فيكتوريا زاريتوفسكايا*
الكتاب الذي بين أيدينا هو ثمرة الاجتماع الدوري لمنتدى "إزبورسك" (نسبة لمدينة إزبورسك في شمال روسيا) والذي عقدت جلسته الأولى عام 2012، وخلال خمس سنوات من عمره، اكتسب المنتدى صيتا روسيًا عاليا ونفوذا سياسيا واجتماعيا واسع النطاق. يتشكّل المنتدى من خبراء روس بارزين يؤيد غالبيتهم الاتجاه المحافظ في السياسة والاقتصاد. وترتكز وظيفة المنتدى على دراسة السياسة الخارجية الروسية، وتقديم المشورة بخصوصها للجهات المختصة، كما ويهتم أعضاؤه بكتابة التقارير التحليلية عن أداء الحكومة ووضع تقديراتهم لمختلف مجالات الحياة المجتمعية مع التركيز على الموضوعات المُلحة ذات الأهمية الوطنية؛ والمرتبطة بالمصلحة العامة للبلاد.
وفي هذه النشرة من اجتماعات المنتدى التي صدرت في كتاب منفصل، جرى النقاش حول العملية العسكرية الروسية في سوريا، تلك العملية التي جرت وتجري في ظل ظروف داخلية وخارجية صعبة: تضعضع الاقتصاد الروسي، والخلاف المجمد في شرق أوكرانيا، وتعميق المواجهة بين روسيا والولايات المتحدة وحلفائها على الصعيد العالمي. وقد حاول مؤلفو البحوث الواردة في الكتاب الإجابة عن الأسئلة ذات الصلة بالوضع الحالي في الشرق الأوسط وما حوله. من تلك الأسئلة: لماذا وضد من نفذت روسيا عملياتها العسكرية؛ الجوية والفضائية في سوريا؟ هل يشكل داعش تهديدا لروسيا؟ وإن كان التهديد موجودا فما هو مداه؟ ما حاجة روسيا إلى التدخل في سوريا وهل كان من الضروري حدوث ذلك؟ هل تشكل سوريا محورا روسيا استراتيجيا أم أنّ تواجدها هناك من أجل حلحلة بعض مشاكلها الآنية كمكافحة الإرهاب والمناورة لرفع العقوبات المفروضة عليها من قبل الغرب وأيضًا لكسب النقاط السياسية في اللعب مع أمريكا؟
ومع كل الآراء والمقالات والمدونات المعارضة للتدخل الروسي في سوريا وما تخلله من تحليل نقدي لذلك التدخل، والتي اندرجت بين دفتي الكتاب، إلا أنّ الكتاب بمجمله يعكس موقف روسيا الرسمي القائل إنّ روسيا تتصرف بشكل استباقي، أو بتعبير أحد المشاركين، فهي تقوم بنزع "حلقة الأناكوندا" المرمية حول حدودها، وتمنع بشكل نهائي أو تؤجل بأقل تقدير حربا عالمية بدأت بوادرها بالتبلور والتطور وذلك وفقا للسيناريو الأمريكي الذي يعتمد على ما يسمى بالفوضى المُسيطر عليها، وهي الفوضى المتمثلة في الصراعات الهجينة متعددة البؤر على طول الحدود بين روسيا والصين. وكما يشير مؤلفو الكتاب فإنّ المستفيد الرئيسي وربما الوحيد من هذه الصراعات هي الولايات المتحدة: "ليس ما يزعج واشنطن من التدخل الروسي في سوريا إمكانية تفاقم الوضع هناك، فالوضع فيها كان خطيرا قبل التدخل، والقصف المُدمِّر من قبل طائرات التحالف كان موجودا، وتدفق اللاجئين من سوريا إلى أوروبا الذي تسبب في أزمة حادة للبلدان الأوربية كان قد بدأ قبل التدخل الروسي، إذا لا يمكن أن يكون الوضع في سوريا أسوأ في حال تدخلت روسيا لمحاربة تنظيم داعش وعزله، وهذا ما حدث. ولكن ما يزعج واشنطن هو العكس تماما، فصقور الحرب الأمريكان يخشون من إمكانية نجاح روسيا في إنهاء سيطرة التنظيم الإرهابي" (ص 132 – 133). ويؤكد الباحثون أنّ مقدرة الولايات المتحدة على هزيمة تنظيم داعش كبيرة إن هي رغبت في ذلك، وكان بإمكانها القيام بذلك منذ بداية ظهور التنظيم، ولكن الحاصل أنّها تدفع التنظيم بدقة إلى الوجهة التي تريدها، وهذا بالذات ما تعنيه النظرية الأمريكية حول الفوضى المُتحكم بها.
وفي سبيل رفد الكتاب بتقصيات ميدانية تدعم الفرضية التي يرتكز عليها الباحثون وتعزز طرحهم العام، يورد أحد مؤلفي الكتاب (وهو هنا المستشرق الروسي المعروف ألكسندر بروخانوف الذي صدر له مع هذا الكتاب المشترك رواية بعنوان "المستشرق" جاءت كثمرة لجولة كبيرة قام بها في بلدان الشرق الأوسط وتعد الأولى من نوعها في الأدب الروسي) يورد كيفية تعاطيه الميداني مع قضية تدخل بلاده في الصراع السوري ويقول: "لقد تحدثنا مع المثقفين والصحفيين والسياسيين في محاولة لشرح الأسباب التي لجأت فيها روسيا لهذه الخطوة العسكرية محفوفة المخاطر وقلنا لهم إنّ محاربة تنظيم داعش في سوريا إنما هو دفاع عن حدودنا في منطقة القوقاز التي هي نقطة ضعفنا في آسيا الوسطى، حيث بدأت بالفعل طلائع اقتراب المتاعب والخطر. قلنا إنّ طائراتنا في سوريا لا تقاتل من أجل إنقاذ سوريا وإنما للوقوف ضد اتساع هذا الثقب الأسود الرهيب. ما نقوم به هو عملية رتق لهذا الثقب وذلك مع الحفاظ على خريطة الدولة السورية الموحدة. قلنا إنّ منع انتشار هذا الثقب الأسود إنما هو إنقاذ لأوروبا نفسها لأنه، ومن هذا الثقب، سوف يتدفق فيضان من ملايين اللاجئين الجدد ممزقي الملابس والغارقين في الدموع والبكاء والضغينة ليغرق معهم العالم الأوروبي". (ص 8)
ومع الإشارة إلى ما سماه المؤلفون الثلاثة بالنفاق في سياسة الولايات المتحدة فإنّهم لا يجدون غضاضة في وسم سياسة بلادهم روسيا بالمتناقضة، لا سيما فيما يتعلق بالمسألة الكردية التي يواجهها الكرملين بالصمت. ويعلق المشاركون في المنتدى على هذه المسألة بقولهم: "في خضم حديثنا عن تنظيم داعش في كل واردة وشاردة، نجد أنّ الأكراد العراقيين يتلقون المساعدات العسكرية من ذخيرة وأسلحة من جمهورية التشيك وهنغاريا ولكسمبورغ وألمانيا وحتى من أستراليا البعيدة، كل من هذه البلدان ترسل إليهم العتاد العسكري ومعه المستشارين، ولا أحد يطلب من روسيا ذلك! وبعد زيارته لواشنطن، اتجه الزعيم الكردي مسعود برزاني لطلب الأسلحة السوفيتية وخبرائها من تلك البلدان. أمّا روسيا التي يبدو أنّ اهتمامها منصب على داعش، نجدها تركن إلى الصمت وتختار الهامش حيال هذه المسألة" (ص 20).
يولي المؤلفون اهتماما كبيرا بالسؤال الحرج الذي ما فتئ يتصاعد في العالم العربي بشكل خاص ومفاده أنّ روسيا تؤيد بأعمالها مواقف الشيعة في الشرق الأوسط. في هذا الصدد يؤكد الباحثون أنّ روسيا تقف في مسلكها مع بلدان الشرق الأوسط على تقاليد قديمة، ولديها سياسة تعمل وفقها، بينما الإصرار على أنّها تتعامل مع الأوضاع هناك من منطلق ديني، إنّما هو رأي مبتذل، إذ يرى الروس أنّ ثمة تناقضات كبيرة وعميقة تجري في منطقة الشرق الأوسط تتجاوز الانقسامات والخلافات بين السنة والشيعة وغيرهما من الجماعات الدينية. وهذا النهج الروسي يؤكده تاريخ الإمبراطورية الروسية والاتحاد السوفيتي وروسيا الجديدة على التوالي، حيث تعايشت في أراضيها ضمن نظام متناغم ومتوافق كل من السنة والشيعة (ففي أذربيجان التي كانت منذ فترة قريبة جزءا من الاتحاد السوفيتي يشكل الشيعة حوالي 85% من السكان).
ومع ظهور العامل الإسلامي وتفاقم القضايا الأمنية في روسيا، اكتسبت مناقشة الإصلاحات في التربية الدينية الإسلامية لدى أعضاء المنتدى أهمية خاصة: "من هم الأئمة الذين يمكن الوثوق بهم في التدريس؟ هذا هو السؤال الجوهري، أمّا القول بأننا سننشئ بأنفسنا جامعات إسلامية وكفى فهو كلام لا وزن له. علينا أن نعرف العالم الإسلامي بشكل صحيح، وعلينا الالتفات إلى أنّ المؤمنين في روسيا يحبذون الذهاب إلى المسجد الذي يؤمّه إمام من خريجي الأزهر عن الذهاب إلى مسجد يؤمه إمام تخرج من جامعة قازان الروسية. وفي الاتحاد السوفياتي بكل إلحاده وبالقواعد التي أرساها الحزب الشيوعي، كان الأئمة يبتعثون للدراسة في الخارج ولكن بشكل منظم ومدروس. اليوم كل من هبّ ودبّ بإمكانه السفر للدراسة الدينية، والكثير من هؤلاء ينضمون إلى الإسلاميين المتطرفين. وعليه وجب النظر في إلزام سفاراتنا على القيام بواجبها في هذا الشأن. وربما يكون الوقت قد حان للتفاوض مع المصريين حول عدم قبول أي طالب روسي للدراسة في الأزهر من دون ترتيبات وتصاريح خاصة وترحيل من يخالفون ذلك"" (ص 24-25).
يرى أعضاء المنتدى أنّ مشكلة التطرّف في جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابقة والواقعة على طول الشريط الحدودي الجنوبي لروسيا إنّما هي مشكلة تهدد روسيا مباشرة. يقول أحد أعضاء المنتدى: "عندما كُلفت بالمشاركة في عملية إرساء الاستقرار في قرغيستان، ذهبت إلى الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين علي محيي الدين القرة داغي وأقنعته بالحضور للوساطة. جاء الرجل والتقى بقيادة قرغيزستان، وعندما عاد كانت عيناه على جبهته كما يقال فقد وجد في بيشكيك وأوش منظمات محظورة ومدروجة في قائمة المنظمات الإرهابية ليس فقط في مصر بل وفي المملكة العربية السعودية؛ أمّا هنا فهي تعمل بيسر وسهولة: تبني المساجد وتُعيّن الأئمة! وفي المقابل نقوم في روسيا بتبني نظام تفضيلي للقادمين من قيرغيزستان" (ص 23).
وفي معرض ردهم عن سؤال حول أسباب انتشار التطرف يعترف المؤلفون أنّ الدولة والمجتمع يخسران المعركة مع التنظيمات الإرهابية كتنظيم داعش، حيث لا يوجد لدى الدولة برنامج على المستوى الإيديولوجي لكسب هذه المعركة. وفي نظرهم لا يصلح لمواجهة الأيديولوجية الدينية إلا أيديولوجية دينية أخرى؛ حيث إنه وبرأي المؤلفين الثلاثة لا يبدو لما يسمى بالإسلام التقليدي القدرة على لعب هذا الدور؛ ذلك لأنّه بيروقراطي ولا يلبي احتياجات الشباب. ومن جهتها فالكنيسة الأرثوذكسية في وضعها الحالي هي أيضا غير قادرة على جذب مناشط الشباب. بل وحتى المجتمع العلماني لا يمكنه أن يقدم شيئا منافسا باستثناء فكرة الاستهلاك من أجل الاستهلاك.
إنّ مناقشة القضيّة السوريّة لدى أعضاء المنتدى لهي مناقشة متعددة الأوجه، إذ تنطوي على منظور تاريخي للعلاقات بين روسيا وسوريا. ومن المحطات التي يذكرها الباحثون في هذا السياق أنّه وفي عام 1770 جاء طلب إلى الإمبراطورية الروسية من سكان مدينتي طرطوس واللاذقية لكي تصبحا جزءًا من روسيا. وأنّ الأمير فلاديمير الذي حوّل الروس إلى الديانة المسيحية في القرن العاشر كان قد اعتنق المسيحية على يد مطران أنطاكية وكان سوريًا، ناهيك عن وجود أكبر وحدة عسكرية استشارية سوفيتية ومن بعدها روسية في سوريا.
وردت في الكتاب نظرية نفسية حول خصوصية السياسة الداخلية والخارجية للدول والشعوب. فثمة رأي يقول إنّ المقارنة جائزة بين سياسة الدولة والملامح الوطنية للشعب، بل بينها وبين الأمراض والانحرافات النفسية في المجتمع. وحول الملامح السياسة لروسيا وتجليها العام يقول أحد مؤلفي الكتاب: "إنّ ملامح شخصيتنا الوطنية تقترن بالهوس الاكتئابي والتخبط؛ مع تناوب هذين القطبين. فتتبدل في تاريخنا فترات الصعود وإحراز الانتصارات الفائقة لتحل محلها الهزائم والمآسي الماحقة" (ص 202). وإلى جانب الهوس الاكتئابي في تاريخ البلاد ثمة أيضا ما يشبه جنون العظمة والانفصام النفسي وذلك: "عندما تحل فكرة التعددية في شخصية رئيس واحد، حينها يسلك مجتمعنا (أي المجتمع الروسي) مسلكا انطوائيا باتجاه الحياة الداخلية الخاصة بنا وقد اعتدنا تسمية ذلك بالديمقراطية، أمّا في الفترات التي يستولي عليها الشعور بالعظمة وجنونها فنتجه نحو النظام الشمولي" (ص 202).
ختاما يشير المشاركون في منتدى "إزبورسك" إلى تشابه تنبؤات الكتاب المقدس بما يجري اليوم في سوريا والتي وفقها ستندلع في الشرق الأوسط مجزرة مروّعة تقضي على ثلث ساكنته، وسيحدث ذلك بالقرب من تل مجدو (ومن هنا جاء عنوان الكتاب). وعلى هذا الأساس يرى مؤلفو الكتاب أنّ الحرب الدائرة في سوريا ليست حربا بين الخير والشر بل هي حرب إبادة شاملة، حيث لا وجود لجانب خيّر وآخر شرير؛ وإنما الجميع ينصاعون لقيادة شيطانية ويهرولون نحو الجحيم.
----------------------------------------------------------------------------
الكتاب: أرمجدون السوري.
المؤلفون: ألكسندر بورخانوف، ليونيد إفاشوف، فلاديسلاف شوريغين.
الناشر: عالم الكتب/ موسكو 2016.
اللغة: الروسيّة.
عدد الصفحات: 288 صفحة.
*أكاديمية ومستعربة روسيّة
