آشور.. إمبريالية ما قبل التاريخ

Picture1.png

ماريو ليفِراني

عزالدين عناية*

في السرديات الحديثة، غلب التعاطي مع الإمبريالية كظاهرة ترتبط عميق الارتباط بالعالم الحديث. وقد تدعّم هذا الرأي بتحليلات تأصيلية استندت إلى الرباعي حنة أرندت وفلاديمير لينين وجون أتكنسون هوبسون وجوزيف شومبيتر، بوصف الإمبريالية شكلا متطورا من أشكال الاستغلال الطبقي. ماريو ليفِراني مؤلف كتاب "آشور.. إمبريالية ما قبل التاريخ"، وأحد كبار المختصين العالميين في تاريخ الشرق القديم، لا يدخل في جدل مع تلك الطروحات وإن يشير إلى تهافتها بشكل خاطف. فهو يعيد قراءة تاريخ المنطقة المشرقية من خلال التركيز على آشور (ما بين القرنين التاسع والسابع قبل الميلاد). مبرزا السمات الإمبريالية المبكرة التي طبعتها، على غرار الإمبراطوريات اللاحقة، مثل روما وبيزنطة وبريطانيا العظمى وإلى غاية الهيمنة الإمبريالية الرأسمالية التي يعيشها عالمنا اليوم: حيث السيطرة باعتماد سائر الوسائل المتاحة لتحقيق مصالح مادية واعتماد سلاح تأثيم المنافس وتشويهه، بقصد إضفاء طابع كوني على الرسالة الذاتية، وهي السمات التي لازمت كافة الأشكال الإمبريالية قديمها وحديثها.

يهدف الكتاب تحديدا إلى إعادة بناء الطابع الإمبريالي لآشور وليس إلى إثبات الريادة الإمبريالية في هذا المجال، أو إلى تتبع الخاصيات التي رافقت مختلف النظم الإمبريالية في القديم والحديث. حيث ينطلق ليفِراني من تحديد مفهوم الإمبراطورية ليخلص من وراء ذلك إلى عرض مدلول صفة الإمبريالي كمفهوم سياسي يستبطن الهيمنة في جوهره. يعرّف المؤرخ جون جيليسين الإمبراطوريةَ في دراسة منشورة عام 1973 بقوله: "هي كيان ذو سيادة يمتدّ على رقعة ترابية رحبة، ويضمّ جماعات سياسية واجتماعية متنوعة، ويمتدّ على فترة زمنية معتبرة، وتتركّز فيه السلطة في قبضة موحدة، عادة ما تكون ذات طابع احتكاري وتتميز بطابع الهيمنة والعالمية". وتذهب حنة أرندت إلى أن الإمبريالية هي مرحلة تمهيدية للتوتاليتارية، معتبرة ظاهرة الإمبريالية هي ظاهرة حديثة المنشأ على صلة بظهور البرجوازية وتطور التجارة المالية. غير أن ماريو ليفراني يعدّ ذلك التفسير قاصرا عن فهم الظاهرة في عمقها التاريخي، معتبرا أن ذلك الاستنتاج نابع من تأثير رؤى هوبسون ولينين وشومبيتر. وإن يكن دافع ذلك التفسير متأتيا من عامليْ الهيمنة والاستغلال أساسا، فإن ذينك العنصرين يحضران في الإمبرياليات القديمة أيضا، وهو ما يسفه ذلك الطرح كما يرى ليفِراني. تأكيدا لذلك التمشي، يعود ليفراني إلى توضيح التواشج الحاصل بين الإمبراطورية والإمبريالية (ص: 75)، المشتقة من الكلمة ذاتها في اللسان الغربي. ذلك أن الإمبراطورية في مدلولها الأصلي هي تشكيل سياسي وامتداد ترابي يسعى بشكل دؤوب لتوسيع دائرة نفوذه وبسط هيمنته على سائر أرجاء الكون، سواء عبر السيطرة المباشرة أو عبر الرقابة غير المباشرة. لتشكّل "الرسالة الكونية" جوهر برنامج الإمبراطورية السياسي. غير أن ذلك البرنامج السياسي الرّسالي قد يأخذ تلونات عدة عبر التاريخ، من هيمنة الطابع الديني عليه إلى غلبة الطابع المدني.

لا يخفي ليفِراني انتقاده لمفاهيم الإمبريالية المسيَّسة السائدة في الراهن، والتي غالبا ما تصف إمبراطوريات الشرق القديمة والحديثة بكونها "إمبراطوريات الشر"، المروِّجة للطغيان والعنف، والمفتقِرة لأدنى خاصيات مراعاة حقوق البشر؛ في حين يغلب التوصيف على إمبراطوريات الغرب بكونها حمالة لرسائل حضارية مثل الديمقراطية والمدنية والتنوير والتقنية. والحال أن الخاصيات الجوهرية للإمبريالية، في الشرق أو في الغرب، هي نفعية بحتة، لإرساء أسواق أو استجلاب ثروات أو ترويج منتوجات، أكان في القديم أو في الراهن، وما التبرير الإيديولوجي سوى غطاء، ولكن ضمن هذه اللعبة، تبقى الإمبراطوريات المستبطِنة لمحفزات عسكرية هائلة أو لحمولة دينية قوية هي القادرة على التوسع والتمدد خارج إقليمها التقليدي.

يعود ليفِراني إلى تتبّع الخاصيات الإيديولوجية العميقة المحفزة للهيمنة الآشورية والمتمثِّلة في مقولة "الإله يريد ذلك"، أي يحضّ على التوسع وعلى إخضاع العالم (بمفهوم ذلك الزمن). فبأمر الإله آشور تندفع السلطةُ مسخِّرةً كافة قواها لاجتياح العالم وامتلاكه. وما الملك الآشوري سوى منفِّذ للإرادة الإلهية الجارفة، فهو يشيد المعابد، ويقدّم الأضاحي، ويقيم الطقوس لذلك الغرض النبيل، ومقابل ذلك تضمن الآلهةُ السلطةَ الكونيةَ وتتيحها ضمن علاقة جدلية تكاملية. ومن هذه الناحية ثمة تقارب لآشور مع الصين من ناحية الفكرة الدينية المسماة بالتفويض السماوي، حتى وإن لم نعاين تبادلا ثقافيا بين القوتين في ذلك العصر. وضمن هذا التواصل الإلهي البشري، ما كان ملك آشور إلهاً، لا في حياته ولا بعد مماته، ولكنه ظِلُّ الله وصورته على الأرض، كما تبرز التصورات الدينية السائدة حينها (ص: 102). وبالتالي يتحرّك الملك لغزو العالم بدفعٍ من الرب: "بصولجانك تمدّد البلد والإله آشور يهبك السلطة والطاعة والعدل والسلم". فالرب آشور يحض الملك نحو أفق العالم البعيد قائلا: "انطلق لا تخشَ شيئا فأنا معك"، وهو ما يبدو جليا في نشيد توكولتي نينورتا. نشير في الأثناء أن آشور في الأدبيات العراقية القديمة هو اسم الرب واسم البلد في الآن نفسه، تتغير دلالته بحسب صيغ القول. ذلك أن الحافز الديني يعدّ محوريا في اجتياح العالم، حيث الأعداء لا دين لهم فهم "بدون آلهة"، أو أنّ آلهتهم وضيعة مقارنة بآلهة آشور، أو كذلك هجَرَتهم آلهتهم لِما اقترفوا من ذنوب وآثام، ليضعهم القدر في مواجهة القصاص الآشوري.

تحت عنوان: "الحرب المقدسة والحرب العادلة"، يعيدنا ليفراني إلى مفاهيم قديمة جديدة رائجة في الخطاب السياسي اليوم. ذلك أنّ الحرب المقدّسة غالبا ما تستعر بفعل حوافز دينية، بقصد نشر الدين الحق وإعلاء رايته، في حين الحرب العادلة فبوصفها شرعية، فإنّ مقصدها وضع حدّ لعنفٍ مستشرٍ (أكانت حربا دفاعية أو نصرة لمظلومين، أو كما نشهده اليوم بتعلّة التدخل الإنساني لحماية المدنيين). لقد تطوّر مفهوم الحرب العادلة في عصرنا إلى حدّ أمسى يضبطه قانون دولي، وفي الراهن الحالي غدا سمة الشعوب اللائكية الغربية. لكن ليفِراني يبيّن أنّ مفهوميْ الحرب المقدسة والحرب العادلة في التاريخ القديم، وفي آشور تحديدا، كان شديديْ الترابط. فلا وجود لحرب مقدّسة غير عادلة، ومن هو على حقّ يحالفه النصر، وفق المنطق الحربي القديم، وبفوز الإمبراطورية قديما تثبت بما لا يطاله الشك أنها متلائمة مع التكليف الإلهي (ص: 213).

وفيما يدعم أطروحة الحرب المقدّسة والعادلة، لم تخل استراتيجيات التوسّع من توظيف عامل "الاكتشاف بقصد الغزو". فليست الاكتشافات الجغرافية سمةً خاصةً بالعصور الحديثة، بل هي دأْبٌ قديمٌ لازم الإمبريالية القديمة أيضا، وكان موظَّفا بحسب مفهوم العالم في ذلك العصر. فقد كانت عمليات الاستكشاف لغرض توسيع سلطة آشور تتم تحت أشكال ثلاثة من الافتخار: الافتخار بشق طرق جديدة، والافتخار ببلوغ أراض قصيّة كانت في ما مضى مجهولة، وثالثها الافتخار بإخضاع ممالك ما كانت خاضعة من قَبل لآشور. غير أنّ الاكتشافات القديمة تختلف شكلا عن الاكتشافات الجارية في العصور الحديثة، وما يميز الاكتشاف القديم أنّه يجري وفي مقدّمته الملك الآشوري، الذي يقود عملية الفتح الجديد، وهو ما يتمّ بريّا، بخلاف الاكتشاف الحديث الذي غالبا ما يجري بحريا، والذي يأتيه في العصر الحديث بحارة ورحالة وكشافون يرسلهم ملوكهم وسادتهم لتولي تلك المهمة. ولا بد أن نوضّح أن مفهوم العالم قد تغير، حيث إخضاع العالم المراد به كل الأرض المعروفة في ذلك العصر، لذلك يتمثّل الآشوريون خريطة العالم بناءً على الرقعة الواقعة تحت سيطرتهم، وما خريطة العالم سوى خريطة الجغرافيا الخاضعة، وأما ما دون ذلك فهي جبال مهجورة وصحارٍ مقفرة تقع خارج خريطة العالم. ولكن الملاحظ في هذه الرحلة التوسعية، أن الخضوع يعني الهيمنة ولا يعني السيطرة، وهو مفهوم قديم لازال سائدا إلى اليوم في الإمبرياليات الحديثة.

ولا يعني أن الآشوريين ما كانوا على دراية بتواجد شعوب أخرى حولهم، سعوا إلى بسط هيمنتهم عليهم وتمديد "النظام" إليهم ووضع حدّ "للفوضى". والمقارنة بين الآشوريين والصينيين حينها تكشف أن الصينيين كانوا قانعين بتسيير العالم الخاضع لسيطرتهم، في حين كان يسكن الآشوريون هاجس التمدد، وهو الاختلاف الجوهري بين الصينيين والآشوريين. حيث نجد انفتاحا لدى الآشوريين لتوظيف الشعوب الأخرى المنضوية تحت الهيمنة الإمبريالية الآشورية واستخدامهم، وهو ما يتشابه جليا مع الهيمنة الإمبراطورية البريطانية في العصر الحديث. وعلى خلاف الإمبريالية الحديثة التي تتعلّل بتصدير ما يسمى بـ"الديمقراطية" و"الحضارة"، ساد في العالم القديم حافز تصدير "الطغيان" كسبيل لدعم الهيمنة.

فالشعوب التي يجرفها زحف الإمبريالية الآشورية، ليس لها الكثير من الخيارات: قَبلَ الهزيمة ثمة خيار الاستسلام أو الفرار وبعد الهزيمة ثمة إلزام الذوبان والاندماج. فمن زاوية سياسية وبعد إقامة الحكم الجديد، عادة ما يغدو الخاضعون الجدد آشوريين سياسيا وقانونيا، وقد يبدو هذا للوهلة الأولى إيجابيا، ليتترجَم الخضوع الفعلي في مسارين اثنين: الخضوع الجبائي أو الترحيل. وبالتالي يُلزَم الآشوريون الجدد بدفْع الضرائب مثل غيرهم من الآشوريين، ويخضعون لنظامي السخرة والتجنيد. وأمّا الترحيل فغالبا ما يطال الصفوة، ويأتي لضرورات مادية يمليها المركز. لكن لا يعني الترحيلُ التوجهَ بالضرورة نحو المركز، بل قد يكون نحو جهات تمليها حاجات المركز. حيث يتخلل الترحيل الفصل والمزج بقصد التوحيد، وبقصد تهشيم البنى الاجتماعية السياسية السابقة لخلق بنى جديدة. فالترحيل هو سياسة تهدف أساسا إلى تفكيك البنية السياسية الإثنية للفضاء المغزو بقصد تفادي أي تهديد مرتقَب. والملاحظ في سياسة الإمبراطورية الآشورية أنها على خلاف الاستعمار الحديث الذي يزحف نحو فضاءات جغرافية قليلة العدد ومتخلفة ثقافيا، فإن التوسع الآشوري يتمدد عموما باتجاه فضاءات تضاهيه تطورا تقنيا وثقافيا وتماثله من حيث العدد ديمغرافيا (ص: 251).

ومن السخف الحديث عن حقوق المواطنة المعاصر في نظام يطبعه الطابع الطغياني مثل الحكم الآشوري. ولكنّ ثمة مفهوما عاما سائدا، أن من تشمله هيمنة آشور يغدو آليا آشوريا، بيْدَ أنه ينبغي التمييز في تلك السياسة المواطَنية بين "الآشوري الأصيل" و"الآشوري الدخيل" نتاج السيطرة والغزو، فكلا النوعين يخضع إلى الملك والألوهية المهيمنة المتمثلة في إلزامات نظام السخرة والانضواء في الجندية (ص: 253).

وفي خضمّ ذلك التوسع الإمبريالي ثمة عنصران أساسيان يتمثّلان في "التوحيد الديني" و"التوحيد اللغوي" بقصد خلق وحدة سياسة صمّاء. ويعتبر ليفراني أن نشر الدين الحق الخلقي والتوحيدي، هو من سمات المسيحية والإسلام على وجه الخصوص، ولكن آشور ككيان سياسي كان يحكمها التعدد الديني، حيث كل بلدة، وكل مدينة، لها آلهتها المميزة، أي بانثيون خاص، فكيف حلّت آشور هذه المعضلة؟ يبرز ليفراني أن إله آشور هو صانع النصر والغلبة، وهو إله كوني متعال فسح حيزا للآلهة الأخرى. فالمهزومون بوصفهم آشوريين جدد، ينبغي أن يُقِرّوا بعلوّ الإله آشور، وينبغي أن يتعلموا الخشية منه ومن الملك، ولكن لا يُكرَهون البتة على التخلي عن آلهتهم، وهي فكرة تبناها المؤرخ موردخاي كوغان ووردت ضمن بحثه المعنون بـ"الإمبريالية والدين" (1974)، وتتلخص في أن آشور لم تلزم الشعوب بالخضوع للإله آشور، لكنها أمْلت مراعاة صارمة لآشور. وبالتالي يبدو التوحيد الآشوري توحيدا سياسيا واجتماعيا وليس توحيدا حنيفيا كما بدا جليا مع الديانات الإبراهيمية.

وبفعل الطابع التعددي العام المهيمن مثّلَ الخضوع للإله آشور خضوعا سياسيا أكثر منه دينيا. وهو تعامل سيتمّ تبنيه من قِبل الفرس والمقدونيين والرومان أيضا، ولعله الشكل الديمقراطي المتسامح الذي أنتجه ذلك العصر، وهو مفهوم براغماتي سيتمّ تجاوزه مع قِبل الديانات التوحيدية الإبراهيمية لإرساء نقاوة دينية بمنأى عن تداعياتها النفعية.

وأما في ما يتعلق بالتوحيد اللغوي، فهو يبدو سلسا ومصلحيا أكثر منه توحيدا لسانيا صارما. فلم تُلزم آشور الشعوب الخاضعة لهيمنتها بلغة آشور، بل تركتها على اختلاف ألسنتها، غير أنّ الواقع وإن أتاح تعددية لغوية فقد كانت الغلبة فيه للسان آشور، حيث نلحظ ضمن هذه الاستراتيجية التوحيدية أنّ الولاء للإله آشور كان مقدَّما على الولاء للسان آشور.

يكشف ليفِراني عن تماثل بين التصور الإمبريالي القديم والتصور الإمبريالي الحديث، بدءا من فكرة الرسالة الكونية، التي تسعى إلى لَمّ البشرية بأسرها تحت نظام رقابة خاضع للمركز، إلى فكرة اكتساب قوة اقتصادية ومناعة عسكرية.

أردف ليفراني كتابه الرصين بجملة من الفهارس والرسوم التوضيحية، راعت متطلبات الكتابة التاريخية العلمية. وأما عن خطة الكتاب فقد اعتمدت توزيع مضامينه إلى مواضيع شملت مفهوم الإمبريالية الآشورية ومظاهرها الدينية والسياسية والاقتصادية. وبرغم أن الكتابة في مواضيع التاريخ القديم غالبا ما تأتي جافة وثقيلة على غير المختص، فإن ليفراني قد وفّق في صياغة نص متماسك بلغة سلسة لا تثقل على غير المختص.

نبذة عن المؤلف: ماريو ليفراني مؤرخ إيطالي معاصر، من كبار المختصين العالميين في تاريخ المشرق العربي. ساهم في كثير من الموسوعات العالمية المختصة، وهو أستاذ زائر في العديد من الجامعات الغربية. صدرت له عدة أعمال عن تاريخ الشرق القديم وقد تُرجم بعضها إلى العربية: "أوروك.. أولى المدن على وجه البسيطة" (2012) و "تخيل بابل.. مدينة الشرق القديمة وحصيلة مئتي عام من الأبحاث" (2016).
-------------------------------------------------------------------

الكتاب: آشور.. إمبريالية ما قبل التاريخ.

تأليف: ماريو ليفِراني.

الناشر: منشورات لاتيرسا (روما) 'باللغة الإيطالية'.

سنة النشر: 2017.

عدد الصفحات: 384ص.

* أكاديمي تونسي مقيم بإيطاليا

أخبار ذات صلة