أرئيل روط
فوزي البدوي أستاذ الدراسات اليهودية: الجامعة التونسية
لا يعرف القراء العرب في غالبيتهم الشيء الكثير عن اليهودية الحديثة والمُعاصرة في مجالات الفكر والفلسفة والتصوف والدين فقد غطت الصهيونية والصراع السياسي والعسكري كل الجوانب الأخرى وهو أمر مفهوم في زمنه ولكن آن الأوان ليلتفت العرب أيضًا إلى هذه الجوانب الأخرى التي لا تقل أهمية وإذا كان القرآن قد صدر في ترجمته الرابعة في اللغة العبرية منذ سنوات خلت على يد أوري روبين بعد ترجمات كل من هرمان ريكندورف ويوسف يوئيل ريفلين واهارون بن شماش فمن باب أولى وأحرى أن يهتم العرب هم الآخرون بشيء مما يكتب عن هذه اليهودية التي ارتبط تاريخهم بتاريخها منذ زمن الدعوة إلى أيامنا تحقيقاً لوصية الرسول الأعظم لزيد بن ثابت الأنصاري ورعاية لحقوق المعرفة إن نحن استعرنا عبارة الحارق المحاسبي بشيء من التصرف.
ولعل من أهم الكتب الصادرة هذه السنة في المجال الديني مساهمة الباحث أرئيل روط في دراسة التراث الحابادي نسبة إلى أحد فروع الحركة الحسيدية اليهودية חסידות חב'ד التي ظهرت في القرن الثامن عشر علي يد شنيور زالمان الليادي المشهور بلقب Alter Rebbe أو الشيخ المعظم في تقاليدنا.
واليهودية الحديثة والمعاصرة تتوزعها ثلاثة فروع كبري هي: اليهودية الإصلاحية بتياراتها الأساسية الثلاثة الليبرالي والمحافظ والتجديدي وتيار اليهودية العلمانية أو اللائكية بفرعية الإنسانوي واللائكي والتيار الثالث الكبير هو هذه اليهودية الأرثوذكسية وريثة اليهودية الربانية وهي الممثلة لجمهور اليهود كما يقول أجدادنا ممن انشغلوا بدراسة هذه الطائفة وتقع ضمنها هذه اليهودية الأرثوذكسية المغالية Ultra orthodox حديثة النشأة وهي الفرع الذي نشأ كردّ فعل على التيار المنادي من داخل اليهودية بالاندماج في أوروبا وقيمها التي حملها عصر الأنوار في القرن الثامن عشر ملتزما تمسكا متشددا باليهودية التقليدية وأحكامها في المأكل والملبس الأسود وإرسال الذؤابتين حتى أطلق عليهم لقب أصحاب الأردية السوداء وتجنبوا ما أمكنهم ذلك الاختلاط بالآداب الدنيوية الأوروبية من المسرح والسينما والفنون بأنواعها في بداياتهم وأنزلوا المرأة منزلة هامشية بل ودونية في نظامهم وفي داخل هذه اليهودية الأرثوذكسية المُغالية نشأت الفرق المعروفة بالحسيدية أو الحسيديم بمعنى الأتقياء أو الورعين في اللغة العبرية والحريديين واللبوبافيتشيين أو الحباديين الذين خصص لهم الباحث أرئيل روط أطروحته الجامعية هذه ويعرف بعضهم في إسرائيل باسم المتنغديم وهم المعارضون للتيار الحسيديליטאים . والحسيدية في أصولها الأولى تدعو إلى تغليب القلب والفرح والابتهاج متوسلة العاطفة وتلوناتها سبيلا إلى الوصول إلى معرفة الخالق والاقتراب منه.
نشر هذا الكتاب في الأصل أطروحة جامعية بقسم الفلسفة اليهودية بجامعة بار إيلان المتخصصة في الدراسات الدينية اليهودية بإشراف البروفيسور دوف شفارتز المتخصص في الماشيحانية والفكر اليهودي الحديث والصهيونية الدينية [1] بعنوان مدونة التراث الحابادي مكوناته وسبل انتشاره باعتبارها أساس قراءة النص الحابادي ونشر في شهر أبريل المنصرم تحت عنوان: كيف نقرأ النص الحابادي؟
وقد قسم الكتاب إلى مقدمة وأربعة أبواب درس في المقدمة ما أسماه بالبنية التحتية ومسائل المنهج والغاية من البحث ودلالاته محددًا ما سماه "الخلفية للنظرية وبنية البحث التحتية ومسائل البحث في الحسيدية الحابادية ومناهجها مع سعي لضبط وجرد الكتابات التاريخية ذات الصلة بهذه الحركة من جهة الصحة والانتحال والتجانس ورد المؤلفات إلى أصحابها وأماكن توزعهم الجغرافي والزمني وهي كلها من صميم البحث التاريخي الأولي الذي بدونه لا يستقيم بحث أكاديمي جاد وقد بين في هذا القسم أن الفرقة الحابادية هي فرقة فريدة ضمن التيار الحسيدي منذ الربي شنيور زالمان الليادي المشهور بكنية "راشا " الذي أثرت أقواله وتعاليمه في الكثير من الأتباع والمفكرين الذين يتقاسمون والمؤسس الكثير من تعاليمه ولكننا نحتاج إلى التثبت إن كانوا فعلا ينضوون تحت لافتة هذا المسمى الكبير الفرقة الحابادية أم هو مجرد التقاء موضوعي في بعض النقاط والمسائل ولذلك سعى المؤلف إلى ضبط الوسائل والمقاييس التي يُمكن من خلالها تحقيق الانتماء إلى المقالة الحابادية دون غيرها من خلال استخراج ما يعتبره سنناً في القول واصطلاحات خاصة داخلية لا يمكن للقارئ من خارج هذه الفرقة أن ينتبه إليها أو يعتمدها لتمييز المقالات المعبرة عن جوهر الفكر الحسيدي في صياغته الحابادية وهو يعتبر أن هذه المهمة لم تنجز حتى الآن بالرغم من وفرة المادة والنصوص، ولهذا فقد وضع نصب عينيه سدّ هذا الفراغ فطفق ينظر في حصر المدونة وتدقيق الاصطلاحات ومناهج القراءة حتى يصبح النص الحابادي نصًا ميسور التناول وأطلق على هذه المقدمة تسمية البنية التحتية والمنهج ثم قسم الكتاب إلى أربعة أبواب انشغل في الأول منها بمسألة المدونة الحابادية باحثاً عن المعيار الذي يمكنه من القول أن هذا النص حابادي أم لا وهل يوجد ما يمكن اعتباره مدونة حابادية وانتهي إلى استخراج معيارين أولهما مكنه من تصنيف بعض الكتاب ضمن الدائرة الحابادية الداخلية والرسمية المعبرة عن جوهر فكر هذه الحركة ومجموعة أخرى من الكتاب عرفت باتصالها بهذه الحركة إلا أنّه لا يمكن اعتبارها منشئة لنصوص داخلية بل هي نصوص تشبه نصوص البرايتا التلمودية بما هي "نصوص من الخارج" قد يمكن وصفها بأنها تتحدث عن الحركة الحابادية ولكنها لا تتحدث من داخلها ولعل من مميزات هذا الباب هو ما أعلن عنه الباحث من أنه قام لأول مرة في تاريخ الدراسات الحابادية بدراسة تشكل مدونة نصوصها وضبط حدودها وهو ما تعكسه قائمة الضبط اللببليوغرافي في مجالات التاريخ والفلسفة والاجتماع التي ضمنها الكتاب وفي الباب الثاني تحدث المؤلف عما أسماه بمكونات المدونة الحابادية وهو في الحقيقية قد سعى إلى تنظيم المادة التي خلص منها إلى تحديد ملامحها وفق ما يمكن أن نسميه تجوّزا بأجناس الكتابة داخل المدونة الحابادية بصرف النظر عن المؤلف من هو؟ وانتهى إلى تقسيمها إلى ما يعرف بالتفاسير דרוש والميامر מאמר والبيئور ביאור أو الشروح والرسائل ايغيريت איגרת والكتابات العامة מכתב כללי وثانيهما هو النصوص المكتوبة المعروفة باسم هاناخا הנחה وأردف ذلك بطائفة من أعلام المذهب ومؤلفاتهم وسعى من خلال التدقيق في البعد التاريخي إلى التمييز في ما بينهما بين نوعين أولهما هوما يمكن تسميته بالنصوص الشفوية أو ذات المصدر الشفوي وأخرى نصوص مكتوبة من أول الوضع وليست استتباعًا لمصدر شفوي سابق وهو أمر اعتبره من اجتهاداته في دراسة الفكر الحسيدي الحابادي أما في الباب الثالث الذي عنونه بانتشار أو توزع المدونة الحابادية فقد درس كيفية انتقال المعارف من زعيم الفرقة إلى الأتباع وتأثيرها فيه فيما بعد معرفة وسلوكاً وحاول أن يجد صلة بين نمط انتقال هذه المعارف وتوزعها وبين نمط التأثير المرجو فميز بين المقام الهدف أو المتلقين باعتبارهم هدفاً فبعض المعارف لا تنتقل إلى الأفراد فحسب يختصون بها دون الجماعة ويتلقونها أحياناً بشكل مكتوب يدوياً وخطي مباشرة لاستعمالهم الخاص وبالتالي لم يكن لها تأثير كبير في ملامح الفكر الحسيدي الحابادي وتطوره إلا لماماً حين تتحول أحيانا إلى نص موزع بين الجماعة وميز المؤلف تبعًا لهذا التقسيم الأولي بين صنوف ممن يتولّون نقل هذه المعارف فهم أصناف منهم من يسمى بالحوزر חוזר أو والمادريخ والماشفيع מדריך ומשפיע ثم توقف عند المؤسسات الحابادية التي تتولى هذه العملية المعقدة من مثل مؤسسة يشيفات تومخي تمييم ישיבת תומכי תמימים .
وفي الباب الرابع والأخير الذي عنونه بنموذج قراءة النص الحابادي اهتم بالإجابة عمَّا أشار إليه في الباب الأول وهو كيفية الخلوص إلى منهج نقدي في دراسة النص الذي تنتجه هذه الحركة المنضوية تحت جناح الحركة الحسيدية الأم فاعتمد ما بدا له أنه نموذج متعدد الأبعاد أو المنهج المركب רכיבי המודל לקריאת טקסט של חב״ד من خلال وضع النص في سياقه من حيث هو نتاج مفكر فرد أولاً ومن حيث هو نتاج تلاقح أفكار بين مفكرين آخرين في الأوساط الحابادية بكيفية تساعد القارئ المبتدئ أو المهتم بمجال البحث في الفكر الحابادي بالمراوحة بين السياقين وسمي هذا المنوال أو النموذج بالنموذج الإزائي أو المقارني وهو ما سمح له بتبين ما هو أساسي في فكر الجماعة وما هو من التوابع أو الإضافات أو الاجتهادات منتهيًا في جزء الكتاب التطبيقي إلى الاشتغال عملياً على نصوص بعينها لكبار مفكري هذا التيار متوقفا عند المفاهيم حتى يتخذها الباحث نبراساً له في تحليل فكر التيار الأساسي في اليهودية المعاصرة ولم يفت الباحث في الأخير أن يشير إلى أنه قدم دراسة فريدة لم يسبق إليها في بيان المفاهيم والأسس التي تقوم عليها التأملات الحابادية طوال أجيال عديدة مساعدا بذلك كل من يرغب في تمثل الجهاز المفاهيمي والنظري الذي تدور فيه الحابادية الحسيدية.
إن هذا الكتاب الذي يبدو في ظاهره كتابا كتبه يهودي إلى يهود من أمثاله مهم على أكثر من صعيد بالنسبة إلى الباحثين العرب المتخصصين في مسائل الفكر اليهودي الحديث والصلات المفترضة والممكنة بين التراث الحسيدي الذي بدأ منذ أيام الدولة العثمانية مع الزعيم الروحي "بعل شم طوف" والفكر الصوفي الإسلامي في تجلياته العربية والفارسية وهو ما كان محط اهتمام الباحثة فاليري ميشال في كتابها عن التصوف والحسيدية وهو أيضا يساعد المشتغلين العرب والمسلمين عموما على تمثل إشكالية التصورات المشيحانية في اليهودية والإسلام وهي من أعقد القضايا كما أبان عنها النقاش حول الإسلام الناشئ بين أنصار المدرسة الأنجلوسكسونية وما رد به عليهم الباحث فراد دونار حول هذه المسألة بالذات ولا شك أن التيار الحسيدي في نسخته الحابادية اللوبافيتشية ذو صلة متينة بهذه الإشكالية إشكالية الماشيحانية في الفكر اليهودي وربما نجد في صلتها بهذه المشيحانية ما يفسر من بعض الوجوه موقفها من الملتبس من الحركة الصهيونية والصهيونية الدينية بالأساس التي حاول فقيد الدراسات اليهودية رشاد عبد الله الشامي أن يكتب في بعض ملامحهما في كتابه المهم حول القوى الدينية في إسرائيل.
إن الحركة الحابادية المتفرعة عن الحسيدية هي نموذج للتدين الشعبي الحسيدي الذي حاول أن يرتقي شيئا فشيا بعد جيل التأسيس إلى شيء من عقلنة الممارسة الدينية الشعبية خصوصا مع الربي شنيور والربي شنيرسون في اتجاه عدم التهوين من الفكر من أجل الجوانب العاطفية والانفعالية التي اشتهر بها التيار الحسيدي الأم وهو من حيث الزاوية مما يمكن للدراسات المقارنية بين الأديان والإسلام واليهودية تحديدا أن يكون مادة للتفكير والبحث في أقسام الدراسات الدينية حول قضايا أساسية يمكن اعتبارها اليوم جوهر مساهمة هذه الحركة في التفكير الفلسفي والأخلاقي من مثل مسائل الحرية الفردية والمسؤولية الفردية والصلات بين التصوف النظري والطرقي وغيرها من المسائل المرتبطة بالفلسفة الأخلاقية وأسسها الميتافزيقية وهو ما تعكسه تسمية هذه الحركة بحباد اختصارا للأحرف الثلاث العبرية المكونة لمفاهيم ثلاثة هي الحكمة والفهم والمعرفة "חכמה בינה ודעת" منذ زمن المؤسس الأول شنيور زالمان في كتابه المشهور اختصارا " بتانيا " وصولا إلى الزعيم الروحي الذي ترك أكبر الأثر في أتباعه بعد وفاته.
إن هذه المدرسة الحابادية مهمة على أكثر من صعيد بالنسبة للعرب المعاصرين فهم يحتاجون أن يفهموا هذه الفسيفساء الدينية اليهودية خصوصا بعد ما عرف ما يسمى بالصحوة الدينية החזרה בתשובה أو الحازاره بتشوفا بحسب الاصطلاح الديني الرائج والتي جعلت لهذه القوى الدينية منزلة في توجيه الرأي العام اليهودي فالزعيم الروحي مناحيم مانديل شنيرسون زعيم حركة حاباد ساهم فكره السياسي وبعض كتاباته في تشجيع الاستيطان والتشريع لهم من منطلق ماشيحاني صرف ودعا إلى رفض المفاوضات التي تؤدي إلى "التنازل " عن أرض إسرائيل إلى العرب والفلسطينيين وهو ما يجعل من الحاباديين رديفا لكل القوى الأخرى المناهضة لأية تسوية قانونية عادلة للصراع في فلسطين بالرغم من الخلافات الأساسية التي تفصله عن الفكر السياسي للصهيونية الدينية التي أرسى دعائمها الربي حاييم كوك وهي مواقف ليست منفصلة عن هذا التراث الحريدي الذي سعى الباحث إلى ضبطه وكشف محتواه وطرق قراءته وهو أمر لا يهم اليهود وحدهم في نظري بقدر ما يهم العرب أيضا المنشغلين بهذا الفكر اليهودي في تجلياته المعاصرة.
إن اليهودية المعاصرة بتياراتها الثلاثة الكبرى تحتاج من العرب مزيدا من الاهتمام والتخصص وبذل الجهد والمال والوقت لعلنا نحقق بعض ما عجز ابن حزم الأندلسي عن تحقيقه في رسالة مليئة بالشكوى والألم في رده على ابن النغريلة اليهودي ذات زمن أندلسي ضائع...
عنوان الكتاب: كيف نقرأ التراث الحابادي؟
المؤلف: أرئيل روط أستاذ الفكر اليهودي بجامعة بار إيلان
الناشر: المطبوعات الجامعية جامعة بار ايلان
سنة النشر: أبريل 2017
عدد الصفحات: 300 صفحة
اللغة: العبرية
[1] من أعماله نذكر:
Livre
Schwartz, D., & Stein, B. (2017). Messianism in medieval Jewish thought. Emunot. Academic Studies Press: Brighton MA.
