المقولة التي تعود إلى كارل فون كلاوزفيتز (1780 – 1831، وهو قائد عسكري ومنظر ومؤرخ حربي بروسي، التحق بالخدمة في الجيش الروسي بعد هزيمة بروسيا من قبل نابليون، ويُعتبر كتابه "عن الحرب" من كلاسيكيات الفكر العسكري) بهذه المقولة المُحيرة ظاهريًا، يبدأ الصحفي والسياسي الروسي المعروف نيكولاي ستاريكوف كتابه الجديد "حرب بالوكالة". أما الفحوى التي تضمنتها المقولة فهي أنّ الحرب لا تقوم لذاتها، فغرضها الاستيلاء على كل ما يُمكن الاستيلاء عليه، ومن مصلحة المُعتدي الحصول على ما يُريده بأقصر الطرق وبلا احتراب مع أحد، كما يفضل الدخول إلى البلاد الأخرى من غير مقاومة أو إراقة دماء. في هذا السياق الفكري الذي تتعدد مشاربه وتمتد أفرعه إلى السياسة والاقتصاد والثقافة، يتفرغ ستاريكوف لبحثه الجديد.
لا يناقش هذا الكتاب مُفردات الحرب كالقتال وتنفيذ الهجمات وتكبد الخسائر بشكلها التقليدي، فحينما يدور النقاش عن صراع القوى الكبرى، فإن وتر التنافس بمفهومه الكلي هو الذي يكون مشدودا ومسيطرا. بل كلما زاد وطيس المواجهة التنافسية في هذا النوع من الصراعات كلما قلَّت فرص المواجهة المباشرة بين أطرافه وازدادت ندرة. فإذا ما طفح الكيل بين المتنافسين ورشحت الرغبة في التصادم ونشب المخالب، يوكل ذلك إلى أيد وسيطة تقوم بدور الوكيل الحربي. يقول ستاريكوف: "الحرب مطلقة. ولم يعرف التاريخ لحظة توقفت فيها الحرب. والفكرة الحمقاء القائلة بنهاية التاريخ والتي أطلقها موظف وزارة الخارجية الأمريكية فرانسيس فوكوياما، لم تتحقق ولن تتحقق أبدا، أما الأعمال العسكرية فهي جزء ضئيل مرئي من جبل الجليد. وحينما لا تطلق المدفعيات مقذوفاتها، تأتينا القذائف من الإرهابيين، وعندما يركن الجنرالات إلى الصمت يتحدث الاقتصاديون ورجال الأمن ويتناقشون من أجل الحصول على أدوات لخلق الأيدي التي تحقق أهداف ساسة بلدانهم" (ص 11-10). ويعد هذا الإجراء الذي يتحكم بالهيئات والمنظمات الدولية ويدفعها إلى العمل لمصلحة دولة بعينها، فيما تظن (أي المنظمات الدولية) أنها تؤدي وظيفتها وتعمل وفق القواعد والشروط التي تأسست عليها، يعد ذلك من أرفع فنون السياسة الدولية.
يحلل المؤلف أحداث التاريخ العالمي التي تم فيها تطبيق آلية الاستعانة بوكلاء خارجيين، وأفرد لذلك فصولا من كتابه جاءت تحت عناوين موحية وهي من قبيل: "عن جمهورية تكساس والانفصاليين البلجيكيين"، "أدولف هتلر بصفته أداة للسياسات الخارجية"، "كيف ناضل المجريون من أجل قناة السويس وهم يجهلون ذلك"، "كيف أصبحت بولندا حليفا لهتلر وما ترتب عن ذلك"، "كيف عمل الاتحاد السوفياتي بالوكالة"، "فهم ستالين وكيف ساعد لندن في قتالها ضد هتلر".
ومن غير اكتراث بالتسلسل الزمني للأحداث، شكل المؤلف حلقات وصل بين أحداث تاريخية معروفة وأخرى تجري في حاضر أيامنا، لا سيما في أوكرانيا وبعض مناطق الصراع في الشرق الأوسط كليبيا وسوريا.
حظيت أزمة أوكرانيا التي اندلعت عام 2014 بالاهتمام الأكبر من المؤلف. ومن بين المقاربات التي استخدمها لوصف الأحداث هناك، مقارنته بين الأزمة الأوكرانية وظروف تشكل الولايات المتحدة وانفصالها عن التاج البريطاني. يقول في ذلك: "من وجهة نظر القانون الدولي فإن ممارسات سكان مدينة دونباس الأوكرانية عام 2014 أكثر شرعية من ثورة أتباع الملك جورج الثالث. لماذا؟ لأنّ الانقلاب الذي حدث في العاصمة كييف في فبراير من عام 2014 ما هو إلا انتهاك صارخ لدستور البلاد، كما أن تعيين الحكومة الجديدة تجاوز سافر لقانونها الأساسي واغتصاب علني للسلطة. لم تكن ثمة شرعية لحكومة كييف الجديدة وعدم الخضوع لها كان حقا لسكان دونباس. أما ما يتعلق بثورة سكان المستعمرات البريطانية قبل قرون ضد الملك الشرعي فهي باطلة إذ لم يشك أحد في شرعية اعتلاء الملك العرش البريطاني. في مدينتي دونيتسك ولوهانسك الأوكرانيتين انتفض الناس ضد المغتصبين وفي أمريكا ضد السلطة الشرعية. الانتفاضة في أمريكا تعود إلى أسباب اقتصادية بحتة، ولم يقم أحد بمنع الناس من التحدث والكتابة باللغة الإنجليزية (كما حدث في أوكرانيا من اتخاذ إجراءات لمحاربة اللغة الروسية). لم يُطح برئيس البلاد الشرعي (كما جرى في أوكرانيا) لجر البلاد إلى حرب أهلية. ما حدث هو قيام مستوطنو المستعمرات بإطاحة سلطة جورج الثالث وقضي الأمر بذلك" (ص 16-17).
وفي تحليله لمسار التاريخ العالمي يشير الباحث مرارا وتكرارا إلى تواريخ أحداث كبرى وقعت في مختلف القارات وتبدو من الوهلة الأولى مستقلة عن بعضها البعض، غير أن الكاتب يجمعها في حزمة متشابكة من المكائد السياسية. يقول في هذا الصدد: "إن تدبير المآزق للعدو وإحاطته بالمشاكل عن طريق أيد أخرى لهي وسيلة من أكثر الوسائل رواجًا في السياسة العالمية. إن القائد الذكي يلجأ إلى استنزاف طاقة العدو ويجد مصالحه في حياكة المؤامرات في البلدان المجاورة لعدوه. أفضل مثال (تاريخي) على ذلك سياسة الإمبراطورة الروسية إكاتيرين الثانية. ولنسأل أنفسنا، متى انتهت حرب استقلال الولايات المتحدة؟ في عام 1783. ومتى ضمت إكاتيرين شبه جزيرة القرم إلى روسيا؟ في عام 1783.هل حدث ذلك صدفة؟ قطعاً لا. ففي تلك اللحظة، عندما كانت الدول العظمى تتصارع فيما بينها ولم تستطع مساعدة الأتراك ضد روسيا، قررت الإمبراطورة ضم القرم إلى بلادها" (ص 19). الأمر شبيه لما جرى عام 2014 حين لم تتوان روسيا في اهتبال الفرصة التاريخية لاستعادة ما فقدته من قبل، أي شبه جزيرة القرم. وبرأي المؤلف أن أمرا مثل هذا لم يكن ليحدث لو أن الرئيس الشرعي يانوكوفيتش ظل على رأس حكومة كييف، وبأن الاستفتاء بانفصال القرم لم يكن ليتم ولا كان لروسيا أن تجد مدخلا واحدا لإلحاق شبه جزيرة القرم إلى خارطتها لولا انقلاب كييف. والحال كذلك فإن المُحصلة النهائية لهذا تفيد أن شبه جزيرة القرم عادت إلى روسيا بأيدي الآخرين: وزارة الخارجية الأمريكية والمتطرفون الأوكرانيون. أليس هذا هو فن السياسة بعينه؟
المثال الآخر للحرب بالوكالة يأتي به الكاتب من أحداث ثورة المجر وأزمة قناة السويس عام 1956؛ الحدثان اللذان كانا يتطوران جنبا إلى جنب ويوما بيوم. برأي المؤلف فإن انتفاضة بودابست التي انطلقت عام 1956 ضد القوات السوفيتية لم تكن أكثر من ستار غربي لأجل الاستيلاء على قناة السويس. يقول الباحث: "كانت الحاجة تدعو لإثارة التمرد في بودابست ووضع الاتحاد السوفيتي في حالة حرب حتى لا يكون بمقدوره الرد على الغزو الغربي لمصر" (ص 131).
يقترب المؤلف من معظم الأحداث التاريخية الغامضة للقرن العشرين، وهي أحداث لا يمكن إخضاعها لشرح منطقي إلا بقبول نظرية الأيدي الخارجية في السياسة العالمية. ومن أهم الأحداث التاريخية للقرن الماضي هجوم هتلر شبه الانتحاري على الاتحاد السوفيتي، وهو الهجوم الذي رسم بداية نهايته وردم كل نجاحاته السابقة. ولمناقشة هذا المفصل التاريخي، خصص الكاتب فصولا عدة من كتابه، ورسم صورة واسعة للأحداث العالمية قبل الهجوم الألماني على الاتحاد السوفياتي. وفي الخلاصة وجد أن السبب الرئيس الذي دفع هتلر لفتح الجبهة الشرقية ضد الاتحاد السوفيتي هو انفلات الوضع وخروج ألمانيا من سيطرة الغرب. كان هتلر يتأهب لغزو الشرق الأوسط لسد حاجته من النفط والموارد الأخرى، بيد أن عملية من تلك النوع، أي وصول القوات الألمانية إلى العراق وإيران والهند كان يعني انقطاع النفط ومشتقاته عن بريطانيا، وهذا ما لم يكن الغرب، ممثلا في بريطانيا العظمى، مستعدا لمواجهته. وقد استخدمت شتى الطرق لتجنب ذلك السيناريو وتم الضغط على هتلر بالعدول عن فكرة إرسال قواته للشرق الأوسط وإغرائه بالجمهوريات السوفيتية الأقرب جغرافيا والغنية بالنفط.
ومرة أخرى يعود ستاريكوف إلى عقد مقارناته بين الأحداث التاريخية وما يجري اليوم على الساحة الدولية فيربط بين انبعاث النازية في ألمانيا والأحداث الأوكرانية الأخيرة. يقول: "هل من عاقل يصدق أن بلدان الديموقراطية الغربية كانت غافلة عن غرابة الحملة الألمانية الانتخابية التي اعتقل وضرب وقتل فيها ممثلو الأحزاب البرلمانية، بينما حزب واحد بعينه ظل الطريق ممهدا أمامه للبروز وللاستحواذ الإعلامي المطلق. هذا السيناريو نفسه، وبنفس ردة الفعل المتعامية من قبل المؤسسات الغربية، تكرر في أوكرانيا عام 2014" (ص 75).
يخصص الكاتب فصلا مستقلا من كتابه لسياسة الاتحاد السوفياتي في اعتمادها على أيدي الآخرين كاستخدامها لمخابرات ألمانيا الشرقية "شتازي" التي نسقت أنشطتها مع الرفاق في الاتحاد السوفيتي، ليس فقط في القارة الأوروبية ولكن أيضا في اليمن وفلسطين حيث كان عملاء "شتازي" يطاردون خصوم الحلفاء. ويقدم المؤلف تقييمًا عالياً لجودة نشاط تلك الوكالات الاستخبارية، كما ويحتد حينما يأتي على ذكر خيانتها وخيانة الزعيم السابق لجمهورية ألمانيا الديمقراطية إريش هونيكر لميخائيل غورباتشوف آخر رئيس سوفيتي.
وفيما يتعلق بصورة أوروبا اليوم وسياسة الأيدي الخارجية التي تنتهجها الولايات المتحدة حيال البلدان الأوروبية يرى المؤلف أن الحرب بالوكالة هناك، أي في أوروبا، تشير إليها سلسلة الأعمال الإرهابية التي لا يبدو أن نهايتها وشيكة. يعلق حول ذلك قائلاً: "لقد تم إدخال مليون لاجئ دفعة واحدة إلى المجتمع الأوروبي الصغير. دخلوا بلا وثائق وبلا اختيار وبدون حاجة ماسة إليهم. ولا يمكن للحجة التي تستند إلى أن نظام الأسد الدموي هو السبب أن تصمد أمام أي نقد، فمن ضمن اللاجئين ثمة مئات الآلاف من الأفغان والباكستانيين ومهاجرين من المغرب وبلدان إفريقية أخرى ممن لا شأن لبشار الأسد بهم ليقتلهم ويعاقبهم. أما الدافع إلى هذه الإجراءات التي لا تنتهك قوانين الاتحاد الأوروبي وحسب، وإنما أيضاً تنافي أي منطق سليم، فيعود إلى الضغوط التي تستخدمها الولايات المتحدة على أوروبا التي تريدها خادماً طيعًا لا حليفاً قويًا. إذن فالضغط الداخلي الذي تواجهه أوروبا أمر مصطنع يدفعها لتكون أكثر اعتمادا على الولايات المتحدة، وأية محاولة للعب الانفرادي منها وإبراز الشخصية الاستقلالية فيواجه فورا بالهجمات الإرهابية في عواصمها" (ص 193).
يثير المؤلف - من بين ما يثيره من قضايا داخلية ارتبطت بفترة الاتحاد السوفيتي وروسيا الجديدة - مسألة تتعلق بقصور النظر من قبل بعض الرؤساء فيما يتعلق بنقد الذات والاعتراف بالخطيئة. فبرأيه أن أسوأ ما يمكن أن يرتكبه رئيس دولة ما هو الاعتراف بأخطاء سابقيه وطلب الصفح عما وقع، وهو الأمر الذي حدث أكثر من مرة في تاريخ الاتحاد السوفيتي وروسيا الجديدة. يقول المؤلف: "الاعتراف بالخطأ وطلب الصفح عنه أمر جيد بالنسبة للأفراد من العامة، أما بالنسبة للدولة فالاعتراف بالخطأ يعد ضربة كبيرة لوضعها ومثلبة يستفيد منها منافسوها. ولهذا السبب لا يجاهر القادة الغربيون بخطايا بلدانهم (...) سوف لن تعتذر الولايات المتحدة عن إسقاط القنابل الذرية على هيروشيما وناجازاكي في اليابان كما لن يطلب اليابانيون الصفح عن عملية بيرل هاربر (...) أما اتهامات خروتشوف لستالين فقد أشعلت فتيل الاضطرابات المجرية عام 1956 والتي تلتها عواقب لا عودة منها. لقد أسس هجوم خروتشوف لسلفه المنطق التالي: ستالين الذي كان رئيساً للاتحاد السوفيتي مجرم، إذن فكل الذين أدينوا من قِبله، ضحايا أبرياء، وإذن فالدولة التي يرأسها مجرم لا يمكن أن تكون هي الدولة التي خلصت العالم من النازية. فليسقط المجرمون (ومن معهم) إذن!" (ص 146-147). وبهذا أعطى الرئيس السوفيتي مبررا لأعداء بلاده للنيل من عساكره في المجر، ففي السياسة لا وجود لمذبح تُهرق فيه الخطايا ويقدم صكوك الغفران.
-----------------------------------------
الكتاب: حرب بالوكالة.
المؤلف: نيكولاي ستاريكوف.
الناشر: إكسيمو/ موسكو 2017.
اللغة: الروسية.
عدد الصفحات: 352 صفحة.
*أكاديمية ومستعربة روسية
