أمجد سعيد
إنَّ التمسُّك المفعم بالتضحية تجاه ما تتمسَّك به، قد يكون هو السبب الوحيد الذي قد يحيدك عن الحيادية والموضوعية، وما يزيد الأمر عُمقاً وتعقيداً، هو تبدُّل الأشياء التي يتشبث بها الآخرون، وتحوُّلها من كونها جوهراً في فترة زمنية معينة -وهي الفترة التي تمسَّكوا بها- إلى شيء قد يذكر بأنه مُساهم بنسبة ما إلى ما وصلنا إليه الآن.
إنَّ الأزمة التي بصدد ذكرها في هذا المقال هي أزمة علوم (crisis of science) كما قال هوسرل. ويسعى الأستاذ جمال قوعيش لتفنيد وتحليل هذه الأزمة من خلال مقاله البحثي المنشور بمجلة "التفاهم" تحت عنوان "العلم والفلسفة.. أو حوار الفيزياء والميتافيزيقيا". ففي بدايات القرن العشرين، ظهرتْ القراءة التفكيكية والتحليلية للواقع آنذاك بسبب تطوُّر وتورُّط الفيزياء الذرية وتحت الذرية بالحياة اليومية المعاشة، وهذا ما أدَّى لتبدُّل النظرة العامة للواقع المعاش. في القرن السابع عشر، قام كلٌّ من نيوتن، وديكارت، وجاليللي ببسط النظرة الآلاتية للعالم، وهو ما أدى للاختلاف في وجودية الأشياء، وبهذا أوجد ديكارت أولا نظرته إلى الطبيعة.
النظرة المنفصلة لديكارت للكون كانتْ عن فصل الكون إلى عالمين؛ هما: عالم العقل وعالم المادة. وبهذه النظرة، كان ديكارت يُضخِّم العدسة الميكانيكة للأشياء المادية ضمن نطاق واسع، مُبعداً بذلك كل ما يتعلق بالروح والعقل، وقام ديكارت بتعميم هذه النظرة لتشمل التصنيفات الأرقى في السلم النوعي، لتشمل الحيوان والنبات ولتصل إلى الإنسان نفسه. ويفند قوله عندما يأتي الأمر إلى الإنسان بأنه: لا يمكن تصنيف الجسد البشري كصنف يختلف تماماً عن الآلة الميكانيكية، ولكن ما يجعل الإنسان مختلفاً نوعا ما عن الأنواع الأخرى هو سكون النفس العاقلة بداخل جسده.
أمَّا الإتمام الاحتفالي الذي قام به نيوتن لينهي السلسة المفاهيمية التي بدأ بها جاليللي وديكارت، فهو ما شكَّل قوة رقمية لهذه المفاهيم، بأنَّه قام بإيجاد صياغة رياضية متماسكة للنظرة الميكانيكية للإنسان. وحتى النصف الأول من القرن العشرين، سادتْ مفاهيم الميكانيكا النيوتنية، وما زاد هذه النظرة رَوَاجاً هو أنَّ الرغبة المفرطة لعلماء الاجتماع، والنفس والاقتصاد، كانت مُلحَّة لفهم هذه النظرة، فكان اعتمادهم واهتمامهم ينصب كلُّه على الإتمام النيوتني لأنسنة المكيانيكا.
الاختلافُ الذي أتى لاحقاً هو اختلاف ثوري وجديد للغاية، فما قام به سيجموند فرويد باستخدام أسلوب التداعي الحر في التحليل النفسي لبسط هذا العلم، وإظهار أنَّ الاعتماد ليس فقط على النظرة الديكارتية، بل على الآلاتية النيوتنية. وقد نخلص بذلك إلى أن مناهل وتيارات الفكر السيكولوجي الأساسية أكاديمية، وواحد منها جاء من العيادة.
ظهر "البراديفم الجديد" في الفيزياء المعاصرة، وقد توصَّل للظهور أيضاً في العلوم الأخرى كالبيولوجيا، والطب، وعلم النفس، والاقتصاد، وهذا الظهور لم يعُد قيمة جديدة كليا على المنظومة المعرفية، بل تفرع للوصول إلى خارج المؤسسة الأكاديمية. ولوصف البراديفم المناسب، يجب أن تكون النظرة للمادة كما وصفتها الفيزياء الحديثة شاملة لكل شيء.
ثمَّة إطار الآن يبدو أنه استمرار طبيعي لمفاهيم الخطاب الفيزيائي، وهذا الإطار يسمى "نظرية المنظومات" أو "النظرية العامة للمنظومات". قد يتم اعتبار أن النظرية العامة للمنظومات كمصطلح متداول مصطلح مهزوز في واقعه وعمقه، فهو ليس نظرية صارمة معينة؛ مثل: النظريات النسبية أو الكوانتية، بل هو بالأحرى أقرب إلى الرابط الذي يقارب بين الأشياء. تختص "المقاربة المنظومية" بتوصيف الممنظومات، بما هي كليات مُتكاملة تستمد خواصها الجوهرية من التعاقدات بين أجزائها؛ لذا فإنَّ هذه المقاربة لا تركز على الأجزاء، بل بالأحرى على التعاقدات والتواكلات بين الأجزاء، ويمكن إيجاد أمثلة على المنظومات في العالم الحي وغير الحي.
إنَّ أهمَّ خصائص التنظيم الذاتي هي أنَّ المنظومة تتكون من وحدات دائمة العمل؛ إذ إنَّ عليها المحافظة على تبادل مستمر للطاقة والمادة مع بيئتها لكي تبقى على قيد الحياة. وهذا التبادل يتضمَّن توظيف بُنى منظمة وتكييفها، ثم استعمال بعض المكونات للحفاظ على "نظام المتعضية"، وحتى مضاعفته بعملية الاستقلاب.
يُمكن لمظاهر التنظيم الذاتي التي تمَّ وصفها حتى الآن أنْ تُرَى على أساس أنها "سيرورات صيانة ذاتية"، وما يجعل فهم المنظومات الحية صعبا تماما هو أنها لا تتصف بنزوع إلى الحفاظ على حالتها الدينامية وحسب؛ ولكنها في الوقت نفسه تبدو كذلك نزوعا إلى تجاوز ذاتها، إلى تخطي حدودها ومحدوديتها تخطيا خلاقا وفعالا، من أجل توليد بُنى جديدة وأشكال جديدة من التنظيم، ومبدأ التجاوز الذاتي يتجلى في سيرورات التعلم والنمو والتطور.
ولابد من طرح السؤال الذي يتكرَّر مع بداية كل قرن؛ وهو: هل يمكن فهم العقل من جديد؟
وهنا، نأتي لاقتراح البريطاني جريجوري باتيسون صاحب مدرسة بآلو آلتو بكاليفورنيا، الذي قال: إنَّ العقل كظاهرة منظومية تختص بها المتعضيات الحية والمجتمعات والمنظومات الإيكولوجية. ومن أجل تطبيق النظرة المنظومية على متعضيات أرقى وعلى الكائنات البشرية بشكل أدق وأخص، من الضروري والحتمي التعامل مع ظاهرة العقل.
إنَّ معايير باتيسون للعقل يتبيَّن أنها وثيقة الصلة بخصائص المنظومات ذاتية التنظيم، وبالفعل فإنَّ العقل خاصية جوهرية من خصائص المنظومات الحية، كما عبر فريتجوف كابرا قائلاً: "العقل هو جوهر الحياة". سيكون للمفهوم الجديد للعقل قيمة هائلة في محاولاتنا للتغلب على التقسيم الديكارتي، وكل من العقل والمادة لن يبدو كل منهما بعد الآن وكأنهما ينتميان إلى مقولتين منفصلتين اثنتين؛ بل يمكن النظر إليهما بوصفهما يمثلان مجرد سمتين للظاهرة نفسها. تصبح الآن العلاقة بين العقل والدماغ واضحة تماماً؛ فالعقل هو دينامية التعضي الذاتي، والدماغ هو البنية البيولوجية التي تنفذ من خلالها الدينامية.
إنَّ العالم المادي -وفقاً للفيزياء المعاصرة- ليس منظومة ميكانيكية ناتجة عن أشياء منفصلة؛ بل يظهر كشبكة مُعقَّدة من العلاقات. فالجزئيات ما تحت الذرية لا يمكن فهمها ككيانات معزولة ومنفصلة؛ بل يجب أن تُرى بوصفها صلات متداخلة أو ترابطات ضمن شبكة من الأحداث. حيث إنَّ مفهوم الأشياء المنفصلة ما هو إلا نوع من التطبيع المثالي، كثيرا ما تكون مفيدة للغاية، لكن: هل يبدو أنه لا أساس لها من الصحة؟
