بالقوة تعلو الخلافة وتخبو

فاطمة بنت ناصر

لقد مرَّت الخلافةُ الإسلاميةُ بتَحولاتٍ عَظيمةِ حالها كحال أيِّ كيان حيٍّ يؤثر فيه فعُل الزمن. ولعلَّ أبرز هذه التَّحولات انتقال الخلافة من العباسيين إلى العُثمانيين. وفي هذا الانتقال دلائل كبيرة وعميقة، ففيه الانتقال الأوَّل للخلافة من حيزها الجغرافي المكاني – البشري. فمن خلافة بدأت واستمرت في أحضان العرق والتراب العربي إلى أوردة وأزقة حملت دماء تركية.

ولقد تَضارْبت القِصصُ حول انتقال الخلافة كونه رسمياً أم لا وهذا لايَهُم إن كان حدث فعلاً. حول هذا الانتقال وقصصه وجداله نستعرض في هذا المقال ما كتبه مُحمد عفيفي في مجلة التَّفاهم بعنوان: (حدود الدين وحدود الدولة: قراءة في تطور مفهوم الدارين بين الخلافة والسلطنة العثمانية).

بداية ضعف الخلافة

باجتياح التتار لبغداد عاصمة الخلافة العباسية عام 1256م، بدأت مرحلة جديدة وأصبح لزاماً أن يُعاد ترتيب الأدوار ومن يلعبها. فالخلافة الإسلامية في ذلك العهد كانت قد بلغت من القوة والاتساع، لتتكون بها ممالك متفرعة وسلاطين وملوك يقفون على شؤونها. فكما يبدو كلما زاد الاتساع ضعفت السلطة المركزية لبغداد مقر الخلافة، وأصبحت الخلافة تمثل استمرارية قد تكاد تكون شكلية لإرث تم توارثه منذ موت النبي الكريم. وبعد سقوط بغداد والخلافة فيها توجهت الأنظار إلى مصر، فهي الحاضرة الثانية بعد بغداد بحكم ازدهارها وجذورها الضاربة، إلا أنَّ مصر كانت تحت حكم المماليك الذين يستشعرون بضرورة وجود المباركة القرشية لهم بحكم أصولهم العرقية كرقيق. فقد دأبوا أن يكونوا تابعين للخلافة في بغداد.

بعض ضعف العباسيين قوة العثمانيين

بعد ما تحدثنا عنه من ضعف للخلافة العباسية ودخول التتار إلى بغداد، كانت هناك قوى إسلامية تتعاظم في ممالك أخرى أهمها (العثمانيون). وقوة الدول في الغالب يكون لها تبعات لعل أهمها الرغبة التوسعية والتي غالباً ما ينتج عنها صراعات وصدامات. سقوط بغداد ووجود مصر كخيار مثالي ساهم في صناعة أهم اللحظات التاريخية التي توجت بالفتح العثماني لمصر عام 1517، فهو الحدث الذي أدى إلى تبعية الحجاز إلى السلطة العثمانية. وقد أسلفنا أنَّ الدولة المملوكية كانت تصر على تبعيتها للخلافة العباسية للأسباب التي ذكرناها. ولكن ماذا حدث عند فتح العثمانيين لمصر؟ هل تبع السلطان سليم الخليفة العباسي المتوكل؟

تضارب أقوال المؤرخين

كتابات مُؤرخي تلك الفترة هي الدليل الوحيد الذي قد يُثبت أو ينفي التساؤل السابق. ما عثر عليه من كتابات تلك الفترة يشير إلى تضارب في أقوالهم. ولعل أهم ما يستدل به في تحديد نوع العلاقة التي قامت بعد الفتح العثماني للقاهرة هي (الخُطب) وما ورد في كتب المعاصرين لأوصاف وألقاب السلاطين وما تتضمنها من إشارات تُحدد وصفاً لسلطات السلطان/ الخليفة ومكانته في ذلك الوقت. وقد أورد كاتب المقال عدداً منها نستعرض أهمها في القادم:

  1. ابن إياس – يُعد مصدراً معاصراً للفتح العثماني لمصر:

إنَّ الخليفة المتوكل هو من دخل في طاعة السلطان سليم، وقام الأخير باستخدام هذا الأمر في تهدئة الناس وطمأنتهم وإعادة الاستقرار إلى القاهرة. أما الخطبة التي استشهد فيها ابن إياس فتقول:

"وفي ذلك اليوم خُطب باسم السلطان سليم شاه على منابر مصر القاهرة، وقد ترجم له بعض الخطباء فقال:

وانصر اللهم السلطان ابن السلطان، مالك البرين والبحرين، وكاسر الجيشين، وسلطان العراقيين، وخادم الحرمين الشريفين، الملك المظفر سليم شاه، اللهم انصره نصراً عزيزاً وافتح له فتحاً مبينا " .

 

ففي هذه الخطبة نجد أنَّ السلطان سليم لم يقرن اسمه بلقب الخليفة، وأنه قد خلف وضع المماليك فيما يتعلق بالسلطة التي كانوا يملكونها وانتقلت إليه بعد الفتح. فقد انتقلت إليه السلطة الفعلية والإدارية لمصر، بينما الخلافة الرمزية تعود للعباسيين. وأما لفظة خادم الحرمين فهي لا تدل على تولي الخلافة، ولكنها تدل على تبعية الحجاز لسليم ووكالته لرعاية شؤون قوافل الحجاج.

 

  1. ما كتبه الفقيه أبو السعود أفندي في وصف السُّلطان سليمان القانوني:

" السلطان ابن السلطان، السلطان سليمان خان ابن السلطان سليم خان خليفة رسول رب العالمين، ممهد قوانين الشرع المبين، وظل الله الظليل في كافة الأمم، حائز الإمامة العظمى، وسلطان البحر، وارث الخلافة الكبرى كابراً عن كابر، ناشر القوانين السلطانية، والخاقان العاشر، سلطان العرب والعجم والروم، حامي حمى الحرمين"

وهنا تقديم للقب السلطان قبل الخليفة، في دلالة واضحة على أهمية اللقب الأول ورمزية اللقب الثاني.

 

الجدل

لا توجد مصادر تؤكد انتقال الخلافة إلى العُثمانيين بشكل رسمي وبروتوكولي. فكما أنَّ هناك مصادر تؤكد تنازل المتوكل عن الخلافة لصالح سليم ـ، تذكر مصادر أخرى عودة المتوكل إلى مصر واحتفاظه بالخلافة حتى وفاته.

 فما حدث في زمن السلطان سليم ودخوله إلى مصر وتبعات ذلك في توليه شؤون خدمة الحرمين لا يتعدى كونه أمرا استلزمته الظروف وأصبح واقعاً بعد سقوط بغداد، إلا أنه لا يعد دليلاً إلى انتقال الخلافة بشكل رسمي. كما أن لقب الخليفة كما يقول بعض المؤرخين لم يمثل للسلاطين العثمانيين أهمية كبرى فلم تصك النقود باسم حاملها ولم يستفتحوا بهذا اللقب خطبهم. فما ورد في الخطب من إشارة إلى خلافة العثمانيين لا يعدو كونه لقباً يرسخون فيه قوتهم التي وصلوا إليها وليس لتولي الخلافة بالشكل التقليدي.

عبد الحميد الثاني محيي الخلافة الإسلامية

ما حصل قبل السلطان عبد الحميد الثاني كان ضموراً طبيعياً للخلافة بضعف الدولة العباسية. وكما قلنا فإنَّ سلاطين العثمانيين لم تنتقل لهم الخلافة بشكل رسمي. وما كان لا يُمكن عده إلا من قبيل السلطة الرمزية التي تمثلها رعاية شؤون الحج ولقبا شرفيا ومعنويا يضاف إلى لقب السلطان الأساسي والفعلي.

أما السلطان عبد الحميد الثاني فهو من دعا إلى إحياء الخلافة الإسلامية بشكل حقيقي عام 1876 فهو من نص عليها في الدستور.

لم يكن إحياء عبد الحميد قد أتى من فراغ، فهو أحياها لأغراض عديدة منها كما يقول الكاتب:

  1. مواجهة القوى العظمى وتوحيد صفوف المُسلمين لمواجهة قوى الاستعمار.
  2. التصدي للدعاوى الداخلية الساعية لإحياء القومية التركية وتشتيت الأمة الإسلامية التي تؤمن بأنَّ الإسلام لا وطن له.

 

إلغاء الخلافة ودعوات الإحياء

كان ذلك عام 1924 بدعوة قدمها كمال أتاتورك إلى المجلس الوطني التركي، وبها تمَّ فصل الديني عن الشؤون الدنيوية. وكان ذلك بعد مسيرة قرون من استمرار الخلافة في العالم الإسلامي وتأصلها وتجذرها في الأذهان قبل الأحجار، لهذا لم يمر الإلغاء بتلقي سلبي ولكن بعد مرور أربع سنوات فقط نشأت جماعة ( الإخوان المسلمين) واضعة إحياء الخلافة كهدف أصيل لصلاح الأمة، رافعة شعار (الإسلام هو الحل).

الختام

نجد أنَّ حياة وانتعاش الخلافة وأمر ضمورها وضعفها يعود إلى الظروف السياسية لكل زمان. وشرط حصريتها في قريش لم يدم لذات الأسباب. فبالقوة تسقط وبالقوة تعلو وتعلي صاحبها أياً كان عرقه.

 

أخبار ذات صلة