مأساة الكنيسة الروسية (1953 -1917) «قصة انهيار المسيحية في ظل السلطة السوفيتية»

Picture1.png

ليف ريغيلسون

أحمد الرحبي*

عشية الذكرى المئوية للثورة الاشتراكية الروسية (البلشفية) التي شهدت البلاد معها منعطفًا تاريخيًا حادًا والتي أحدثت تغييرات جذرية في أسلوب حياة الشعب الروسي، أسلوب الحياة الذي حفره في الزمن على مدى قرون طويلة مُتعاقبة، عشية تلك الذكرى صدر عدد كبير من الأعمال التي صوبت نظرة فاحصة جديدة إلى ذلك المفصل التاريخي وما رافقه من أحداث وذلك من جوانبه التاريخية والسياسية والاقتصادية. وبقي الجانب الديني مهملاً إلى حد ملحوظ ولم ينل حظه من التغطية والتمحيص البحثي، كما تندر الأعمال التي ناقشت حقيقة أنَّ في عام 1917 كانت روسيا على مفترق طريق مع عقيدتها المسيحية، مرة وإلى الأبد.

   كيف قيض للسلطة السوفيتية الجديدة تدمير الكنيسة الأرثوذكسية الروسية العريقة وتقويضها من الداخل؟ ما هو الموقف الذي اتخذته الكنيسة تجاه الثورة؟ ما هي المبادئ الدينية التي انتهكها رجال الكنيسة أنفسهم؟ كيف تطورت العلاقات بين الدين والدولة السوفيتية؟ هل كان التوجه لإحياء المؤسسة الكنيسة على يد الزعيم الشمولي ستالين مسألة جادة وصادقة؟ عن هذه الأسئلة وغيرها يحاول الإجابة المنشق السوفيتي السابق والناشط في مجال حقوق الإنسان والدين، الباحث الروسي ليف ريغيلسون. ولم يكتف ريغيلسون في بحثه التاريخي الكبير هذا بجمع أقصى قدر من المواد المُتعلقة بالأحداث وبالأشخاص المسؤولين عن حياة الكنسية في الفترة الانتقالية بين الثورة والحرب العالمية الثانية وما أعقبها وحسب، بل وسجل في الوقت نفسه ما يشبه النشيد الموجه للأنقياء والمخلصين في الكنيسة الروسية.

   لا يُولي المؤلف في كتابه "مأساة الكنيسة الروسية" اهتماماً كبيراً بالحقائق التاريخية المعروفة والمتعلقة بالنهب والتدمير المادي الذي طال الكنيسة عند اشتعال الثورة وبعدها، وإنما يقدم بدل ذلك تقييمًا للمواقف الشخصية التاريخية وذلك ضمن إطار أرثوذكسي خالص. فعبر الوثائق والمراسلات الخاصة لقادة الكنيسة، يتتبع ريغيلسون قصة انهيار المؤسسة الكنسية الروسية باعتبارها الهيكل الروحي والاعتباري للأمة طيلة قرون مديدة، كما أنه يرصد تفاصيل الردة الأخلاقية التي وقعت في ظل ظروف تاريخية خاصة وجديدة تمر بها البلاد.  

   يبدأ ريغيلسون تقريره من نقطة قبول البطريرك تيخون، الذي اشتعلت الثورة البلشفية والكنيسة تحت إمرته. ويرى المؤلف كخلاصة لتقييمه لمواقف هذه الشخصية المحورية في ذلك الظرف الحاسم، أن موقف البطريرك ظل خلوا من السياسة: ليس معها ولا عليها. ومن المعروف أن البطريرك تيخون دعا إلى التواضع أمام واقع الحكومة الجديدة التي: "لا يُمكنها أن توجد من دون إرادة الله الذي أرسلها لنا كجزاء على أعمالنا وعلينا أن نتقبل عقاب الرب متواضعين له. فالمؤمن يحمل الصليب الثقيل على كاهله، واضعاً قلبه في الكنيسة، ولكن عليه أيضًا أن يطيع قوانين ومتطلبات العالم القائم طالما أنها لا تطلب منه التخلي عن المسيح والكنيسة" (ص 160). وعن الموقف العام للكنيسة يخلص ريغيلسون أنه: "لم يكن أمامها سوى طريق واحد: التأكيد على أن الإنسان مخلوق بصورة الرب ويمتلك حرية الاختيار. وبالنسبة للظروف التي شهدتها البلاد آنذاك، فالتضحية بالنفس هي الخيار الأوحد وذلك عن طريق الإيمان العميق والنفي الأخلاقي للشر" (ص 74).

   يقدر الباحث شخصية البطريرك تيخون حق تقديرها ويمحضها أهمية تاريخية إلى درجةٍ يزيح فيها اسم الامبراطور القتيل نيقولاي الثاني عن كفة الميزان المعادلة لكفة لينين، ويضع مكانه اسم تيخون باعتباره الند الحقيقي للينين والعقبة الكأداء التي وقفت أمام طموحه الثوري. يقول في ذلك: "ليس الأمر في أي من الاسمين كان يتمتع بالتأييد الأكبر بين الجماهير، بل الأمر الجوهري يكمن في علاقة الكنيسة بالبطريرك تيخون، فطالما أنها تكن له الاحترام والتبجيل، فإنّ نصرا مؤزرا لن يكتب للثورة البلشفية. لم تشكل كنيسة تيخون قوة سياسية نشطة وفعالة ولكن وجودها نفسه وروحها كانا يناهضان روح الثورة من أساسها. وكان من الممكن أن تتسامح السلطة الجديدة مع مثل هذه الحالة بشكل مؤقت، وبحسب الظروف التي تضطرها إلى ذلك، ولكن تظل المهمة الأساسية أمامها تقويض الأسس الأخلاقية للكنيسة وإفسادها من الداخل" (ص 172-173).

   ونتيجة لقراءته الوضع الجديد وشعوره بالمصير الداهم، أصدر البطريرك عام 1920 مرسومًا يسمح فيه بالقضاء على التحكم الأبوي للكنيسة وعودتها للعمل بموجب الأعراف التي عملت بها في ظروف مشابهة إبان عصر الاضطهاد من القرون الأولى من المسيحية، أي الاعتماد على الإدارة الذاتية للأساقفة وذلك حسبما تمليه الوقائع على الأرض. بيد أن المرسوم لم ينفذ مما أدى إلى تغيير جذري في هيكل الكنيسة ومبادئها. وبعد تحليل مستفيض يعلل ريغيلسون الأسباب التي عجلت بالانهيار، يعلله بالارتباك الذي أصاب الأساقفة أنفسهم وكيفية إدارتهم للأزمة. يعلق المؤلف في كتابه على هذا الحدث: "إلى جانب القوة الروحية، كان مطلوبا من الأسقف في تلك الحقبة الزمنية التمتع بالحكمة وروح المبادرة والاستقلالية. وقد دفعت الكنيسة الروسية ثمنا باهظا بسبب حقيقة أن كل هذه الصفات لم تكن مزروعة في رجال الدين" (ص 157). ويجد ريغيلسون نقطة التحول الكبرى (وهذا هو الموضوع الرئيسي لبحثه) يجدها في الخطأ الذي اقترفه سيرجي رئيس الإدارة البطريركية آنذاك حيث أعطى توجيهاته بعدم اتباع المرسوم ووجه كل التدابير لإنقاذ المركز الذي ينقاد إليه الأساقفة. ويعتقد الباحث أنه في الظروف التي أحاطت بالاتحاد السوفيتي كانت إمكانية الكنيسة للحفاظ على مركزيتها تأتي فقط من خلال مواءمة أنشطتها مع السلطات، أي بفرض سيطرة الدولة على أنشطة المركز الديني، وهذا ما حدث. ونتيجة لذلك انتهك سيرجي مبدأ الانطواء السياسي للكنيسة، وجعلها تنضوي تحت مظلة السلطة. كما غيّر الفهم الهيكلي للكنيسة الذي يعتمد على الانتخاب ومباركة الرب وحوّله إلى منصة بيوقراطية صرفة. وتأصلت الفكرة التعسفية المتمثلة في انتقال منصب البطريرك عن طريق أمرٍ يصدره رئيس الكنيسة السابق من دون حاجة للإجماع على صفات الرئيس الجديد وصفاته. يقول الكاتب: "ظهر في الكنيسة الروسية خطر تحولها من كيان حي إلى آلة ميكانيكية، ومن نظام الكاتدرائية إلى مجلس بيد مجهولي الهوية، ومن انسجام في الهرمية والشخصية إلى الاستبداد البيروقراطي من قِبل رئيس الكنيسة" (ص 205). وقد أدى منطق العنف الذي انتهجه المطران سيرجي إلى تبديل شامل الأساقفة المناهضين للتغيير فبرزت نسخة كنسية روسية جديدة انعكس أداؤها المتطرف حتى على نفسية الناس العاديين الذين يبدون معارضة ليس في الأمور العقدية وإنما في المسائل السياسية: لم يحرم سيرجي رعايا الكنيسة من حرية الحياة، ولكنه، من وجهة نظر المؤمنين، فعل أكثر من ذلك بكثير، فقد كان يحرمهم من مصدر الحياة الأبدية وذلك بمنع خدمة جنازاتهم حسب الطقوس المسيحية أو بإلغاء إجراءات زفافهم المسيحية. كل هذا شجع السلطات على نهب ممتلكات الكنيسة ومنع الكنائس المنزلية وإغلاق المدارس الدينية والتوقف عن تدريس مادة الدستور الإلهي في المدارس بل وصل الأمر إلى تدنيس أضرحة القديسين والعبث برفاتهم.

 ويُعد السوفيتي الشهير ليف تروتسكي أكبر منظر لتدمير الكنيسة الروسية، فقد دفعه ولاؤه المفرط للمسألة الإيدلوجية الثورية إلى وضع استراتيجية لتفكيك الكنيسة والقضاء التدريجي على مكونتاها. يقول المؤلف: "لم ترغب السلطة في التعامل مع عدد كبير من الانشقاقات في الكنيسة، وبالمقابل ظل التحول الجماعي من الأبرشيات إلى الحكم الذاتي يمثل المعضلة الكبرى أمام السلطة. وكان جوهر الخطة يتمثل في تخويف الكنيسة من الانشقاقات بغية الحفاظ عليها ظاهريا، فيما الحقيقة المؤكدة تكمن في الحفاظ على السيطرة المركزية في الكنيسة، يأتي بعدها خلق الفوضى فيها وإشاعة المنافسة المؤقتة داخل إدارتها ريثما يتم اختيار الشخصية الدينية التي من شأنها تنفيذ البرنامج التدميري بشكل سهل ومريح" (ص 201-202). ولا تقتصر خطورة ذلك البرنامج في تقويض الكنيسة وتجييرها من أجل شل المقاومة السياسية عند الجمهور، ولكن أيضًا، وهو العامل الأبعد أثرا والأشد تدميرا، إعادة تثقيف الجماهير وشحنهم بالولاء للشيوعية والامتلاء بروحها، كل ذلك بشكل خفي وغير محسوس.

   وفي هذا السياق أبدى المؤلف اهتمامًا كبيرًا بمسألة العلاقة بين الفلسفة المسيحية والإيديولوجية الشيوعية والدور الحاسم للفترة السوفيتية في تغيير التاريخ الروسي ومناخه العام. يقول ريغيلسون: "بداية لم يكن قادة الكنيسة في ذلك الوقت يتصورون أن الشعب المؤمن والمتشبث بدينه يمكنه القبول حكومة لا تستمد سلطتها من المسيحية والكنيسة. ولكن، وخلال الحرب الأهلية، مال الناس في نهاية المطاف لصالح البلاشفة، فأصبح من المستحيل بعدها الادعاء بأن البلاشفة قوة خارجية محتلة (...) أصبح غالبية الناس على استعداد للتضحية بأرواحهم من أجل السلطة البلشفية القادرة على الاستجابة لتطلعاتهم (...) عدى ذلك فالقول أن ثمة جذور مسيحية للشيوعية قول محق تمامًا ولكن مع إضافة أن الشيوعية مجرد هرطقة مسيحية ليس أكثر. أما الهدف المعلن والمشترك بين المسيحية والشيوعية فهو بناء ملكوت الله على الأرض،إذ ثمة العديد من صفات مملكة الله الأرضية هذه موجودة عند الشيوعيين ولكن فقط من غير وجود إله. وفي هذا الصدد تقدم الشيوعية للبشرية طوق نجاة ولكن عبر طرق أخرى غير طرق المسيحية" (ص 69-70).

   وفي مقارنته بين الكنيستين الشرقية الأرثوذكسية والغربية الكاثوليكية في موقفهما من السلطة، وهي مقارنة واجبة لتبريز البحث ومنحه أبعاده التاريخية والاجتماعية الكبرى، يسجل الكاتب الملاحظة التالية: "لقد صيغت العلاقات بين الكنيسة والدولة في الأرثوذكسية بشكل يختلف عن الكاثوليكية الغربية أي الكنيسة الرومانية. فالأخيرة وجدت نفسها مع مجموعة متنوعة من الشعوب الوثنية وذلك في غياب الدولة الواحدة. وأجبرها هذا على أداء وظائف توحيدية إمبريالية. وبدون تعريف نفسها ضمن أمة أو دولة أصبحت الكنيسة الرومانية ضرباً من النظم الإمبراطورية: منظمة فوق وطنية وفوق دولية، تملك لغتها الخاصة (اللاتينية) وتتمتع بإدارة مُستقلة، إدارة دنيوية تشارك بنشاط في الحياة السياسية والشؤون الدولية. أما الشعوب السلافية والقوقازية فكانت مُعظم كنائسها مُرتبطة بالوطن، وطالما كرست نفسها لفكرة الوحدة الوطنية وإنشاء الدولة المُستقلة، وكانت تخاطب العامة بلغتهم الأم وتقدم المُساعدة في أداء الخدمات الوطنية، لهذا أصبحت فخراً وطنياً وأرضية يتشكل عليها الوعي القومي" (ص 291-292).

   ترتبط نهاية مأساة الكنيسة الروسية وتوقف اضطهادها في الذاكرة الشعبية الروسية ارتباطا وثيقًا بشخصية ستالين. وقد كرس ريغيلسون ثلاثة فصول من دراسته لهذه المسألة وهي:

 1) عبادة ستالين في مواجهة عبادة يسوع المسيح.

 2) نموذج المسيح الدجال.

3) الكنيسة ومشاركتها في عبادة ستالين.  

   ولا يتسرع الكاتب بجعل ستالين في مقام المتبرع لإنقاذ الكنيسة ومنح شخصيته الصفات الموجبة للمنقذ فنراه يتساءل: "ألا يشبه الدعم الذي قدمه ستالين للكنيسة تلك الوعود التي قدمها المسيح الدجال للروس والبيزنطيين والسلافيين بالعطايا والهدايا لمن يقوم بتمجيده وعبادته؟" (ص 308).

   ختامًا يبني ليف ريغيلسون دراسته هذه باعتبارها مدخلا إلى عمل طويل ينبش في مكنونات الكنيسة الروسية ويتتبع مراحل تطورها وانكساراتها، لاسيما وأن الكثير من الوثائق ما زالت طي الكتمان ويتطلب الكشف عنها الكثير من الجهد والبحث الدائب.

--------------------------------------------------------------------------

الكتاب: مأساة الكنيسة الروسية (1917 – 1953).

المؤلف: ليف ريغيلسون.

الناشر: تسينتر بوليغراف، موسكو 2017.

اللغة: الروسية.

عدد الصفحات: 415 صفحة.

*كاتب عماني

 

 

 

أخبار ذات صلة