«المستبعدون»

Picture1.png

لآرتور دوموسلافسكي
يوسف شحادة

 

يقدم الصحفي والكاتب البولندي، آرتور دوموسلافسكي، كتابه الجديد "المستبعَدون"، بعد مؤلفه الشهير عن سيرة الصحفي والمؤرخ والشاعر ريشارد كابوشينسكي – الملقب بقيصر الريبورتاج، صورا مختلفة للمسحوقين، والمحرومين المستبعدين، والمهمشين الملفوظين خارج الحياة الإنسانية الكريمة. وقد أصدر كتبًا مهمة أخرى، منها: "المسيح بدون بندقية" (1999)، "عالم ليس للبيع" (2002)، "حُمّى أمريكا اللاتينية" (2004)، "أمريكا المتمردة" (2007). يمكن عدّ كتاب "المستبعدون" بانوراما شاملة تغطي النصف الجنوبي من عالمنا، وصورة جمعية للذين لاصوت لهم، ولا صورة لهم ترسم في وسائل الإعلام العالمية. يأخذنا المؤلف إلى جنوب المعمورة راسماً لوحة للبؤس المهيمن في مناطق كثيرة من أمريكا اللاتينية، وإفريقيا، وآسيا، واصفاً أحوال المهمشين الذين يقرّون أن ليس لهم "على تخوم العالم المُتخم إلا الهواء ورحمة الله".
 

ينقسم الكتاب إلى أربعة وعشرين فصلاً، تتحدث عن قضايا المستبعدين في بلاد عديدة، ابتداء بكولومبيا، (يُخصص لها فصلان)، فالبرازيل (خمسة فصول)، ثم فلسطين (أربعة فصول: الأراضي الفلسطينية المحتلة، إسرائيل، الضفة الغربية، قطاع غزة)، وبعدها كينيا (وتحظى بفصلين)، فجنوب السودان، فمصر (ولها فصلان)، فجزيرة كوس اليونانية، ليعود إلى أمريكا الوسطى، فالولايات المتحدة، فالمكسيك، ثم  الباكستان وتايلند، وبعدها ميانمار، فكوبا، فالسلفادور وغواتيمالا. تحت كل فصل يلجأ الكاتب إلى وضع فصل تابع، يسميه "خارج إطار الصورة"، وتحته عنوان آخر. وبهذا يمكن النظر إلى الكتاب في الواقع ككتابين، حيث يصبح حجمه الضخم، الذي يضم بين دفتيه حوالي الستمئة صفحة، مسوَّغا. يضم الكتاب الأول ريبورتاجات تتناول الدول المذكورة أعلاه، دوّنها المؤلف بعد زياراته إليها، وفيها وقائع مؤلمة تسردها شخصيات تنتمي إلى فئة المستبعَدين، أو المسحوقين، أو من يقف في صفهم. أما الكتاب الثاني، الذي تشترك نصوصه بعنوان واحد، "خارج إطار الصورة"، وتتوالى إثر كل تقرير صحفي، فيتضمن تأملات يسوقها المؤلف عاكسة الأفكار الواردة في ما سبقها من ريبورتاجات. ومع أن دوموسلافسكي ينأى بنفسه عن انفعال العاطفية الساذجة، يُحمّل نصوصه هذه رسالة نستشف فيها نبرة أخلاقية تعليمية، يوظفها توظيفاً فلسفياً بارعاً لنقد الجشع الفظ، واللامبالاة التي تسم بميسمها عددا كبيرا من المتفرجين على عذابات المحرومين. ويُبين أن المستبعَدين يمكن وصفهم باسم جمعي: "المغيَّبون"، ويمكن تعريفهم بأنهم: "من لا يهتم أحد بهم، ولا أحد يذكرهم، وحتى الصحف تبخل عليهم بعمود يتضمن أخبارا عن غيبتهم". نجدهم في أحياء الفقر في كولومبيا وقد نهبهم الجنود الفاسدون، ثم قتلوهم وقدمومهم كمُقاتلين إرهابيين مهزومين. وإليهم ينتمي أطفال الشوارع البائسون في ضواحي العواصم العالمثالثية، و"عشوائياتها". ومنهم الذين يكدحون كالعبيد، منذ الفجر وحتى حلول الظلام في مزارع الكاكاو، من أجل دراهم قليلة. ومنهم كذلك بدو الأراضي الفلسطينية المحتلة المجبرون على النضال الشاق في المحاكم، ودفع الأتاوات لدولة الاحتلال للوصول إلى مياه الشرب. وإليهم ينتمي أيضاً أبناء قبائل الكيكويو الكينية، الذين اعتقلهم البريطانيون سنين طويلة، وعذبوهم في معسكرات الاعتقال. وفي صفوف المستبعدين نرى أيضاً معارضي قبيلة الدينكا التي تريد الهيمنة على جنوب السودان وجعله ملكاً لها، ونجدهم كذلك، في صور شتى، في البرازيل، وكوبا، وميانمار، وفي أماكن كثيرة من الجنوب المنهوب. ويجهد المؤلف في تقديم صورة المستبعَدين المُغيَّبين لاعبا "دورالمراقب الذي يثق بحواسه" – كما تصفه الصحفية والكاتبة المعروفة ليديا أوستالوفسكا – فيتلمس الذين هُضمت حقوقهم، وحُرموا من قسمة الخيرات، وامتهنت كرامتهم، مدركا أوجاعهم وأسباب "مرضهم". وفي الوقت نفسه، يظهر شكوكه أحيانا، ولكنه دائمًا يبحث في أهوال تلك "القسمة الضيزى" بين الشمال المتخم والجنوب المستلب، موقنا نتائجها الكارثية على المضطهدين الذين لا حول لهم. يُظهر بأسلوبه البارع، وسرده المقنع، كيف يقتل عساكر الجيش الكولومبي شباب الأحياء الفقيرة، ويجعلهم أرقاما ترفع أعداد القتلى "الإرهابيين" في إحصاءات "الحرب على الإرهاب"، ليقبضوا مكافآت مالية كبرى لقاء ذلك. ويسلط الضوء على الجشع، والظلم، في مناطق كثيرة من الجنوب، منها البرازيل، حيث يُقتل الأطفال المشردون، الذين يسمون بـ"حثالة الشوارع"، بناءً على أوامر من أصحاب المتاجر الصغيرة كيلا يُعيقوا أعمالهم التجارية. ويوضح دوموسلافسكي أن البؤس يبعد الآدمي عن إنسانيته، فيجعله لا يبالي بمصائب غيره، ولا يُبدي أي تضامن معه. ويصل إلى استنتاج صائب، يلخصه في تساؤل محق: "إن كانت حياتي لا تستحق شيئاً، فكم يمكن أن تكون قيمة حياتك بالنسبة إليَّ؟".

ينتقد دموسوسلافسكي الاستعمار الغربي، ومخلفات الكولونيالية التي أساءت إلى شعوب الجنوب إساءة بالغة. ومن خلال اقتباسات من مؤلفات المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد، يدهشنا المؤلف باطلاعه الواسع على ما حدث من خراب بشري، وأخلاقي، في فترة الكولونيالية وما بعدها. فها هو ليس بغافل عن أفعال المستعمرين البريطانيين الذين فتكوا بأطفال كينيين، إذ أخضعوهم إلى "لقاحات" مميتة في معسكرات الاعتقال. ولا ينسى بدو فلسطين واجتهادهم في بناء مدرسة لأطفالهم من إطارات السيارات، وهبّتهم لحمايتها من الجرافات الإسرائيلية. ويقدم صورة فلسطين المحتلة، بموضوعية كبيرة، عن طريق معاناة هؤلاء البدو الذين يُحظر عليهم حتى الماء، ويتعرضون لأبشع صنوف الاضطهاد والتمييز العنصري. في ريبورتاج "البدو في الفخ"، يقول دوموسلافسكي: "إن البدو أكثر الخلق صبرًا، وإنهم تعلموا الصبر في الصحراء ومن الصحراء، فالصحراء بيتهم". ويستعرض أحوال قبيلة الجهالين في فلسطين، التي زارها في 2011، فيكتب أن أفرادها يعيشون في فخّين: فخّ الظروف الطبيعية القاسية، وفخ الإدارة الإسرائيلية التي تحكمهم بأنظمتها القمعية. يتحدث عن وضع العرب المزري تحت الاحتلال، ويضرب أمثلة تصف مأساتهم، منها أن المرء يُترك للموت إن تعرض لحادث، أو مرض، إذ يمنع عليه الإسعاف السريع، لأنه فلسطيني غير مسموح له الوصول إلى المستشفيات الإسرائيلية. من خلال هذه الجزئية يشرح وضع الضفة الغربية المحتلة، المقسمة إلى ثلاث مناطق، حسب الاتفاقات الموقعة بين "إسرائيل" والسلطة الوطنية الفلسطينية. ويستطرد محدثاً عن تاريخ بدو النقب الذين ظلموا بعد قيام دولة "إسرائيل"، وطردوا من صحرائهم، وسُلبت إبلهم وأغنامهم، وأحرقت خيامهم، ثم زُرع المستوطنون على أنقاضهم. ورغم ذلك يخلُص المؤلف إلى نتيجة مفادها أن البدو سيصمدون في منطقتهم "تل الأحمر"، رغم البؤس والظلم لأنهم، كما يؤكد، أكثر الخلق صبرا في العالم.

في ريبورتاج آخر، موسوم بـ "كيف أصبح داودُ جالوتَ"، يتحدث دوموسلافسكي عن مآسي أهل فلسطين، ومن خلال العنوان الذي يحيل إلى القصة التوراتية عن داود اليهودي وجالوت الفلسطيني، يُلمح إلى أنَّ اليهودي أصبح الآن الظالم. ويتطرق إلى حوادث قصيرة نتجت عن عملية تفجير فلسطينية، تبعها هدم بيوت الفلسطينين، ويصف مظاهرة لعرب يقفون في مواجهة الجدار العنصري الذي ذهب بأراضيهم وقسّمها. ويتحدث عن قنابل الغاز الإسرائيلية التي تخنق النساء، والأطفال، والشيوخ، دون تمييز. وما يفيد الكاتب في تعزيز موقفه، درءًا لاتهامات قد تأتيه من قوى صهيونية، أنه يترك لإسرائيليين يكرهون الظلم، سرد تجاربهم في مجتمعهم المحكوم بالعنصرية. فميخائيل الذي لا تعجبه تصرفات حكوماته تجاه الفلسطينيين، رغم أنه لم يكن يحب أن تقارن إسرائيل بجنوب إفريقيا الأبارتايدية، يتغير أمام الحقائق الصادمة. وبعد أن يجمع إثباتات تسعفه في المقارنة التي كان يرفضها، يتضح له أن ما تقوم به دولته هو أبارتايد منظم، ومشرع في قوانينها. ويأتي بمثل واحد يكفي لإقناع من يطلب الحقيقة: "في حال ارتكاب جريمة في الأراضي المحتلة، تُتخذ إجراءات وعقوبات ضد الفلسطينيين، تختلف عن تلك التي تتخذ ضد اليهود". ومن المقارنات الصادمة، لكن المحقة، التي يقيمها دوموسلافسكي، وصف تل أبيب الحبلى ببذخها، ولهوها، وشواطئها الدافئة، وليالي ملاهيها، والحديث عن البؤس على مرمى حجر منها في المناطق المحتلة. فيتساءل كيف لا يمكن رؤية ما يحدث في الأراضي المحتلة وهو على بعد خمس وعشرين دقيقة من تل أبيب! ويغدو الحديث عن الضمير والأخلاق ضربا من الترف. وما يسترعي الانتباه الفكرة الصحيحة التي ينقلها المؤلف عن مناصري السلم اليهود، أن "إسرائيل" تدفع الفلسطينيين دفعاً إلى التسلح و"العسكرة". فهي تستطيع كسب الحرب عسكريًا، فتقدم المقاتلين على أنهم إرهابيون، ولا يضرها أو يحرجها إلا النضال السلمي. لذلك يصل دوموسلافسكي ومحدثوه الإسرائيليون إلى استنتاج صائب: أن الإدارة الصهيونية ستقلق حتما، لو توقفت صواريخ حماس عن السقوط على مدنها. ولا يتوانى الكاتب عن بث حقائق كثيرة، تثبت مصداقية أطاريحه، وتكشف عدم موضوعية الإعلام الغربي، الذي لا يأبه بالمغيبين، ولا يرى قضاياهم العادلة. فنجد قصة يوناثان الصهيوني المتحمس، الذي آمن بحق "إسرائيل" في الدفاع عن نفسها، ولكنه اكتشف أخيرا زيف الدعاية الصهيونية، ومن ذلك أن العرب والمسلمين أشرار. والأهم من ذلك أدرك أنه تعرض لغسيل دماغ ككل أبناء جلدته. وكونه طيار حوّامة لحالات الإسعاف، شاهد بعينيه كيف يُقتل الفلسطينيون في منازلهم بصواريخ الطيران، فرفض الخدمة، وفقد عمله. وعلق على ذلك قائلاً: "إنَّ الثمن الذي دفعه قليل مقارنة بما يدفع الفلسطينيون من أثمان". ويلتقط دوموسلافسكي طرف الخيط الذي يفضي إلى استنتاج خطير، لكنه صحيح تمامًا، مؤداه أن دولة الظلم زائلة. وطرف الخيط يبدأ بموقف اليهودي جيف، الذي عندما شاهد البلدوزر الإسرائيلي يهدم بيت صديقه الفلسطيني، أيقن أنَّ البلد الذي آمن به لم يعد موجودا، ولم يعد يعرف هل كان موجودا أصلاً! وليصدم قارئه، يسوق المؤلف قصة نوريت التي فقدت ابنتها الصغيرة في عمل انتحاري فلسطيني. هذه اليهودية صدمت حكومتها، وأبناء جلدتها، إذ لم تلُم الانتحاريين بمقتل ابنتها، بل اتهمت حكومتها: "ابنتي، لأنها إسرائيلية، قتلت على يد شاب كان مُذَلّا، ومستعبَدا، وفاقدا للأمل، لدرجة أنه قرر الانتحار... لأنّه فلسطيني". وتقول: "لا فرق أخلاقيًا بين الشخص الذي قتل ابنتي، والجندي الإسرائيلي في نقطة التفتيش، الذي لا يسمح لامرأة فلسطينية حامل بالمرور، فتخسر طفلها نتيجة لذلك. ابنتي تماماً مثل قاتلها – ضحية للاحتلال". والأمر الأفظع الذي تدركه نوريت، وينقله دوموسلافسكي، أن القاتل الإسرائيلي لا يعاقَب على جريمته. يقدم الكاتب سلوك نوريت بعد مقتل عبير الفلسطينية، ذات العشرة أعوام، على يد جندي إسرائيلي، على أنّه عمل يجب أن يعرفه القارئ الذي يروم الحقيقة. فيبرز كلمات نوريت، التي تعلق صورة عبير على حائط في بيتها، وهي كلمات توجهها إلى أم الطفلة الفلسطينية الشهيدة: "إن قاتل ابنتي كان لائقا إلى حد أنه قتل نفسه، أما الجندي الذي قتل عبيرا، فمن الممكن أنه الآن يشرب الجعة مع أصدقائه، ويذهب إلى المراقص". دوموسلافسكي حريص على التعريف بمحدثيه لإثبات مصداقية ما يورد من أحاديث صادمة لمن يقرأ كتابه. فنعرف، مثلاً، أن نوريت حازت جائزة أوروبية على مواقفها الإنسانية، وألفت كتاباً عن صورة فلسطين وشعبها في المقررات المدرسية في إسرائيل، تفضح فيه عنصرية هذا الكيان، وكذبه، وتزويره الواقع. هذا التعليم الموجه قد يسوغ تأخر الإسرائيليين في اكتشاف الحقيقة الصادمة. وفي تقريره عن الضفة الغربية، الذي يَسِمُه بكلمات مقتبسة من كتاب لإدوارد سعيد "بعد الحدود الأخيرة، بعد السماء الأخيرة"، يذكر الكاتب بيتين من شعر محمود درويش بهذا المعنى. ويتحدث باثا أحاديث محاوريه من الفلسطينيين، أمثال: عطا جبارة، الصامد في أرضه رغم حرق المستوطنين بيته، والمناضلة الفلسطينية شيرين الأعرج، وسحر فرنسيس – مديرة مؤسسة الضمير لرعاية الأسرى في فلسطين، والبروفيسور في علم الأحياء بجامعة بيت لحم مازن قمصية. وفي تقريره، "كيف يولد المقاتلون"، يستعرض أحوال قطاع غزة تحت حكم حماس، والحصار الجشع، البري، والجوي، والبحري، والأنفاق السرية، ومعاناة الناس الكبرى. وثمة حديث عن إسماعيل هنية، ووصف لشخصيته، يحاول أن يكون الكاتب فيه حيادياً، ولكن بحذر. فهو يُدرك أن قضية هنية قد تثير خلافًا يطغى على ما يريده في كتابه، فالرجل يُصنَّف إرهابيا وفق المحافل الغربية. يبوح دوموسلافسكي بما استشف من محاوريه، وبما هو مؤمن به أيضًا، أن الظلم والعدوان الواقع على غزة لن يخلف إلا جيلا جديدا لن ينسى. ويؤكد أن الصغار سيسألون حين يكبرون عن شهداء عائلاتهم، وسيكونون مقاتلين حتماً، ويضع سؤالا بلاغيًا محقاً في نهاية الريبورتاج: "فما يمكنهم أن يكونوا هنا غير ذلك؟".

فيما يخص النصوص التي وسمت ب"خارج إطار الصورة"، فهي تقرب القارئ أكثر إلى أفكار الكاتب، الذي يبوح بأسرار مهنته. فهو كمراسل صحفي، يعرف الكثير عن كيف تركب التقارير الصحفية وراء الكواليس. دوموسلافسكي يكتب هنا عن الأشياء التي تبدو غير ذات صلة بموضوع الكتاب الرئيس، لإظهار المشكلة المطروحة من منظور أوسع، أو من زاوية أخرى. وكثيرا ما يتساءل موجها الكلام إلى القارئ ليشاركه في التفكير بمسألة ما، وأحيانا يقتبس جملا من أقوال شخصيات يوافقهم الرأي في قضية يراها شديدة الأهمية. ومن أهم الأمور التي تستحق الثناء أن الكاتب لا يخفي آراءه السياسية أو الاقتصادية، ونجده يشجب النظام الاقتصادي الليبرالي الجديد، وصندوق النقد الدولي، ويفضح الأنظمة الليبرالية التي يحسبها تعمل على إعادة هيكلة النظام الاستعماري، وفرض اقتصاد ما بعد الكولونيالية، وتلميع صورة العولمة وثقافتها الاستهلاكية. ويُفهم من آرائه أن الشركات العملاقة، وتأثيراتها في سياسيات الدول العظمى، قد سببت حالة عدم التكافؤ التنموي بين الشمال، والجنوب الذي فتحت أسواقه لمنتجات الشمال، بينما سدت أمام منتجاته أسواق الشمال. ويفضح دوموسلافسكي استراتيجية كراهية الأجانب المناهضة للهجرة في الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، ويعارض بناء جدر جديدة بين الشمال والجنوب. ولا يفوته الحديث عن موجات اللاجئين التي غصت بها الجزر اليونانية، فيناقش مسألة الحرب في سوريا، وسياسة اللامبالاة بتراجيديا الأبرياء، هذه المأساة التي ستفتح أبوابا أخرى للمستبعَدين الجدد.

مما سبق، يمكن التأكيد أن مؤلف "المسبعدون" لا يقدم خطابا ساذجا، يستدر به عاطفة القارئ، بل يجهد ليبين أسباب نشوء حالات الإقصاء، التي يعيشها ملايين البشر، من منظور تاريخي واجتماعي، مستعرضا الأوضاع الراهنة في بلاد كثيرة متناثرة على قارات ثلاث. ومن الجيد أن الكتاب يُسمعنا أصوات أولئك الذين يشعرون بالمسؤولية تجاه المهمشين المحرومين، فندرك أنهم ليسوا وحدهم قلقين في مهب الإقصاء. ويمكن القول بقوة إن "المستبعدون" ليس كتاباً سهل القراءة، فهو يترك أثرا بالغا في القارئ الذي يعد نفسه إنسانا أولا وأخيرا. وفي الختام يجب القول إن الكتاب ينبغي له أن يأخذ مكانًا يليق به في المكتبات العالمية، إن اتسع صدر عالم الديمقراطية الليبرالية لأطاريحه.

-------------------------------------------------

عنوان الكتاب: المستبعَدون (Wykluczeni)

المؤلف: آرتور دوموسلافسكي

الناشر: Wielka Litera

مكان النشر: وارسو، بولندا 

سنة النشر: 2016

لغة الكتاب: البولندية

عدد الصفحات:  576 صفحة

أخبار ذات صلة