القيصر والسلطان: الإمبراطورية العثمانية بعيون روسية

Picture1.png

لفيكتور تاكي

أحمد م الرحبي*

 خاضت روسيا وعلى مدى تاريخ طويل حروبًا مع تركيا أكثر من أية دولة أخرى. وإذا استثنينا الحروب (التي هي لقاء في نهاية المطاف وإن كان بشكل عنيف) التي تقدر بحرب واحدة كل 15 – 30 عاماً منذ نهاية القرن السابع عشر، فقد تنوعت الاتصالات بين البلدين ومنها تبادل السفراء والبعثات العلمية والرحلات الاستطلاعية. هذه العلاقة المشتعلة مردها طموح الإمبراطورية الروسية الصاعدة لمنافسة الإمبراطوريتين المهيمنتين في ذلك الوقت: العثمانية والنمساوية وأيضًا لمُثابرة الدولة العثمانية في الحد من التقدم الروسي ومحاولة التحكم بضبط واحتواء العلاقة معها.

 ثمة شواهد كثيرة تتناثر في صفحة التاريخ تشير إلى الندية التي طبعت العلاقة بين تركيا وروسيا، حيث كل خطوة يقوم بها أي من الطرفين تجاه الآخر تتضمن رغبة أو محاولة منه لكسب نقاط قوة على حساب الطرف الآخر، حتى وإن توشحت بمظاهر الصداقة مثل إقامة أول سفارة روسية في القسطنطينية التي تُحسب كخطوة روسية رمزية لاستعراض مكانتها بين القوتين الكبريين آنذاك، والدليل أن تمثيلها الدبلوماسي ذاك ظل منصة لخلافات متكررة وقد حفظ التاريخ الكثير من تفاصيل تلك الخلافات ومآلاتها.

 ثمة أيضًا الغارات التي كان يشنها تتار القرم (وهم من القومية التركية) على الأراضي الروسية وإيقاع الأسر بسكانها ومن ثم بيعهم للدولة العثمانية بما عرف بالرقيق الأبيض أو السلجوقي (أي السلافي)، وكان البعض منهم يتمكنون من الفرار والعودة إلى ديارهم وفي جعبتهم قصص ومشاهدات عن الحياة في الدولة العثمانية ما شكل مصدرًا من مصادر تاريخ العلاقة التركية الروسية، فضلاً عن ستة حروب خاضها الطرفان فيما بينهما من القرن الثامن عشر وحتى القرن التاسع عشر، حيث أفاد الضباط الروس من تلك المواجهات واكتسبوا خبرة عن الإستراتيجية الحربية عند الأتراك.

 استنادا إلى هذه المصادر والمراجع التي احتوتها يوميات ومذكرات العسكر المنخرطين في الحملات الروسية على تركيا، والقصص المنشورة للأسرى العائدين، والمراسلات الدبلوماسية، وأوصاف الرحلات الاستكشافية وغيرها من الرحلات، يحلل فيكتور تاكي، عضو مركز البحوث التاريخية في المدرسة الروسية العليا للاقتصاد، صورة تركيا في عين غريمها الروسي.

 تعد هذه الدراسة أول محاولة منهجية من نوعها لوصف تاريخ العلاقات الروسية التركية منذ بدء التبادل الدبلوماسي بين البلدين في أواخر القرن الخامس عشر وحتى حرب القرم (1853 - 1856) التي تغيرت بعدها طبيعة التوترات الجيوسياسية في المنطقة، حيث وجدت روسيا نفسها، وبعد أن كانت تقيم توزناتها الثقافية والهوياتية باعتبارها جزءًا من العالم الأوربي المتحضر، وجدت نفسها في مواجهة تحالف أوروبي قام ضدها. ويبين المؤلف مدى التطور الذي خضعت له خلال هذه الفترة التاريخية فكرة الروس عن الإمبراطورية العثمانية جنباً إلى جنب مع تعقد علاقتها (أي روسيا) مع أوروبا. اختصارا فقد بدأت روسيا تعي ذاتها وتتلمس ثقافتها القومية لحظة وقوعها بين الحضارة الشرقية ممثلة بتركيا والحضارة الغربية التي تمثلها أوروبا، وما تمخض عن ذلك من إعادة تشكل الهوية الروسية الحديثة.

 في الفصل الأول "على عتبة السعادة" يسرد الباحث الجانب الثقافي من العلاقات الدبلوماسية بين روسيا والدولة العثمانية. ومن الأشياء التي حملت دلالة خاصة في هذا السياق أنه، ومنذ أول اتصال رسمي بين البلدين في أواخر القرن الخامس عشر، كان الحكام الروس وممثلوهم يضعون أنفسهم في مكانة متساوية مع السلاطين الشرقيين، على خلاف البروتوكول العثماني الذي يُنكر مبدأ المعاملة بالمثل والمساواة في العلاقات مع القوى السياسية الأخرى، وقد أسفر هذا التناقض الثقافي عن مواقف وصلت إلى حد الابتذال ومنها ما أورده الكاتب عن حضور السفير الروسي مينشيكوف لاجتماع في الديوان العثماني. يقول عن ذلك: "كانت فضيحة جديدة تمثلت في زيارة مينشيكوف لاجتماع الديوان السلطاني وكان يرأسه في تلك المرة السلطان عبد المجيد نفسه. فحينما اقترب مينشيكوف من مدخل القاعة وجد أنَّه قد تمت إعادة بنائه ووضع بطريقة تجبر رجلاً طويل القامة كمينشيكوف على الانحناء للسلطان ووزرائه. وقد تدبَّر مينشيكوف مخرجًا سريعاً من هذا المأزق وحزم أمره على عدم الامتثال لما دبر له. أدار ظهره إلى الباب وأحنى ركبتيه وكأنه يربض عليهما ودخل إلى الاجتماع" (ص 29). وتجدر الإشارة هنا إلى أن المؤرخين أجمعوا على إدانة السلوكيات الاستفزازية للجنرال مينشيكوف، مبعوث القيصر الروسي نيكولاي الأول، إذ ساهمت برأيهم في تفكك العلاقات الروسية التركية واندلاع حرب القرم.

 في الفصل الثاني "حكايات من الأسر" يجمع الباحث ويحلل أبرز السرودات حول عمليات الأسر العثماني التي وصلتنا عبر التاريخ. بادئ ذي بدء يقوم المؤلف بسرد تقاليد الأسر في تركيا والتغيرات التي واكبتها عبر التاريخ. وقد قصد المؤلف هذه المتابعة التاريخية كمقدمة لقراءة ظاهرة برزت في المجتمع الروسي منذ بداية تماسه مع تركيا. فالأسرى الروس الذين أفلتوا من الأسر التركي وعادوا إلى بلادهم رجعوا محملين بقصص وحكايات ما لبثت أن غدت الشغل الشاغل للشارع الروسي، ومع الوقت تحولت حالة الأسرى وقصصهم إلى ظاهرة أقلقت الكنيسة وأثارت شكوك رجال الدين في أولئك الهاربين خشية أن يكونوا قد اعتنقوا الإسلام سرا وبأن وجودهم بين المسيحيين البسطاء سيؤثر في عقيدتهم. بيد أن هذه النظرة المهجوسة بالدين تجاه الأسرى العائدين ما لبثت أن تغيرت حينما استبدل المجتمع الروسي كسوة الكهنوت بقبعة العلمانية في القرن الثامن عشر، فتحولت النظرة إلى الأسرى الهاربين من الريبة إلى الشفقة.

 في الفصل الثالث من الكتاب الذي جاء تحت عنوان "الحملات التركية"، وبناء على التجارب الحية لضباط الجيش الروسي في حروبهم مع تركيا، يستعرض المؤلف ويدرس دور تلك التجارب في تشكيل رؤية الضباط الروس والأحداث التي اختبروها باحتكاكهم بالأتراك. ويرى المؤلف أن نبرة القادة الروس في تلك الفترة لم تخل من التباهي والتفوق الحضاري، فالعساكر الروس محسوبون من ضمن الجيوش الأوروبية التي تتمتع بإعداد عال وإتقان للفنون العسكرية فيما يقاتل العثمانيون باندفاع وعشوائية. وهكذا ووفقاً لما ورد في كتاب بعنوان "الاستعراض العسكري للإمبراطورية التركية" وضعه قائد المدفعية الروسية أندريه بوشكين عشية الحرب الروسية التركية (1828-1829) نقرأ الآتي: "غالبا ما يبدي الأتراك شجاعة كبيرة في بداية المناوشات العسكرية، وهم يحملون على الدوام الكثير من اللافتات والرموز ويملأون الأرض ضجيجاً. مع ذلك، تجد أن الشعور بالعار سرعان ما يقع في قلوبهم عند أول خسارة يتكبدونها، ثم فجأة تراهم يغرقون في الفوضى ويسرعون في التقهقر تماماً مثلما تسرعوا في الهجوم" (ص 131). وبرأي هذا القائد فإن نكوص الأتراك عن ميدان المعركة ليس إلا نتيجة للعشوائية التي تطبع هجماتهم والتي غالبًا ما تتم من غير إحاطة بالتضاريس ومواقع العدو. وبذلك فالصيغة المثلى للتفوق على العثمانيين في ميدان المعركة هي مزيج من الصمود والمثابرة عند أول صدام معهم. ويكشف هذا الفصل من الكتاب عن خصوصية التجربة التي خاضتها الجيوش الروسية في لقائها مع الجيوش العثمانية، كما يحيط بالقضايا اللوجستية والمناخية وغيرها من الصعوبات التي واجهتها.

 في فصل "شعوب الإمبراطورية" يلقي المؤلف الضوء على الشعوب التي عاشت في ظل الحكم العثماني كالبلغار والصرب واليونانيين والرومانيين وكيفية تعاطي هذه الشعوب مع حكم الباب العالي ومدى خنوعهم له أو انتفاضهم عليه. إلى جانب هذا يصوغ المؤلف السؤال الذي طالما شغل الروس حول هذه الشعوب اللاتينية والسلافية وحول ارتباطهم بأعراقهم الأصلية ورغبتهم في ترميم هويتهم وبناء مستقبلهم.

 إن أوثق وأعمق ارتباط ثقافي بين روسيا وأوروبا هو انجذاب الروس للعصر الهلنستي، وقد تجلى ارتباطهم وانجذابهم ذاك بتشجيع الهجرة اليونانية إلى روسيا ودعم العلاقات مع اليونانيين العثمانيين، فضلا عن فكرة استمرارية الإمبراطورية البيزنطية من خلال موسكو وحلم الإمبراطورة الروسية إكاتيرين الثانية في إحياء الإمبراطورية الرومانية تحت راية حفيدها الثاني قسطنطين. بيد أنَّ المؤلف لا يكتفي بسرد هذه الرؤى الطوباوية وإنما يأخذنا إلى حقائق تاريخية وميدانية أظهرت التركيبة المعقدة للدولة العثمانية وعلاقاتها من الشعوب التي هيمنت عليها. فحسب مذكرات ومراسلات العساكر الروس يمكن استبيان قوة التحالف أو الارتهان الذي عقده الباب العالي بالنخبة اليونانية، فها هو قائد الأسطول الروسي الأمير ألكسي أورلوف يعبر عن إحباطه الشديد لقمع الانتفاضة اليونانية في الدولة العثمانية، فيصف أولئك المسيحيين اللذين يعتقدون بعقيدته الأرثوذكسية (أي اليونانيين) بـ "شعب مخادع ومتقلب وجبان ذي ميل شديد إلى المال". (ص 225). ويقسم فيكتور تاكي نظرة الروس التاريخية إلى الإغريق إلى قسمين أو نموذجين: الأول يرتبط بالبطولة والشجاعة الأسطورية والثاني نموذج العبد اللئيم. ويبدو أن هذا النموذج الأخير كان متاحًا أكثر من غيره إبان مواجهة الروس للأتراك العثمانيين وهو ما ظل سائدا فيما لحق من أزمان.

 سياق آخر قوي انكشف للروس في تلك الفترة وهو العلاقة التي ظلت متينة مع الصرب الذين لم يعتنقوا الإسلام كالسلافيين البوسنيين كما لم يستسلموا لإغراء الكاثوليكية مثلما فعل إخوتهم الكروات وظلوا أوفياء للعقيدة الأرثوذكسية.

 يضع الكاتب النقطة الأخيرة لبحثه التاريخي والسيكلوجي المتعلق بالانفتاح والمواجهة بين إمبراطوريتين تاريخيتين كبيرتين، يضعها عند نشوب حرب القرم. فقد دشنت هذه الحرب فصلاً جديدا في التاريخ وانتقلت معها مقاليد الهيمنة العالمية من الضفة الشرقية للعالم إلى الضفة الغربية، وشهدنا في هذه الحقبة زوال الحكم العثماني جنبا إلى جنب مع مواجهة روسيا لواقع جديد تمثل في أول مواجهة حقيققية مع ائتلاف القوى الغربية، الأمر الذي كبح من جماح روسيا في التحول إلى بلد أوروبي.

 يشار إلى أن مؤلف هذا الكتاب، وبخلاف التحزب الذي أظهره بعض المؤرخين الغربيين باعتبارهم حرب القرم بين روسيا والدولة العثمانية حربا دينية كما جاء في كتاب "الصليبية الأخيرة" (Figes O. Crimea: The Last Crusade. London; New York: Penguin, 2011)، بخلاف ذلك التزم الباحث الروسي موقفا عقلانيا في قراءة التاريخ مؤكدا على أنه "لا يجب علينا أن نبالغ في دور الدين في تاريخ العلاقات بين روسيا والإمبراطورية العثمانية (...) أما الذين يحاولون تقديم هذا الصراع كبديل أرثوذكسي لاحق للحروب الصليبية الكاثوليكية في العصور الوسطى فلن يجدوا تفسيرا لطبيعة الحملات الأولى لقياصرة موسكو ضد الدولة العثمانية، فمع أنهم كانوا متعصبين دينيا إلا أنهم كانوا أقل عدائية تجاه العثمانيين من القياصرة اللاحقين الذين تراجع في زمنهم المحرك الديني عند النخبة الروسية" (ص 23).

 لا يني ميل بعض الكتاب الغربيين في التحامل على التاريخ العثماني يضطرد ويحتد لاسيما في العقود الثلاثة الأخيرة، كما وازدادت النظرة إلى تركيا باعتبارها مثالا لنموذج "الاستبداد الآسيوي" الفاسد والمحكوم عليه بالفشل، ازدادت تمركزا في الوعي العلمي الغربي . وقد عمد الكاتب الروسي فيكتور تاكي إلى تفنيد هذا النوع من الأحكام وقدَّم في كتابه هذا أمثلة على قابلية الدولة التركية على الحياة المنظمة رغم الخسائر التاريخية التي تكبدتها وعلى تكيفها مع المراحل التاريخية الجديدة التي يشتد فيها وطيس المنافسة على الهيمنة، بل ومقدرة تركيا على إثبات نفسها كعامل مؤثر في مسار التغيرات العالمية.

--------------------------------------------------------

الكتاب: الملك والسلطان (الإمبراطورية العثمانية بعيون روسية).

المؤلف: فيكتور تاكي.

الناشر: الاستعراض الأدبي الجديد. موسكو 2017

اللغة: الروسية.

عدد الصفحات: 320 صفحة.

  *كاتب عماني

 

أخبار ذات صلة