إشراف نادر هاشمي وداني بوستل
محمد الشيخ
أَلَا ما أحوجنا إلى ابن جني -وكان من أعلم علماء العربية بالاشتقاق والتوليد والنحت؛ وهي من أهم الموارد التي ترفد اللغة العربية بالمفاهيم الجديدة- حتى نستلهم منه كيف نشتق من لفظ "الطائفة" فعلا أو مصدرا يفيد دلالة تحويل قوم إلى طوائف! أهو يا تُرى لفظ "التطويف" أم "التطئيف" أم "الطوأفة" أم ماذا؟
فقد ائتلف لفيف من علماء السياسة والمؤرخين وعلماء الأنتربولوجيا ودارسي الأديان بغاية فحص هذه الظاهرة -ولنسمِّها مؤقتا "الطوأفة"، عملا بقاعدة أسلافنا: إذا تبين المعنى فلا مشاحة في الألفاظ- بما تُبين عنه وما تخفيه، على النحو الذي تطورت به عبر حقب معينة، وبإعمال آليات نظرية في التحليل والنقد محددة، وعبر دراسة حالات عدة (العراق، سوريا، لبنان، البحرين، اليمن، الكويت، العربية السعودية، إيران وباكستان)، وذلك عبر فصول نظرية وتطبيقية تفحص طبيعة هذه الظاهرة -تصيير الشعب طوائف قابلة للتناحر في أية لحظة وعند أول شرارة- وقد رسم هذا اللفيف خريطة هذه السيرورة الطوأفية، وحللها، واستكشف لا فقط "كيف" حدثت، وإنما "لماذا" حدثت.
وتشهد بنية كتاب "الطوأفة" على تصميم محكم: تقديم بقلم المشرفَيْن، وقسمان: نظري وعملي، وخاتمة. وقد تضمن التقديم التعريف بالظاهرة وسياقاتها وعللها، كما تضمن القسم النظري (أربعة فصول) الحديث عن الطوأفة من منظور تاريخي وجغرافي-سياسي نظري، ودار القسم التطبيقي (تسعة فصول) على طريقة اشتغال عملية الطوأفة من خلال دراسة حالات (على الترتيب: باكستان، العراق، سوريا، السعودية، إيران، اليمن، البحرين، لبنان والكويت)؛ فضلا عن خاتمة عبارة عن سيناريو لإعادة بناء الدولة في الشرق الأوسط ونزع الطابع الطائفي عن السياسات المتبعة في معظم دوله.
تقديم الكتاب
اصطنع مقدما الكتاب -نادر هاشمي وداني بوستل- منهجا في التقديم، قام على لحظتين أساسيتين: لحظة الهدم، ولحظة البناء. فقد عمدا، بداية، إلى هدم التصورات السائدة حول الطائفية بالشرق الأوسط، لا سيما منها ذاك التصور -يمكن أن نسميه "التصور الماهوي"- الذي يعتقد أن هذه المجتمعات محكومة بالصراع الطائفي منذ أن جاء الإسلام وإلى الأبد. وذلك بناء على تعلة أن الوضع الحالي سليل فجر الإسلام وانشقاقاته الكلامية السياسية الأولى. وهذا التصور هو ما تكاد تجمع عليه الأصوات الصحافية الغربية، كما الأصوات الأكاديمية سواء بسواء. ومجمل دعاوى مقدمي الكتاب والمساهمين فيه تدور على بناء تصور مضاد. إذ الكتاب محاولة لتفنيد هذا "التصور الاستشراقي الخمول" الذي يرى في "الطوأفة المتأصلة والمتجذرة والعابرة للتاريخ" مفتاحا لفهم الداء الذي أصاب الشرق الأوسط في مقتل. إذ الطوفأة "عرض" وما كانت "أصلا"، وهي "نتيجة" وليست "سببا"، وشأنها أنها "تُبنى" لا أن "تُعطى". ومن هنا، دعوة أصحاب الكتاب إلى ضرورة تغيير النقاش حول الطوأفة، وذلك بتوفير بديل يمكنه أن يفسر -التفسير الأفضل- الصراعات الواقعة في الشرق الأوسط، ولماذا تحولت حركة انتفاضات غير طائفية أو عبر طائفية (غير عنيفة) إلى معارك طائفية وحروب أهلية. وهكذا، يلاحظ مقدما الكتاب، كما المساهمون فيه، أن الصراعات الطائفية اشتدت كثيرا في الآونة الأخيرة. لكن السؤال الذي يطرحونه هو: لماذا؟ ما الذي يفسر تأجج الصراع الطائفي في هذه اللحظة بالذات في العديد من المجتمعات الإسلامية؟ وكيف يمكن أن نفهم هذه الظاهرة الفهم الأفضل؟
ولكي يجيب الباحثون عن هذه التساؤلات، يقترحون إعمال اصطلاح "الطوأفة". ويعرفان "الطوأفة" على النحو التالي: الطوأفة هي سيرورة (عملية) شكَّلها مختلف الفاعلين السياسيين الذين يشتغلون داخل سياقات خاصة، رامين بذلك إلى أهداف سياسية تقتضي التعبئة الشعبية حول سمات هوياتية خاصة (دينية)، كما أن الديناميات الطبقية والدول الهشة والتنافسات الجيو-سياسية تشارك بدورها في صناعة عملية الطوأفة هذه.
هي ذي "الطوأفة"، فما أسبابها؟
يستبعد الباحثون أن تكون "الطوأفة" عملية قديمة شكلت "ماهية ثابتة" في التاريخ الإسلامي عابرة له منذ زمن الفتنة، ويقولون بما يمكن أن نسميه "الأطروحة السياقية" -ضدا على "الأطروحة الماهوية"- التي ترى أنه يوجد في السياق العربي المعاصر ما أنشأ الطوأفة. وهذا الذي أنشأ الطوأفة هو ما يسمونه "النزعة السلطوية" أو "النزعة التسلطية" Authoritarianism للأنظمة العربية. ذلك أن هذا النمط من الحكم السياسي هيمن لأمد طويل على سياسات الشرق الأوسط، فكان أن أرخى ميراثه الثقيل بظلاله العميقة على سياسات المنطقة وعلى مجتمعاتها. وبالجملة، السلطوية -وليس اللاهوت- هي العامل الحاسم الذي شكل عملية الطوأفة.
تُرى: كيف حدث هذا الذي حدث؟
والجواب: لقد عمدت الأنظمة السلطوية -عن قصد- إلى تسخير الهويات الطائفية بمختلف الطرق، وتلك إستراتيجية منها اتخذتها عنوة لإفشال مطلب التغيير الاجتماعي الملح، وبغاية استدامة سلطتها المهترئة. فضعف الدولة، وليس قوتها، هو الذي حمل هذه الأنظمة على تأجيج عملية الطوأفة. وما الضعف سوى الوجه الآخر للاستبداد. إذ الدولة السلطوية، وعلى عكس ما تريد أن تظهر به، عاجزة عن حكم المجتمع بحكم ديمقراطي، وهي إذ تلجأ إلى الزبونية والمحسوبية والمحاباة تخلق أزمة مشروعية. وذاك ديدن ما سماه الباحث السياسي الأمريكي جويل ميجدال منذ أمد -في كتابه "المجتمعات القوية والدولة الضعيفة: العلاقات بين الدولة والمجتمع ومقدرات الدولة في العالم الثالث" (1988)- باسم "الدولة الضعيفة". إذ بما أنه للدولة الضعيفة مقدرة محدودة على ممارسة الرقابة الاجتماعية على المناطق التي تدعي السيادة عليها، فإنها تلجأ إلى خلق التنافسات بين الانقسامات الاجتماعية (فرق تسد) عن طريق التقسيم والتحكم؛ ومن ثمة تخلق الطوأفة.
والحال أن هذا السياق السياسي المضاد للديمقراطية ضروري لفهم الصراع الطائفي في المجتمعات الإسلامية اليوم، لا سيما في تلك المجتمعات التي تحتوي على أمزوجة من الساكنة سنية وشيعية. وإذا كان منظِّر الحرب البروسي كلاوزوفيتش قال: إن الحرب مواصلة للسياسة بوسائل أخرى، فإن الصراع الطائفي في الشرق الأوسط اليوم استدامة للحكم السياسي السلطوي عبر تجييش الهوية. بهذه الخلفية السياقية تصير الطوأفة مفهومة في الشرق الأوسط اليوم. ذلك أن الهويات الطائفية لا يمكن أن تُحشَد وأن تُجَيَّش إلا إذا تم تسخير الاختلافات في الاعتقادات والذاكرة التاريخية للدفع بالجماعات الدينية إلى مبادرة جماعية طائفية تدور على هويات خاصة. ومن هنا أيضا إشكال هذا الكتاب برمته: لماذا تشتد الصراعات الطائفية اليوم في الشرق الأوسط؟ ولماذا في هذه المنطقة بالذات وليس في غيرها؟
هو ذا ما ينطبق على العديد من البلدان الإسلامية منذ الستينيات من القرن الماضي. على أن المفتاح الجوهري لفهم التطور الذي قاد إلى بروز الطوأفة نجده في عام الثورة الإيرانية. ومنذ حينها لاحت في الشرق الأوسط معالم تنافس إيراني سعودي -اشتد أحيانا ولان أحيانا أخرى- كانت الطوأفة إحدى معالمه البارزة. ولقد شكل "الربيع العربي" عام 2011 نقطة تحول جوهرية في العلاقات السعودية الإيرانية خاصة، وفي العلاقات السنية الشيعية بعامة. وكل من إيران والسعودية اصطف وراء الطوأفة بغاية صرف الانتباه عن المطالب الشعبية بالتغيير السياسي، ولكسب مزيد من النفوذ داخل المنطقة. وقد بدا ذلك واضحا في الصراع على البحرين، وفي تحميل كل دولة للأخرى وزر الانتفاضات التي وقعت على أراضيها، كما تجلى فيما بعد على أرض سوريا واليمن والعراق ولبنان. وكانت قضية إعدام نمر النمر آخر ما أجج هذا الصراع الطائفي، حتى حمل تركيا على المشاركة في الجدل. وقد لعبت وسائل الإعلام دورا خطيرا على هذا المستوى بالنفخ في الجمر. وبهذا، أصبح التجييش حول الهويات الطائفية أيسر نتيجة لهذه الأحداث.
وبالجملة، تكمن أطروحة الكتاب الأساسية في القول: الاستبداد لا الميراث هو السبب في تنامي الطوأفة. وما كانت الطائفية ماهية راسخة للدول الإسلامية، وإنما كانت تشتد وتلين حسب السياقات. ومن ثم لزم تجاوز الوقوف بالتحليل على التباينات العرقية الأولى ودفع السلطات الدينية بهذه التباينات، نحو تسليط العناية على أثر سلطة الدولة وعلى العلاقات بين الدولة والمجتمع.
أقسام الكتاب وفصوله
تم تبويب الكتاب إلى بابين حسب زوايتي نظر: سعى الباب الأول -الموسوم: "الطوأفة من منظور تاريخي وجيو-سياسي ونظري"- إلى توفير صورة شاملة عن ظاهرة الطوأفة. وقد أسهمت في هذا الباب طائفة من أبرز الباحثين في هذا الحقل، بحيث لا يكاد يوجد فيها باحث لم يصدر له بحث ضاف في الظاهرة. وهكذا، نجد على الترتيب البحوث التالية: أولا: بحث أسامة مقدسي -أستاذ التاريخ وأستاذ كرسي الدراسات العربية بجامعة رايس، وصاحب كتاب: "ثقافة الطائفة"- والذي حمل عنوان: "مشكلة الطوأفة في الشرق الأوسط في عصر الهيمنة الغربية". وقد ركز على البعد الحديث لمسألة الطوأفة. إذ ما كانت هي صنعة وسيطية، وإنما هي نتاج القوى الحديثة والظروف الحالية. وقد نبه صاحب البحث إلى الجدل الذي حدث بين المرويات المحلية للاستعداء الطائفي والتدخل الغربي، داعيا إلى استعادة تاريخ التعايش في الشرق الأوسط باعتباره أمسى حاجة مستعجلة أكثر من أي وقت مضى. ثانيا: بحث الباحث السياسي باسل صلوخ -أستاذ في الجامعة الأمريكية ببيروت، وصاحب كتاب "سياسة الطوأفة في لبنان ما بعد الحرب" (2015)- بعنوان "الطوأفة الجيو-سياسية في الشرق الأوسط". وقد رسم الباحث معالم صورة عامة عن سيرورة الطوأفة وعن صلاتها بالديناميات الجيو-سياسية بالمنطقة، لافتا العناية إلى أن موجة الطوأفة سائرة إلى التمدد عبر المنطقة كالحريق، مؤكدا على أن جذورها لا تعود إلى ما قبل العصر الحديث بقدر ما أسهم في تأجيجها الفاعلون السياسيون المحليون اليوم... وذلك بغية الدفاع عن الأنظمة السلطوية ضد منافسيها المحليين. وقد وقف على الإسهام الإيراني السعودي في عربدة المرويات الهوياتية والرمزية، وأبرز كيف تأجج ذلك بعد الانتفاضات العربية، وحذر من عواقب ذلك على المنطقة برمتها. ثالثا: بحث الباحث يزيد صايغ "المنطقة العربية ونقطة التحول الكبرى". وفيه حاول الباحث أن يجد معنى وسط الفوضى التي تعم الشرق الأوسط اليوم -وقد بلغت أوجها مع داعش- وذلك بالعودة للحدود التي رسمتها اتفاقية سايكس-بيكو منذ قرن، ساعيا إلى فهم ما إذا كانت بوادر الأزمة تعود لرسم هذه الحدود أم لا. وقد خلص إلى أن "التهديد الحقيقي" لم يأت من موقع الحدود نفسها، وإنما مما أمسى يحدث داخل هذه الحدود في العشرية الأخيرة، من مزيج متفجر من القمع السياسي والجمود السوسيو-اقتصادي والتخلف البشري، مذكرا من يريد إعادة تشكيل مجتمعات وسياسات المنطقة على ضوء الطائفية والعرقية بأنهم إنما يغفلون عن هذه الحقائق الاجتماعية والاقتصادية. رابعا: ختم الباحث الأمريكي المعروف في عمان ببحوثه عن الإمامة والشورى آدام جايزر -الذي يعد كتابا في موضوع: "الأمة المنقسمة: الطوائف والمدارس الإسلامية"- هذا الباب ببحث تحت عنوان: "مقاربة للطوأفة من خلال مروية الهوية"، سعى من خلاله لنقل دراسة الطوائف الإسلامية والهوية الطائفية من اعتبارها سمة لازمة للهوية الدينية -الاعتبار الكلاسيكي- إلى اعتبارها دينامية وسيرورة موعى بها لتبني بعض أشكال مروية الهويات وحفظها وتوجيهها في مواضع معينة وأوقات محددة. ذلك أن من شأن الأفراد أن يجدوا أنفسهم متورطين في "مرويات طائفية" خاصة. وهي مرويات لبعض الشيعة العراقيين ولبعض أتباع الدواعش أمست تتنوع وتعلن عن نفسها على نحو درامي. لكن ما يهم جايزر هو فحص كيف يحدث التوريط في مروية التماهي عبر الزمان، وهو يرتئي أن على الفاعلين في مجال الطوأفة أن يوقفوا -لدواعٍ عدة- المشاركة في تغذية مروياتهم الطائفية، وأن يسقطوا من اعتبارهم العنصر الطائفي في هوياتهم.
هذا.. ويتعلق الباب الثاني من الكتاب بدراسة كيفية اشتغال الطوأفة من خلال حالات. وقد عمل بحث فاني نصر -وهو عميد وأستاذ العلاقات الدولية في جامعة هوبكينس، وله كتابان حول الإحياء الشيعي وصناعة سلطة الدولة في الإسلام- "السياسة الدولية والمتطلبات الداخلية والتجييش الهوياتي: الطوأفة في باكستان (1779-1998)" على الوصل بين بابي الكتاب. ولاحظ أن درجة شدة الصراع الطائفي تتباين جغرافيا حيث تتعايش الساكنة السنة والشيعة. وتساءل: ما هي العوامل التي تفسر هذا التباين؟ والذي عنده أن كل شيء موكول إلى دور الزعماء الدينيين والمبادرين السياسيين. ويدعو إلى اعتبار عامل ممثلي الدولة في التجييش الهوياتي. ذلك أنه في الماضي عالجت نظريات النزاع العرقي الدولة باعتبارها فاعلا سلبيا في التجييش الهوياتي، بينما يرى نصر أنه عوض اعتبار الدولة ضحية سلبية للتجييش الهوياتي ينبغي اعتبارها الفاعلة فيه. إذ للدولة يد كبرى في التطويف، وهي تستعمل المتصارعين وتوجههم وتشجع التجاذبات الهوياتية وتستثيرها. ولا يعني هذا أن فاعلي الدولة يدعمون قضية طائفة ضد أخرى، وإنما يأخذون بالحسبان الربح السياسي الذي يجنونه من النزاع بين الهويات المتنافسة.
وقد دار الفصل الثاني من هذا الباب "العلاقات الطائفية قبل الطوأفة في عراق ما قبل 2003" والذي كتبه فنار حداد -وهو باحث في جامعة سنغافورة، وصاحب كتاب: "النظام الطائفي في العراق: رؤى تنازعية حول الوحدة" (2011)- على تحديد دلالة "الطائفي" و"الطائفية"، ورسم صورة للتداخلات في العلاقات السنية الشيعية بالعراق قبل الاحتلال الأمريكي. ورأى الباحث أن انفجار الصراع الطائفي الذي نشهد عليه اليوم بالعراق ما كان مجرد نتاج حتمي للتعدد الطائفي في ذاته ولذاته، وإنما هو ثمرة مرة لبروز الدولة القومية الحديثة. فهو نابع من الديناميات السياسية المتجادل حولها، ومن صلته ببناء الأمة والهوية القومية وسوء تدبير التعدد الطائفي، وفي النهاية بمشروعية الدولة. وتناول الفصل الثالث الحالة السورية؛ حيث عمد أستاذ الأنتربولوجيا البرازيلي بول جابرييل هيلو بينتو -صاحب كتاب: "إثنوغرافيا الإسلام" (2012)- إلى تسليط الضوء على طوأفة الصراع السوري الذي كان قد بدأ مختلفا غير طائفي (طائفتي هي الحرية)، وانتهى طائفيا. وأبرز الباحث كيف أن نظام الأسد -وعن قصد- لعب على الحبل الطائفي عبر استعمال آلية القمع -"التوزيع الطائفي للعنف"- وكيف أن بعض الزعماء السنة عضوا على الطعم وألهبوا طوأفة الصراع من أسفل، وكيف تداخلت عوامل أربعة في صناعة الطوأفة: من الأعلى (الدولة)، ومن الأسفل (المجتمع)، ومن الخارج إلى الداخل (القوى الخارجية)، ومن الداخل إلى الخارج (الانتشار نحو الدول المجاورة). وفي الفصل الرابع، أوضحت عالمة الأنتربولوجية السياسية المتخصصة في الشأن السعودي مضاوي رشيد -في مقالها "الطوأفة باعتبارها ثورة مضادة: أجوبة السعودية على الربيع العربي"- كيف أنه مباشرة بعد بداية انتفاضتي تونس ومصر وُضعت الطوأفة على رأس أولويات الثورة المضادة التي استعملها النظام السعودي للمبالغة في تبيان الفوارق الدينية وتفادي تطور سياسات غير طائفية. ولصرف الانتباه عن المزاج الثوري الذي انتشر في المنطقة، أقام النظام السعودي التفرقة بين الأغلبية السنية والأقلية الشيعية، بحيث أن الجماعتين صارتا عاجزتين عن إبداع رؤى مشتركة للحراك السياسي. وفي الفصل الخامس، عمد المؤرخ البريطاني ذو الأصول الإيرانية إسكندر صديغي بوروجودي -في مقاله: "العمق الإستراتيجي للانتفاضة المضادة ومنطق الطوأفة: المذهب الأمني للجمهورية الإسلامية الإيرانية وآثاره الجهوية"- إلى إظهار كيف أن إيران أسهمت في منطق الطوأفة في كل من العراق وسوريا بطرق مختلفة. ورأى أن سياسات إيران هذه ما كان الباعث عليها التعاطفات الطائفية المفترضة، لا ولا المزاعم بشأن نزوع إيران إلى الهيمنة على المنطقة، وإنما مقتضيات "السياسة الواقعية". ودار الفصل السادس على الحالة اليمنية. وقد عمدت عالمة السياسة ستيسي فيلبريك ياداف -صاحبة كتاب: "الإسلاميون والدولة: المشروعية والمؤسسة باليمن وبلبنان" (2013)ـ إلى تقديم عرض تاريخي نقدي عن عملية الطوأفة المعقدة باليمن، منتهية إلى أن لا شي كان قد بذل من أجل تفادي البعد الطائفي الذي يدمر اليمن الآن، وأن المؤسسات الانتقالية التي أعقبت الانتفاضة اليمنية ساعدت -بالعكس من ذلك- على إنتاج الصراع الطائفي الذي كانت سعت إلى حله، وأن ما تفاداه اليمنيون من طائفية في انتفاضتهم إنما حققته الحرب بطرق لم تكن لتخطر على بالهم. ويعرض الفصل السابع إلى الحالة البحرينية. وفيه يتطرق توبي ماتيزن -صاحب كتاب: "الخليج الطائفي: البحرين والعربية السعودية والربيع العربي الذي لم يحدث" (2013)، وكتاب: "السعوديون الآخرون: السنة والمنشقون والنزعة الطائفية" (2015)- إلى التاريخ الطويل لسياسة التجييش العابر للطوائف في الجزيرة. ويظهر كيف أن العائلة الملكية بالبحرين تبنت حركات إسلامية سنية لكي تقيم التوازن بها مع الحركات الشيعية التي بزغت بعد الثورة الإيرانية، وكيف أنها اتبعت سياسة التأثير عبر الطوأفة من خلال القمع الدموي لانتفاضة عام 2011، ويختم بأن الطوأفة مقصودة في البلاد، وهي إستراتيجية لإطالة أمد النظام، وإحباط إمكان تكتل ينشد التغيير الديمقراطي.
ويتعلق الفصل الثامن بمعمار الطوأفة بلبنان. وهو بقلم باسل صلوخ ضمن مساهمته الثانية في الكتاب. ويرى فيه أن ثمة "مأسسة" للهويات الطائفية في النظام السياسي اللبناني، وذلك كإرث ارتبط بتشكيل الدولة وليس كأساس تاريخي عتيق. ذلك أن مأسسة الهويات الطائفية تم بناؤها تاريخيا وقادت إلى تفاهمات قبل الحرب وبعدها، وهي تعود إلى سياسة طوأفة الهوية وإلى العلاقات بين الجماعات وإلى أنماط التجنيد السياسي في البلد. ويقترح الباحث إعادة التفكر التخيلي في هذه التفاهمات بما أنها انتهت إلى المأزق الحالي، منهيا ذلك بالحديث عن حركة "طلعت ريحتكم" التي تعد بمثابة شكل مقاومة للنظام الطائفي. ويدور الفصل الختامي على الحالة الكويتية؛ حيث تعمد مادلين ويلز في مقالها: "الطوأفة والسلطوية والمعارضة بالكويت" إلى التأكيد على دور النظام في تكريس السلطوية وفي إقامة التوازن بين القوى الداخلية المتعارضة، وترى أن المخرج من الوضع ليس الطوأفة بقدر ما هو الحد من السلطوية.
خاتمة الكتاب
الدعوى المفتاح في هذا الكتاب هي أن الطوأفة تفشل في تفسير الفوضى الحالية القائمة بالشرق الأوسط. ذلك أن النظر إلى المنطقة عبر منظار طائفي من شأنه أن يضبب الحقائق المعقدة المتعلقة بسياسة المنطقة أكثر من أن ينيرها. والحال أنه يجب النظر إلى عدم الاستقرار الحالي بكونه ناجما عن سلسلة أزمات التنمية التي تجد أوجها في انهيار سلطة الدولة. والحدس الجوهري في الكتاب هو أن السياسة الطائفية في الشرق الأوسط المعاصر "أثر" عميق من آثار السلطوية السياسية وليست "سببا". ذلك أن الحكم السلطوي فشل في تدبير العلاقات بين الجماعات، فكان أن ركب الدعاة السياسيون على الطائفية بغاية إخفاء ضعف الدولة، وكان أن عملوا على التجييش الشعبي للحقد الطائفي وعلى استعداء الجماعات بعضها ضد بعض.
وأخيرا، ما البديل؟
أجمع المساهمون على الدعوة للحد ما أمكن من التنافسات الجهوية -التي يشكل التنافس السعودي الإيراني لبها- باعتباره شرطا مسبقا لتحقيق أي تقدم من شأنه التقليل من العنف الطائفي في الشرق الأوسط. لذلك لا غرابة أن يترك المشرفان على الكتاب الكلمة الأخيرة لخبير إعادة بناء السلام تيموتي سيسيك. وقد استكشف وصفات لنزع الطوأفة وقلب موازين النزوع الطائفي المتصاعد في الشرق الأوسط، وطرح الموضوع في إطار مقارن مع عديد من التجارب الدولية، شأن تجربة أيرلندا الشمالية والبوسنة. وهو يعول على المجتمع المدني وعلى الأمم المتحدة وعلى المنظمات التوسطية الجهوية وعلى منظمات الشراكات التنموية في بناء السلم في منطقة شديدة الطوأفة، منهيا بذلك بحثه هكذا بنبرة إيجابية تفاؤلية.
--------------------------------
- الكتاب: "الطوأفة".
- المشرفان: نادر هاشمي وداني بوستل.
- الناشر: "Oxford University Press"، 2017م.
- عدد الصفحات: 384 صفحة.
