عاطفة المسكريَّة
عِندما يُوْلَد الإنسانُ يتأثَّر بالبيئة المحيطة به، بما فيها من أفكار وعادات وعقائد، وتقر بعض الأديان بذلك، بما فيها ديننا الإسلامي الحنيف، بغضِّ النظر عمَّا إذا كان تأثيرا صحيحا سليما أو غير سليم. يقول صلى الله عليه وسلم في حديث له: "مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ". فهنا، دلالة على تأثير الأفراد المحيطين -تحديدا الوالدين- على الفرد نفسه منذ مراحل مبكرة من حياته، ونستطيع القول بأنَّ هذا التأثير يستمر مع الإنسان مدى الحياة في الغالب إلا ما ندر. بمعنى آخر: لا يُولد الإنسان ويُسأل عمَّا يريد أن يعتنق من ديانة مثلا، إنما لا نُبالغ إنْ قلنا بأنَّ الأفكار وحتى العقائد تُفْرَض عليه بشكل غير مباشر؛ حيث يتوقع من المولود أن يمشي على نهج وعقيدة والديه.. يتم تلقينه باكرا، وغالبا ما يستجيب الفرد لذلك.
فإنْ فعلوا، أصبحوا أشخاصا طبيعيين يستطيعون الانخراط في المجتمع الذي هم فيه بشكل طبيعي، إلا أنَّ العكسَ صحيح؛ حيث إنَّ عدم الاستجابة للنهج السائد لأي سبب كان من قبل الأفراد -كالمؤثرات خارجية مثلا- قد تجعلهم يصبحون منبوذين مكروهين في مجتمعاتهم، إلى الحد الذي قد يمنعهم من ممارسة حيواتهم الطبيعية في بعض الأحيان، خاصة في المجتمعات التي تكون القوانين فيها موضوعة بطريقة قد تؤذي الأقلية المختلفة فيه. ورغم ذلك، ظهرت فلسفة الأنوار التي تشير إلى أهمية الخروج من الوصاية أيًّا كان نوعها، والسماح للأفراد بالاختيار المبني على التفكير. إذا ما جئنا نتفحَّص الواقع نجد أنَّ ذلك مُتاح، لكن بطريقة عكسية، أي يلقن الفرد أولا، ومن ثمَّ تُصبح له حرية التفكير مُستقبلا، عندما يُصبح مؤهلا لذلك بحكم نضجه، بغضِّ النظر عمَّا إذا كان يسمح له المناقشة والسؤال على الملأ أم لا. وناقش الكاتب والباحث مُحمَّد زاهد جول، في مقاله المنشور بمجلة "التفاهم" بعنوان "فلسفة الأنوار والفكر الإصلاحي الإسلامي"، هذه الفلسفة التي برزتْ، وأدَّت لظهور فلسفة النقد الديني في القرن الثامن عشر الميلادي.
وكان هناك تحوُّل في المسار الإنساني في تلك الفترة؛ حيث كان التوجُّه نحو العلم والعقل والحرية، بعيدا عن "الخرافات". وبنيت هذه الفلسفة حقيقة على مبادئ رئيسية تستند إليها؛ ألا وهي: الرشد، والنقد، والشمول. أولا: الرشد؛ حيث يكون الإنسان قادرا على التفكير بحرية دون إملاء من طرف آخر أو تأثير خارجي؛ مما يعني الاستقلال التام المبني على الإبداع النابع من دواخله. ولكن من الجدير بالذكر في هذه النقطة بالتحديد أنَّ الأطراف الخارجية لا يشترط أن تفرض فكرها أو قيمها على الفرد، إنما تنقل تجربتها مثلا في سبيل الإفادة واكتساب الخبرة، وتوفير الوقت الذي قد يستغرقه الإنسان في التوصل إلى نفس النتيجة التي سبق وتوصل إليها شخص آخر بعد عملية تفكير مُعمَّق. فتطبيق مبدأ الرشد قد يستغرق وقتا غير هين من حياة الإنسان في سبيل فهم الفكرة بنفسه دون تأثير الأطراف الأخرى، ولكن من ناحية أخرى ذلك قد يستخدم كعذر للتقاعس عن التفكير أيضا، فيجدر على الفرد أنْ يتزن ويقرِّر ما يريد التوصل إليه بنفسه في حال توافرت السبل إلى ذلك. أمَّا بالنسبة لمبدأ النقد في فلسفة الأنوار، فيعني إخضاع كل شيء لمبادئ العقلانية! مع وضوح محدودية عقل الإنسان كونه لا يستوعب كل ما يحيط به؛ حيث توجد أمور كالغيبيات لم يجبل عقل الإنسان على استيعابها أو التحقق منها -وأبسط مثال على ذلك ما يحدث للإنسان بعد الممات- فالموت حق ظاهر يراه كل البشر، ومع ذلك لا يستطيع أحد التحقق مما يحدث بعده؛ لأنها تعد أموراً غيبيَّة لا يعلم بها إلا الله، وينبغي على البشر التسليم بها.
ويعدُّ الشمول -مثلما سبق ذكره- مبدأً أخيراً في فلسفة الأنوار، ويشير إلى إلغاء كل أنواع الحدود خاصة الفكرية منها. قد تجري محاولات التجديد هذه وإعادة فهم الأمور ووضعها تحت المجهر إلى الرغبة في الإصلاح؛ فهناك علاقة بين الإصلاح والأنوار؛ حيث تزداد الرغبة في المعرفة والاستيضاح. تأثر العرب بهذه الفلسفة كذلك، لكنهم علموا بها عن طريق احتكاكهم بالغرب في عصر النهضة الأوروبية، كون ذلك العصر بالتحديد حمل أفكارا مُشابهة لجوهر فلسفة الأنوار المناهضة للوصاية الدينية والحكم المطلق. فيعرف عن هذه الفترة الزمنية ما حدث أثناء الثورة الفرنسية من مقاومة لحكم الاستبداديين. وبالتالي؛ فالفكر الإصلاحي الإسلامي اكتشف مدى تطوُّر الحضارة الغربية، ومدى تمدُّنها؛ حيث لم يبق المسيحيون هم أنفسهم الذين كانوا في الحروب الصليبية، وإنما أصْبَح لديهم فائض معرفي انعكس على تطوُّرهم في مجالات كثيرة. فظهرت فئتان في العالم الإسلامي: فئة تأثَّرتْ بشكل إيجابي حيث رغبت بالإصلاح إلى الحد الذي لا يمس الأسس والجوهر الإسلامي. والفئة الأخرى: جرَّها الانبهار إلى "النزق"؛ حيث أرادوا استنساخ التجربة ككل ولو على حساب القيم والأسس الإسلامية. ما حدث تفصيلاً أنَّ بعض المصلحين العرب ركَّزوا على اقتباس العلوم الطبيعية التي ستجدي نفعا فقط من الغرب، مُؤمنين بأهمية إعادة الإسلام إلى سابق عهده من مجدٍ وقوَّة. أمَّا الفئة الأخرى، فكانت تُصر وتدعو لقطيعة الأمور الغيبية المسلَّم بها من قبل المسلمين، بل إنَّ البعض رأى أنَّ النهضة الإسلامية والتطوُّر والإصلاح كلها تعدُّ أموراً مستحيلة وصعبة التحقق إذا لم ترتبط الأمة بالتقاليد الأوروبية كلها، مع تجاهل كل الموروثات الإسلامية وما فيها من أوامر وأحكام. وما يجب الإشارة إليه هنا أنَّ التقليد الأعمى الذي شمل كل نواحي الحياة الأوروبية جعل هذه الأمة تسقط بسهولة في يد الاستعماريين؛ لأنَّ كل ما لديها عبارة عن نسخة مكررة يسهل التعرف على كافة تفاصيلها ومكامن الضعف والقوة فيها كذلك؛ حيث إنَّ الممكن والمعقول في مثل هذه الأوضاع أن يخلق التوازن؛ بمعنى أن لا تقيدنا الوصاية أيًّا كان نوعها، ولا تضللنا الحرية أيضًا.
