الكارثة والإبداعية والتجديد الحضاري

Picture1.png

توماس هومر- ديكسون

محمد الشيخ

هذا كتاب مداره على التأمل في الصلة بين "الحضارة" و"الطاقة" يمكن أن يُقْرَأُ كأنه "أدب رحلات" بطله لا المؤلف نفسه، وإنما هذان القطبان اللذان عليهما مدار الكتاب بأكمله: الطاقة والحضارة. وهو عبارة عن رحلة طويلة في الجغرافيا والتاريخ، أشبه شيء يكون بالوقوف على الأطلال ـ من أطلال "كوليزيوم روما" إلى "حجر الحبلى" ببعلبك، وكلاهما طلل روماني ـ ولا غرابة في أن يختار المؤلف أن يكون الطللان رومانيين؛ لأنه يرى أنَّ ما أشبه الحاضر بالماضي، فكما أن روما القديمة انهارت بعد نفاذ الطاقة، فإنَّ حضارتنا المُعاصرة توجد على شفا الأفول للسبب نفسه، إلا أن تَنجو بفضل من وعيها بأسباب الأفول، وبفضل عملها على ترشيد استخدام الطاقة. ذلك أن المؤلف يرى أن أصل نشأة الحضارة إنما هو الطاقة، وأن أساس حفظ الحضارة إنما هو وفرة الطاقة، وأن سبب موت الحضارة إنما هو نفاذ الطاقة. والذي عنده، أن كل هذه الأفكار عن الطاقة ـ إيجادها، صونها، فقدها ـ كفيلة بأن تجعلنا نفهم لماذا سقطت الإمبراطورية الرومانية؛ وبالتالي أن نتخبر عما هو المصير الذي ينتظر المجتمعات المعاصرة ـ غنية كانت أم فقيرة.

بين الأمس واليوم

العبرة من الوقوف على الأطلال

بداية الكتاب أشبه شيء تكون بوصف يوم قيامة. لقد أوشكت أن تقوم قيامة مدينة سان فرانسيسكو الأمريكية ذات يوم من أيام أبريل من عام 1906. وينقل المؤلف أجواء "جهنمية" و"قيامية" عن المدينة: زلزال مدمر، صاعقة قاتلة، حريق مهول... لكن يتبين في قلب نقمة سان فرانسيسكو نعمة: هذه الدواهي هي التي أُنشأت إثرها الخزينة الفيدرالية للولايات المتحدة الأمريكية والتي هي آخر بنك- ملاذ يتم اللجوء إليه في البلاد مجعول بغاية مقاومة أية داهية مالية كبرى، وذلك بما يجعل منه إحدى أهم وأأمن مؤسسات القرن العشرين.

ثم سرعان ما ينتقل المؤلف بنا ـ وأية نقلة هي! ـ إلى روما يوم 13 مايو 2003 ولحظة سكينة يحياها المؤلف وسط "فوروم" روما الذي كان يشكل المركز السياسي والديني والعمومي في تاريخ روما القديمة.

ويعرب لنا المؤلف عن سر هذه النقلة العجيبة الغريبة، فيخبرنا، أولا، عن سر زيارته لروما: يريد أن يفهم بدءا من هذا الموقع التاريخي المشاكل المعقدة التي تواجهنا اليوم ـ خصائص الطاقة، التغيرات المناخية، الأمراض، الأزمة الاقتصادية ـ ويخبرنا أنه لَئِنْ كانت هذه اللحظة لحظة هدوء في وسط شهر مايو من عام 2003، فإن قسمًا من العالم يشهد على رجة قوية: سلسلة عمليات انتحارية هزت إسرائيل، والإرهابيون هاجموا الأهداف الغربية بالرياض وبالدار البيضاء، وأعلنت أندونيسيا الحرب على ثوار آشي، وحذرت الأمم المتحدة من حرب إبادة جماعية جديدة شمال شرق الكونغو، ومرض "سارس" ناشر للهلع في بكين وفي تورنتو مسقط رأس المؤلف، والولايات المتحدة حققت انتصارا في نزاع غير متكافئ مع صدام حسين ... وقد بدا أنَّ الولايات المتحدة أمست قوة إمبراطورية عظمى، وبكل تأكيد الأعظم منذ الإمبراطورية الرومانية، ولربما ـ على اعتبار الهوة التي تفصل بين أمريكا ومنافسيها الأقرب منها قوة عسكرية واقتصادية ـ الأقوى في كل الأزمنة.

كل هذه الرجة أظهرت ألا شيء يمكن أن يكون آمناً، وقد بدت الصدمات والمفاجآت تنقض على العالم من كل حدب وصوب وبأسرع من أي وقت مضى. وها قد جلس المؤلف بين أنقاض روما يتخيل كيف كان يبدو مشهد المنطقة قبل ألفي عام، وكان أن سأل نفسه: ترى أكانت للرومانيين نفس الإحساسات التي نشعر بها اليوم ـ من هزات للعالم مخيفة ومنذرة بالشؤم ـ وهم يحيون في عالمهم؟ وهل تم تحدي يقينياتهم في عالم بدا لهم أنّه وكأنه لن يزلزل أبد الدهر الزلزلة التي كانت وشيكة؟ أم هل بدت لهم الأحداث بلا إمكان للتحكم فيها؟ وقد دفعت هذه التساؤلات المؤلف إلى الاستفهام عما إذا كانت الظروف الضاغطة والعمائية لعالم اليوم تشبه، بمعنى ما من المعاني، تلك الحيثيات التي كانت توجد لما انهارت الإمبراطورية الرومانية الغربية في القرن الخامس بعد الميلاد؟ وكيف لِما بدا أنه دائم الديمومة الأبدية فإذا به يتحول إلى أنقاض أنقاض؟

وبطبيعة الحال، طوال القرون الماضية عديد هم الذين طرحوا الأسئلة ذاتها التي يطرحها المؤلف، لكن الرجل يرجو أن يعلم شيئا مفيدا بطرحها اليوم على ضوء الدراسات الجديدة التي تدور على مسألة: لِمَ تنهار المجتمعات في بعض الأحايين؟

وبعد، يتساءل المؤلف: أليس من شأن كل واحد منا أن يتحير في أسباب انهيار روما التحير أشده؟ ذاك هو ما كان يحيره منذ نعومة أظافره. فبعد كل هذه الصولة أتت السقطة. وما قاده إلى العناية بالتاريخ إنما هو "هشاشة البشرية". وما بني على هذه الهشاشة ـ الحضارة ـ يكون لا مرية من الآفلين. وإذا حق أن التأثير الروماني لا يزال حاضرا في الثقافة الغربية، فإنه ما عاد سوى صدى أفتات ذكرى. لقد خبر الطفل الصغير أن كل شيء باطل، كل شيء فان.

وعلى الأقل، أظهر تاريخ روما أن كل الحضارات، بما فيها حضارتنا الحالية، يمكن أن تتغير، وذلك بأن تجنح نحو الكارثة. ويجد المؤلف أنه لطالما صرنا نداري هذه الحقيقة بانشغالاتنا التي نريد أن نضمن بها الخلود، ولا خلود. لكن نموذج روما الآفلة يبقى أبد الدهر خالدا في الأذهان: وماذا لو استطعنا فهم ضعف روما المميت، فلربما تستطيع مجتمعاتنا أن تتفادى مصيرا مماثلا، وأن تحفظ إنجازاتها إلى أبد الآبدين! وبطبيعة الحال، فإنَّ من شأن من له أدنى معرفة بالتاريخ، أن يعلم أن روما سقطت تحت ضربات برابرة الشمال الموصولة، لكن ليس هذا سوى رأس الجبل الجليدي العائم في المياه، أما الحقيقة الخفية فتكمن في "تعقد" مكونات المجتمع الروماني وفي البيروقراطية وفي القوى العسكرية وفي المدن وفي الاقتصاد وفي القوانين ... وإذ كانت روما توجد على درب السقوط، وكانت تريد أن تحمي تعقدها، فإنها كانت تحتاج إلى الطاقة أكثر فأكثر، وكانت لا تجد منها الكثير الذي تحتاج إليه للحفاظ على قوامتها. ومع مرور الأيام، وبفعل فرض مزيد من الضرائب ثقل العبء على المزارعين، بينما التعقد المتزايد خنق الإمبراطورية ومنعها من التجدد. وكان ما كان من الانهيار الذي تلا ذلك على نحو درامي: نقص عدد الساكنة في الحواضر والمدن نقصًا مهولا، وانخفضت التبادلات بين المناطق، واستشرت اللصوصية والقرصنة، وتوقفت البنية التحتية، واستحالت المؤسسات ـ من حكومات محلية وجيش ـ أكثر بساطة في وظيفتها وتنظيمها ...

أطروحة الكتاب الأساسية

وهنا يأتي المؤلف إلى ذكر أطروحة الكتاب الجوهرية: وهي تقول بأن ظروف العالم الحالية تشبه بشبه قريب ظروف روما القديمة. إذ ما فتئت تمسي المجتمعات الحالية أكثر تعقدا فأكثر، وأحيانا أشد تصلبا فأشد. وقد حدث هذا الأمر، في جزء منه على الأقل، لأننا نحاول، وغالبا ما يكون ذلك بنجاح محدود، تدبير أمر إكراهات مجتمعاتنا، بما في ذلك الضغط الناتج عن شرهنا الضخم إلى الطاقة التي نحتاج إليها بأمس حاجة تكون في أن ندير مصانعنا وأن نسخن بيوتاتنا وأن نشغل سياراتنا. وكما حدث في روما، فإن التوترات يمكن أن تصير أشد، ومجتمعاتنا تصبح أكثر تطلبا لكي تستجيب إلى كل هذه التحديات الطاقية؛ ولذلك لا محالة من أن تحدث أزمة اقتصادية أو سياسية.

ويؤكد المؤلف أنه ما كان متفردا بهذا الرأي لوحده: ففي هذه الأيام، كثير من الناس يستشعرون أن العالم ليس على ما يرام، وأن الأزمة التي تتهدده ليست أزمة عادية؛ حتى أن بعض المتدينين يحسبون أننا على مشارف نهاية العالم. وهكذا أمست الموازنات بين روما القديمة والعالم المعاصر متداولة بين العديد من الناس، وأضحت العظات الدينية، وحتى بعض التحاليل العلمية، تعج وتضج بالصور القيامية عن الأذى المقبل. لكن، من يدري أنه حيثما "المهلكة" تلوح ثمة "المنجاة"، على نحو ما حدث في قصة حريق سان فرانسيسكو؟ فمن رماد الحريق انبعث النظام البنكي الأمريكي العتيد. والأمر أشبه ما يكون بقيادتنا السيارة في جو مليء بالضباب: بعض الناس متفائلون في مستقبل قدرتنا على مواجهة المفاجآت، ويرون مستقبلا زاهرا في رأسمالية عالمية موسعة ومعمقة وفي ديمقراطية واسعة وفي حقوق إنسان أشمل وفي تقدم تقني أهم... وكل ذلك في مسعى للعالم نحو سعادة أكبر ورفاهية أوسع. فهم يتجاهلون الضباب، ويضغطون أكثر على الدواسات. على أن بعضهم الآخر يريد خفض السرعة مخافة الحوادث، بل لا يعرفون حتى ما الذي ينبغي لهم أن يقوموا به وعرباتهم تسير سيرها المترنح.

ومن هنا يبزغ السؤال: ترى ما الذي سيكون عليه مستقبلنا؟ وجواب المؤلف أن علينا جميعًا أن نعترف بأن الطريق الذي ينبغي اتباعه لن يكون مستويًا ومنبسطًا ومجلواً. فلسنا نعرف متى ستكون المفاجآت في انتظارنا على الطريق، خصوصا وأن السرعة التي نسير بها عالية. والسؤال الذي يطرح: ما هو نوع المشاكل التي ستواجه حضارتنا مستقبلا؟ وكيف يمكن أن نواجهها؟ بل كيف يمكن أن نستغل الفرص التي قد تتاح من أجل تحقيق انبعاث جديد؟

تشريح الحضارة المعاصرة في اثني عشر فصلا

يكاد كل فصل في الكتاب يبدأ برواية أو "حدوثة". وهكذا يبدأ الفصل الأول بحوادث عاشها المؤلف ـ الخميس 14 غشت 2003 ـ عن العطب الكهربائي الأكبر الذي أصاب مدينة تورنتو الكندية: كل "أواني" التقنية تعطلت، والفوضى استشرت، والناس في هرج ومرج. ويقارن هذا الحدث القيامي بحدث 11 شتنبر 2001 بالولايات المتحدة الأمريكية: كلاهما حادث مفاجئ برز هكذا فجأة عن غدارة في عالم معقد لا نفهمه إلا عن بعد، وكلاهما يذكرنا بهشاشتنا أمام فشل الأنظمة التكنولوجية والاقتصادية والاجتماعية: كل شيء تعطل، وما يدري الناس ما يفعلون بحكم استتباعهم التام إلى الأجهزة الإلكترونية. وتلك حادثة يجدها المؤلف فرصة للتأمل في "الضغوطات" و"الإكراهات" التي تواجهها الحضارة اليوم. وهي، عنده، في عداد الخمس:

  • الضغط الديمغرافي الناتج عن اختلافات معدلات النمو الديمغرافي بين المجتمعات الغنية والمجتمعات الفقيرة، وعن الانفجار الديمغرافي في المدن الكبرى بالبلدان الفقيرة.

  • الضغط الطاقي ولا سيما منه الخصاص في الوقود ...

  • الضغط البيئي الذي تسببه الأضرار التي نلحقها بأراضينا ومياهنا ونباتاتنا ومصايدنا ...

  • الضغط المناخي الناتج عن التغيرات التي تلحق بأحوال طقسنا ...

  • وأخيرا؛ الضغط الاقتصادي الناجم عن عدم استقرار النظام الاقتصادي العالمي وعن الفوارق في المداخيل التي تتزايد بين الأثرياء والمعدمين.

ويلاحظ المؤلف أنه من بين هذه الضغوطات الخمس، فإن الضغط الطاقي هو الأهم. ويعتبر أنه اكتشف من خلال دراسته لتاريخ روما القديم أن الطاقة هي المورد الرئيسي الخطير لبناء المجتمع: لما تكون هي نادرة ومكلفة، فإن كل ما نحاول فعله، بما في ذلك تنمية غذائنا والحصول على موارد الماء الشروب ومعالجة ونقل الخبرات والدفاع عن أنفسنا، يمسي أشد عسرا. كما يلاحظ أن أغلب هذه الإكراهات الخمس تأتي من صلتنا بالطبيعة. ويؤكد على أنه لا يمكن تجاهل الطبيعة، لأنها تؤثر في كل جوانب رفاهة العيش وتتحكم في الوقت نفسه في أمر بقائنا. لكن وكأننا في أحضان الردى وهو نائم، قلما نولي العناية إلى هذا الأمر. والكثير من اللوبيات الاقتصادية والسياسية وغيرها، وقد جعلت من الثقة العمياء دينا تدينت به، تريد طمأنة الناس على أننا بخير. ويقول الكاتب قول المتنبئ: لسوف يكون القرن الواحد والعشرون عصر الطبيعة، ولسوف نعلم الشيء الكثير عن كون الطبيعة مهمة، لكن بعد التجربة السلبية.

على أن مما يطم الوادي على القرى أن ثمة ما "يضاعِف" من هذه الإكراهات الخمس:

  • ومنه السرعة المتنامية للترابط الشامل لنشاطاتنا ولتكنولوجياتنا، حتى إذا ما مس الضر قطاعا تداعت له كل القطاعات الأخرى (مثال الضرر الكوني لعملية القرصنة المعلوماتية) ...

  • ومنه القوة النامية للجماعات الصغرى بغاية تدمير الأشياء والبشر، على غرار الضرر البالغ الذي تحدثه الجماعات الإرهابية بما لم يكن قد شهد له التاريخ من قبل نظيرا ...

والحال أن التمازج بين تلك "الإكراهات" وهذين "المُضاعِفين" من شأنه أن يزيد بقوة من خطر انهيار النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي؛ أي أن يتسبب في ما يسميه المؤلف "فشلا متزامنا" للحضارة المعاصرة؛ مما سيسفر، في نظر المؤلف، عن كارثة هدامة وليست خلاقة.

وهنا يظهر طرح المؤلف بكل وضوح: ما هي العوامل التي يمكن أن تجعل من مجتمع ما مجتمعا قابلا لكي يلحق به العطب أو حتى يصاب بانهيار تام؟ ناقش المؤرخون والمتخصصون في العلوم الاجتماعية هذه المسألة لزمن طويل، ولم يتوصوا فيها إلى نتيجة واحدة. لكن المؤلف يعتقد أنه حصل على المفتاح التفسيري السحري: يكون مجتمع ما معرضا إلى الإصابة بالعطب عندما يعاني من إكراهات شديدة معاناة متزامنة، وعندما تتآلف هذه الإكراهات بحيث تبدي تأثيرها المتزامن، وعندما ينتشر هذا التأثير بسرعة عبر عدد كبير من الترابطات بين الأشخاص والجماعات والمنظمات، وعبر التكنولوجيات. وإذ يعاني هذا المجتمع مما يعانيه وهلة واحدة، فإن ذلك يشكل بالنسبة إليه ما يسميه المؤلف "العبء الثقيل" الذي ليس يمكن أن يحتمل بأي وجه ـ والذي ترمز إليه صخرة الحبلى ببعلبك التي يجد فيها المؤلف أن الرومان تركوها هناك عربونا على حضارة ما عادت تملك الطاقة والمقدرة على نقل مثل تلك الحجارة الضخمة ـ فإنه لا يمكن أن يعالج مشكلة واحدة ثم ينتقل على الترتيب... بل تجده يتخبط في هذه المشاكل حد الانهيار التام.

ومما يزيد الطين بلة، أننا نواجه هذه الاحتمالات إما بالإنكار ـ على نحو ما تفعله النعامة ـ أو بالتلكؤ في التدبير. ويبدع الكاتب مفهوم "الانبعاث" أو "النهوض من الكبوة" ليستنهض الهمم إلى الدعوة إلى تجديد الحضارة في أنظمة معقدة شأن نظام الحضارة، كما يؤكد على أن ثمة دائما "عتبة" للتخطي إما نحو الأسوأ أو نحو الأفضل.

وتسير بقية الفصول على هدي ما خطه المؤلف في هذا الفصل الأول الجامع، بحيث يفصل القول ـ فصلا فصلا ـ في هذه "الإكراهات" الخمس وفي هذين "المضاعِفين" الإثنين، مقدما الطاقة على كل شيء تفسيرا لقيام الحضارات وانهيارها.

فما أشبه الحاضر بالماضي: الطاقة هي "حجر الزاوية" في كل الحضارات ولكل المجتمعات. أَلَا كم كانت الحضارة الرومانية تحتاج إلى زخم طاقة من الرجال ومهاراتهم: الرجال آلات هنا للزراعة وللبناء وللنظام وللتسيير وللتشريع وللتفاوض وللتربية وللتمرين ... أنشؤوا من الشمس ـ مصدر الطاقة الأساسي أيامهم ـ طاقة لمزارعهم، واستولدوها زرعا، ثم بالغذاء بنوا سواعد الرجال وشيدوا المباني والمصانع والمساكن والعجلات ... لكن كانوا من الطاقة دوما في خصاص .. وفي ذلك كَمُنَ سبب أفولهم. والتشظي الذي عاشوه والتذرر الذي شهدوه كان بمعنى ما من المعاني أزمة دينامية حرارية؛ أي أزمة طاقة. ذاك كان مصير روما، فما الذي سيكون عليه مصيرنا؟

الحال أن الدرس الذي نفيده من تجربة روما درسان:

  • الدرس الأول: في ما يخص متطلبات الطاقة، لا تختلف المجتمعات الغنية عن المجتمعات الفقيرة والقديمة. فهي تتطلب تدفقات من الطاقة ضخمة للحفاظ على تعقدها ونظامها وزيادتهما. وبلا هذا الاستهلاك لا استمرار. وهذه المخاطر تدفع المجتمعات إلى البحث بلا هوادة عن مصادر طاقة، وعلى المراقبة العدوانية للمناطق التي توفر لها الطاقة (أمريكا والخليج مثلا).

  • الدرس الثاني: وهو درس أقل بدوا وأكثر أهمية. في بعض الأوقات تبدأ تقنيات إيجاد واستعمال الطاقة بالتدني إلى حد الإفناء. وهذا ما حدث للنظام الطاقي الغذائي الروماني القديم الذي استنزف الأراضي وراح يبحث عن أراض أقل خصبا، مما تطلب منه بذل جهد أكبر انتهى إلى استنزافه الاستنزاف أكمله. واليوم، تواجه البشرية نفس النزوع. فقد استنزفت الكثير من البترول والغاز الطبيعي والطاقة الكهرومائية، وها هي رائحة إلى مزيد استنزاف نحو بدائل طاقية شمسية وريحية ونووية. وها هي تنفق الكثير من الطاقة للحصول على طاقة أكبر، علما بأن حاجاتها الطاقية، بالقياس إلى روما، أمست أعقد .. وكلما كان المرقى أيسر، كان السقوط أصعب.

والحال أنه على مر الفصول، يتبين أن الطاقة أضحت اليوم مشكلة المشاكل التي يعاني منها العالم: مشكلة في العلاقات الدولية، ومشكلة في التلوث البيئي المؤدي إلى التغير المناخي، ومشكلة في انتشار الإرهاب بسبب عدم استقرار منطقة الطاقة بامتياز ..

وأخيرا، يرد المؤلف على أولئك الذين يواجهون أطروحته قائلين بأنه من غير المعقول الموازنة بين مصير روما وآفاق العالم اليوم، رائين بالضد أنه بدل التحلل ثمة التنمية، وبدل العنف ثمة انخفاضه بعد الحرب الباردة، وأن الديمقراطيات أدت إلى إشاعة السلم في العالم الثالث، فيرى أن هذه النظرة تبسيطية إلى حد الخطورة. فمن شأن الأنظمة المعقدة ـ مثل الحضارة ـ ألا تنمو على نحو امتداد الخط المستقيم، وإنما على نحو تقدمات وإكراهات وعتبات وانحرافات وتغيرات فجائية في التوجه ... واليوم، كما في الإمبراطورية الرومانية المتأخرة، الإكراهات العميقة في ازدياد، وقدرة العالم على الاستشفاء في تراجع. وكما كان العالم القديم تحت إمرة روما، فقد أمسى اليوم في عهدة الولايات المتحدة. وكما رفضت روما قديما الانتقال من نظام شديد الاستهلاك للطاقة إلى نظام قليله، فكذلك الولايات المتحدة الأمريكية ترى اليوم في هذا الانتقال خطرا على هيمنة البلاد على العالم، وهي مستعدة لما فعله الرومان بدافع من التعطش إلى الطاقة: سلوك طريق العنف لفرض الرقابة على العالم بأجمعه. والنتيجة المحتملة: صراع ضار على مصادر الطاقة، وتنام للحركات الإرهابية ...

لكن حيثما نُذُرُ "المهلكة" تتبدى تلوح بشائر "المنجاة" أيضاً. والمنجاة هي ما يسميه المؤلف "الانبعاث". صحيح، لَكَمْ هي كانت الحضارة الغربية المعاصرة مبدعة، ولَكَمْ هي كانت أيضا محظوظة! لكنها في العقود الأخيرة سوف تصبح وجها لوجه أمام شح البترول وسخونة الأرض واضطراب مناخها وخطر تملك الإرهابيين لسلاح دمار شامل. على أنه ليس ينبغي للمرء أن يكون "جبريا". فلا زال ثمة مكان للإختيار، ولا زال هناك متسع لاستدراك ما فوتنا علينا في الماضي. وما عاد ثمة من مجال لا للإنكار، ولا للتهوين، ولا للمدارة. لابد لكل العقول، المتشاطرة للأفكار عينها الواقفة على تلك المخاطر المحدقة بنا الرانية إلى تحقيق الانبعاث، من أن تتعاون. والحل كل الحل في الانتقال من فورة مطلب النمو غير المتناهي ـ داعي التنمية الذي لا حد له ـ إلى حكمة مطلب الاستشفاء وتضميد الجرح ـ داعي التداوي. كلا، ما عاد الطريق ضبابيا، وإنما أمست لنا معارف وخبرات يمكن أن نوظفها كأنها بوصلات نستهدي بها لكي نعين أنفسنا في اختيار مسارنا بفضل هدنة مستقبلية مكونة من مفاجآت ومن مخاطر ومن فرص.

------------------------------------------------------------------------

اسم الكتاب : الكارثة والإبداعية وتجديد الحضارة
إسم المؤلف : Thomas Homer-Dixon
دار النشر : Island Press
مكان النشر : Washington, Covelo, London
لغة النشر : الإنجليزية
عدد الصفحات : 431

أخبار ذات صلة