إريك فورنيري
سعيد بوكرامي
يشترك الطب مع الفلسفة في الاهتمام بقيمة ومعنى الوجود الإنساني. وتتجلى هذه القيمة في حالات إنسانية قاسية مثل: الخطأ الطبي أو الموت السريري أو معاناة العلاج من مرض عضال أو تداعيات العلاج المنهكة في الحياة اليومية للمريض ولأسر المرضى الذين يدخلون في صراع فيزيقي ووجودي غير مفهوم. إذا كان الطب يسعى لوضع حلول لمعضلات التوقف عن الحياة، فإنَّ الفلسفة تحاول الإمساك بمعنى ما يجعل الحياة تستحق أن تعاش ويتم لها ذلك بواسطة المفاهيم والنظريات. لكن رغم القواسم المشتركة بينهما إلا أن العلاقة تميزت منذ البدء بالحماس المفرط وتضارب المصالح واستمرت كذلك حتى يومنا هذا.
الكثير من الأشخاص يخوضون تجربة العلاج من مرض ما دون أن يستوعبوا طابع المؤسسة العلاجية وقوانينها المنظمة وأن يدركوا أخلاقياتها المهنية كما أن جهلهم بألغاز سبل العلاج وقوانينه ومصطلحاته الطبية المتعددة والمتشعبة ذات الطابع التخصصي، يجعلهم عرضة للاستغلال والتضليل وربما السقوط ضحية النصب والاحتيال.
ولتحليل هذه العلاقة وإزاحة التباساتها وتحديد أخطائها يأتي كتاب الفيلسوف إريك فرنيري: (من أجل فلسفة جديدة للرعاية الطبية) الصادر حديثاً عن دار لوميو بفرنسا، ليكشف عيوب وأخطاء وكواليس المؤسسة الاستشفائية وذلك من خلال العلاقة بين الفلسفة والطب بصفة عامة والفكر القانوني والإنساني والعلاج الصحي بصفة خاصة. وقد تحقق لإريك فورنيري ذلك من خلال إقامة طويلة ومضنية دامت سنوات داخل المستشفيات الفرنسية سابرا بمعرفة ومنهجية معاناة المرضى وأسرهم وبعض المكلفين بالرعاية الصحية. وكان من بين أهدافه تحديد طبيعة العلاقة بين فيلسوف متخصص بالأخلاقيات الطبية والممارسات العلاجية ومن ثم تشريح حالات معينة من الرعاية الطبية التي تبدو معقدة من حيث عيشها والتفكير بها. وفي خضم ذلك قارب الكاتب المفاهيم المختلفة للأخلاق المهنية مستعرضاً القضايا الأخلاقية والاجتماعية للحالات المعقدة (إنهاء الحياة/الموت الرحيم، استئصال الأعضاء والتبرع بها، التجارب السريرية المشبوهة، اتخاذ القرارات، مكانة الأقارب في الرعاية الصحية... إلخ) لأجل توفير بعض الوسائل اللازمة للتفكير وتشجيع التفكير النقدي لكل مواطن يواجه هذه الحالات.
الكتاب تجربة فريدة حول الفلسفة والأبعاد الإنسانية، لأنه يجعل من أهدافه الأساسية تقديم إجابات واضحة عن الوضع العلاجي، للمساعدة على التفكير في تجربة المرض، وعلاقة المريض من جهة بمرضه ومحيطه الاستشفائي وعلاقته بأسرته من جهة أخرى.
ازدادت المؤلفات الفلسفية المهتمة بالصحة والرعاية الصحية في السنوات الأخيرة، كما تزايد اهتمام عموم الناس بهذه الأسئلة التي يجعلها مجال فلسفة الطب ضمن اختصاصه. لكن كتاب إريك فورنيري يتناول بوضوح ودقة وإتزان، المشاكل الفلسفية المتعلقة بالمرض والرعاية الطبية. وبلا شك يعود السبب إلى أن فورنيري متخصص في الموضوع ومعروف بأعماله عن الموت السريري والقتل الرحيم، بما في ذلك كتابه الصادر عام 2012 بعنوان "اختيار الوفاة". يقترح الفيلسوف، والأستاذ بجامعة غرينوبل ألب لمناقشات موضوع "القتل الرحيم"، تجربة فلسفية أصيلة، وهي أن يتواجد الفيلسوف في المستشفى ويتنقل بين العديد من المستشفيات الفرنسية لمواكبة الحالات والمعضلات وطرح التساؤلات ومحاولة إيجاد الأجوبة. وكانت النتيجة كتابا عن التفكير الفلسفي المرتبط بمجال الصحة والعناية الصحية خاصة، بناء على العديد من المقابلات مع مقدمي العناية الصحية وكذلك المرضى وأسرهم.
ويتمثل هدف الكتاب الثاني في توفير أدوات للوصول إلى التفكير في تجربة المرض التي تكون أحياناً مدمرة نفسياً واجتماعياً، بالمقابل يمكن أن يكون المرض و"تحديدا شروط الرعاية الصحية منسجمة ومماثلة لتلك في الحياة الجيدة" (ص 13 ). وبعبارة أخرى، يتعلق الأمر بأخلاقيات العناية الصحية التي يجب الحرص عليها. وهذا ما يتمثله الفيلسوف وأول ما يلتفت إليه أثناء تأمله لهذه العلاقات لأنه ينبهنا إلى الأخلاقيات التي يجب أن تكون في خدمة الجميع، وخصوصًا لدى مقدمي الرعاية الصحية والمرضى أو المواطنين، لأن الصحة في الأساس، واليوم بالأخص أصبحت قضية اجتماعية كبرى، ومشكلة الجميع.
يبدأ المؤلف بتحديد المعنى الجماعي لمفهوم الضعف أو العجز الجسدي وقابلية المرض بين الأشخاص للتأكيد على أهمية الاعتراف بهشاشة البعض وصلابة آخرين في عالم الرعاية الصحية. ومن ثم يفصل الكاتب الاختلافات المتواجدة بين المفاهيم القياسية للمساطر والقيم، فبالنسبة إليه يجب الدفاع عن الحاجة إلى الأخلاق، التي تتجاوز الأخلاق الطبية أو احترام القانون، وتتجسد مباشرة في علاقة الثقة التي تحترم فيها القيم الإنسانية. لإيضاح ذلك استعان الكاتب بدراسة المفهوم الأرسطي عن الحذر كي يعطي شكلا لأخلاقيات الرعاية الصحية التي يرغب في تتبع خطوطها العريضة. لكن شرط أن تأخذ في الاعتبار تميز الفرد ولاسيما في جزئياته، على الرغم من أن الفلاسفة، مثل مارثا نوسبوم وروين أوغين اللذين لم يتحقق بينهما دائمًا اتفاق على إمكانية بناء علم أخلاق بناء على الخصوصيات الفردية، كما يزعم الكاتب. وهنا يكمن أيضًا الجدل كله، وبالتالي تعقيد هذه الأخلاقيات كلها التي يسعى فورنيري إلى بنائها:
كيف يمكن التفكير في علم أخلاق يسعى للكونية، ولكنه لا يحترم حالات معينة؟ خصوصاً أن أخلاقيات الرعاية الطبية في كثير من الأحيان هي حالات طارئة، وتستوجب اتخاذ قرارات سريعة، وغالباً ما تستبعد الآراء المختلفة، التي يتم تجاهلها لصالح الأخلاق الواجبة التي يسهل استعمالها، والتي تفيد أحياناً أنه يجوز إلحاق الضرر بشخص من أجل إنقاذ أشخاص آخرين. أي التضحية بحالة واحدة إذا كان لهذا الضرر تأثير على الصالح العام. ويعطي الكاتب في هذا السياق عددًا من الأمثلة السريرية التي تم فيها تجريب أدوية أو أشعة أو تجهيزات معينة لصالح التقدم الطبي والعلمي. اعتمادًا على المبدأ الوسطي المتعارف عليه "مبدأ الضرر المسموح به" أي الخروج بأقل الخسائر في تعارض صارخ مع مبدأ الرعاية الصحية وإمكانية الحصول على العلاج بطرق أخلاقية ومهنية. وفي السياق نفسه يذكر الكاتب بأن الأخلاق المهنية هي جزء لا يتجزأ من الأخلاق الإنسانية الكلية وتستجيب لمجموعة من قواعد "حسن السلوك". وتندرج ضمنها الأخلاقيات الطبية، وتشير إلى قواعد المهنيين في مجال الصحة يخضعون لها في مُمارساتهم اليومية داخل المستشفيات. وتنطوي على قواعد أخلاقية مشتركة بين الجميع، وقواعد علمية ومعنوية خاصة بكل فرد. يجب أن تتيح الأخلاقيات الطبية للجميع الحصول إلى الرعاية الصحية، في ظروف مثالية من الرعاية الطبية دون تمييز. وتعتبر السرية الطبية أو حرية المريض جزءًا لا يتجزأ من قواعد وآداب مهنة الطب. وهي من جهة مقننة ومراقبة من الجهات الوصية، التي يجب أن تفعل ديناميتها وتنزل من مكاتبها لمعاينة الواقع الاستشفائي ومشاكله. ومن جهة أخرى، نحن نعلم أن سلطة الطبيب مقننة ومأطرة وأحياناً محمية من طرف جهات اقتصادية تشرف على صناعة الأدوية وهنا يورد الكاتب بعض الأمثلة عن قضايا لم يشرك فيها المرضى أو عائلاتهم في القرارات الطبية وكانت النتيجة خرقاً للقوانين وإساءة إنسانية للمريض وذويه. يدعو الكاتب في هذا الإطار إلى إضفاء الطابع المؤسسي والإنساني على الطب مركزًا على أهمية الرعاية الصحية الأخلاقية للمريض. وهكذا، لن تصبح الرعاية الطبية، الهدف الحيوي، فحسب بل يمكن اعتبارها تعبيرًا عمليًا ومعياريًا عن البنية الترابطية بين العلاقة: طبيب /مريض. طبيب/ مجتمع، لتصبح الرعاية الصحية تعبيرا عن علائقية علمية وحقوقية وإنسانية متميزة في جميع المهن الطبية السريرية والعلاجية وشبه الطبية.
ومع ذلك، فإنَّ المبادئ الكبرى التي تعتزم احترام القانون لا ينبغي أن تؤدي إلى صراعات قيمية لأن خلاف ذلك قد يفضي إلى تدهور الرعاية الصحية نفسها وانهيار الانسجام في العلاقة بين المؤسسة العلاجية والمريض وتصدع أخلاقياتها . يؤكد فورنيري :"إذا كانت المثل مختلفة، فمن المهم عدم الاستسلام كثيرا لصفارات إنذار النسبية تاركين لكل شخص وضع معايير لأخلاقه الخاصة بل على العكس يجب أن تواجه التعددية بالتعاون والمناقشة، بدلا من التراجع". لتفضي هذه العلاقة إلى " التفاعل بين الطبيب والمريض" وهنا الحاجة لمناقشة علم الأخلاق عند هابرماس كنموذج عند فورنيري، لأنه يمكن أن تأخذ بعين الاعتبار خصوصيات وتوقعات وقيم الأفراد المعنيين، مع توفير مساحات للحوار المشترك. لهذا السبب ألف الفيلسوف عمله، واهتم بتفصيل معنى المعايير والقواعد والمفاهيم والمبادئ والقيم التي تنظم عالم الرعاية الصحية، وللسبب نفسه يمضي في الفصول الأخيرة لتوضيح المصادر التقليدية للأخلاق قبل أن يذكر بضرورة الزيادة من تكوين وتدريب مقدمي الرعاية الصحية للإلمام بالمعارف في العلوم الإنسانية والاجتماعية، أو بتعبير أدق لدمج هذه الطرق الأساسية ضمن التدريبات على التمريض. لأن هذا هو موضوع الكتاب في النهاية: ليس توفير لكل معالج الأدوات الضرورية فحسب، ولكن أيضا قواعد للفهم والمشاركة في بناء رعاية صحية جيدة حاضرا ومستقبلا. بيد أنها ما تزال تعترضها عوائق لتكريسها. لهذا يقترح الكاتب ما يلي:" يجب فسح المجال لرعاية صحية، بعيدة عن منطق الوصاية الذي يسود في كثير من الأحيان في المستشفيات، تترك للمرضى وذويهم مكان الصدارة للمرضى وذويهم، حرية الاختيار ص122"
وانطلاقًا من هذا المنظور، يلاحظ أن الكاتب غير متحيز لأيّ طرف وهذا يدل على رغبته في إقامة حوار حقيقي وعادل بين مختلف الجهات الفاعلة في الرعاية الصحية، فهو يعامل مقدمي الرعاية الصحية بالاحترام الذي يستحقونه، كما يعامل المرضى بالتقدير اللازم، وبهذا يسعى الكاتب بطريقة عادلة ومتوازنة إلى معالجة الإسهامات الجليلة، فضلاً عن التجاوزات التي تحدث لدى هذا الطرف أو ذاك. ومع ذلك، فمن الشائع جدا في هذا النوع من التحليلات أن يكتفي الكاتب بتبرير المقاربات المحددة سلفًا أو وجهات النظر الأيديولوجية. ولكن في كتاب فورنيري، لا شيء من هذا يوجد على الإطلاق. وهنا تكمن القوة الحقيقية للكتاب، لأن المطلوب الحديث بوضوح وبدون مناقشة القضايا المناصرة لتحسين العلاقة في الرعاية الصحية، يتوجه فورنيري أيضًا إلى مقدمي الرعاية والمرضى والمواطنين، كي يسهم الجميع في الانخراط في هذه الصيرورة الخدماتية والإنسانية.
فرض الكتاب نفسه باعتباره أداة لا غنى عنها لأي شخص معني بالصحة، خصوصا مدربي مقدمي الرعاية الطبية في المستقبل. لكن للأسف فإنَّ تهميش العلوم الاجتماعية مثل الفلسفة في كليات الطب أو التمريض أو معاهد التدريب لا يزال مستمرا. وعلى هذا الأساس فإنَّ الكتاب مرجع مهم لتقديم المشورة عن مفهوم الرعاية المستقبلية، بحيث يملأ فجوات التدريبات التي تركز على المعرفة التقنية والطبية الحيوية. بحيث يتمنى على جميع المواطنين والمتطوعين من جمعيات ومؤسسات المجتمع المدني وكذلك المعالجين المعتمدين والذين سيتكونون في المستقبل أن يتعرفوا على كل المشاكل التي تؤثر على الصحة، والتي هي في صميم توطيد ديمقراطية العلاج، انطلاقا من مبدأ الحوار المستنير الذي يشارك فيها الجميع للتعبير عن صوته وإبراز مكانته. في الواقع الرعاية الطبية بالإضافة إلى أنها قضية صحية بامتياز هي أيضا قضية سياسية واجتماعية، وهذا ما يذكرنا به بوضوح ودقة هذا البحث الفلسفي في عالم المستشفيات.
إن ما قدمه إريك فورنيري حول أخلاقيات الرعاية الطبية وأهميتها في عالم العلاقات الاجتماعية انطلاقا من الواقع المعيش داخل المستشفيات بما تحمله من جروح وآلام ومعاناة يبطل الإشاعة القائلة بأن الفلسفة في معظمها فكر مجرد!؟ لقد دأب عدد من الفلاسفة المعاصرين على اختيار مجالات بحث تزج بهم في عمق الواقع المادي وقضاياه الاجتماعية. ونذكر منهم في أقوى تجليات ذلك الفيلسوف ميشيل فوكو الذي انطلق من تجربة استشفائه من الانتحار وإيداعه مصحة نفسية كي يؤلف لنا مدونة فلسفية ثورية عن الجنون والرعاية الصحية. ونذكر أيضًا ما تقوم به "سلسلة الفلسفة" التي يشرف عليها الفيلسوف الشاب ثيبو دوسانتموريس وتصدر فصلياً عن دار إليبسيس الفرنسية. لأنها تحاول أن تنزل بالفلسفة إلى الشارع والواقع المعيش وقضاياه الاجتماعية والأخلاقية والسياسية. ويمكن اعتبار إريك فورنيري أحد الفلاسفة الواقعيين، وهنا لابد من التذكير أن الكاتب حصل على جوائز مهمة منها جائزة علم الأخلاق في عام 2014 التي تمنحها مؤسسة أوستاد- إلاهي المرتبطة بجامعة باريس الخامسة. وجائزة لوموند للأبحاث الجامعية. ويعد فورنيري اليوم أحد المتخصصين في الأخلاقيات الطبية والقضايا المتعلقة بنهاية الحياة أو ما يسمى بالقتل الرحيم، والتبرع بالأعضاء. بل هو أيضاً من المتخصصين القلائل الذين مازالوا يدافعون عن أخلاقيات مهنة الطب وحقوق الأفراد والجماعات في العلاج الصحيح مهما كلف من أموال باهظة وتقنيات دقيقة. لهذا يجري فورنيري "تحقيقات فلسفية" في المستشفيات حيث يقضي أوقاتًا طويلة أكثر مما يمضيه في مكتبه، للتباحث مع الأطباء والممرضات والمرضى وأسرهم. وقد قضى ثلاث سنوات في جناح طب الأطفال، ليغذي أبحاثه عما قد يهدد حياة الشباب البالغين أو المُراهقين نتيجة علاجات مشبوهة. وهو أيضًا عضو في لجان الأخلاقيات في المستشفيات، في شامبيري، سانت مارسيلين أو غرونوبل.
وأخيرًا يمكن القول إن كتاب فرنيري نجح في إماطة اللثام عن إشكالات أخلاقيات المهن الطبية وعلاقتها بالمرضى، التي تعرف، للأسف، تجاوزات في حالات تنتفي فيها القيم الإنسانية والأخلاق المهنية. وفي حالات أخرى التزاما، تحضر فيها، لحسن الحظ، المسؤولية المهنية والضمير الحي. إجمالا كتاب إريك فورنيري دليل أخلاقي على الرعاية الطبية المعاصرة، يصف واقعًا طبياً مأزوماً ويوضح مفاهيم عن المشاكل الأخلاقية للرعاية الطبية بالمرضى تستلزم حلولا يجب إيجادها من داخل المنظومة الصحية وليس من خارجها.
-------------------------------------------------------------------
الكتاب: من أجل فلسفة جديدة للرعاية الطبية
الكاتب: إريك فورنيري
دار النشر: دار لوميو فرنسا.
سنة النشر: 2017
الصفحات: 216صفحة
