الرُّؤى الكونية

عاطفة المسكريَّة

اختلفَ مفهوم "رؤية العالم" ما بين المفكرين والعلماء -علماء الأنثروبولوجيا تحديدا- وبعض الأيديولوجيات والأديان. ويتمحور هذا الاختلاف حول التصورات الكامنة لدى هذه التصنيفات فيما يتعلق بأمور كالحق والباطل، الخير والشر، وما هو خاص وما هو عام. فللمسيحية نظرة ربما تختلف نوعا ما عن اليهودية أو الإسلام، وللفلسفة نظرة تختلف عن علم الاجتماع أو الأنثروبولوجيا. فإذا ما جئنا نسلِّط الضوء على الإسلام، نجد ذلك حاضرا في القرآن الكريم؛ حيث إن القرآن يحمل منهاجا ومنظورا دينيا خاصا فيما يتعلق بما سبق ذكره من أمور كالخير والشر. ويرد ذلك في مقال للكاتب والمفكر اللبناني رضوان السيد، نُشر بمجلة "التفاهم" تحت عنوان "القرآن والتاريخ: الرؤية القرآنية في الأمم والحضارات"؛ حيث يلخِّص رؤية العالم من المنظور الإسلامي من خلال القرآن الكريم.

وانقسمتْ التصوُّرات الواردة فيه ما بين التصوُّر القرآني المتعلق بالجانب التاريخي، والتصور المرتبط بالأفراد والأمم، والتصورات المرتبطة بالقيم والتجربة التاريخية. ووجد ذلك قبولا لدى مجموعات كبيرة، ولكن بالمقابل هناك مجموعة تمرَّدت على هذه التصورات؛ كونها لا تتناسب مع أوضاعهم الفردية أو الثقافة المكتسبة في محيطهم. فمثلا في القرآن الكريم: قيم تعدُّ أساسية وجب الالتزام بها في سبيل النهوض بالأمة وبدونها تهلك الأمم. مثل هذه الأمور تعكس الرؤية القرآنية للعالم فتعطي للفرد فرصة لإدراك سبيله في الحياة واكتشاف ذاته وما حوله وأوجه الشبه والاختلاف بينهما، وبالتالي هي وسيلة لإعطاء معنى لوجود الإنسان على الأرض؛ حيث إنه لا يستطيع بطبيعته أن يعيش بشكل عشوائي معنويًّا، بمعنى أنه لا يدرك أو يفهم ما يدور حوله. إلا أن محدودية الإدراك لديه -فطريا- وعدم قدرته على استيعاب كل الأمور تحتم عليه قبول الصورة الكبرى دون الخوض في التفاصيل. ولطالما أثبتت مناهج السياسة والدين في الجامعات أنَّ الأديان تؤدي هذا الدور بإتقان وتبعث على الشعور بالطمأنينة نتيجة تقديمها إجابات للتساؤلات المرتبطة بالمسائل الوجودية. وأيضا تعطيه الرؤية القرآنية الفرصة للنظر إلى نفسه كجزء من الطبيعة له ككيان يميزه عن باقي المكونات الطبيعية. ومن جانب آخر، تؤكِّد الرؤية التاريخية للقرآن أهمية نقاط الزمكان والفكرة التي غالبا ما تكون دعوية.

وتتعدَّد الأمثلة على ذلك من خلال السور والآيات التي ذكرت الوقائع والغزوات؛ مثل: غزوة حنين، وغزوة بدر. أيضا بالنسبة للأمم والأفراد، ذُكِرت بعض النماذج في القرآن كصاحب الجنة أو البستان، إضافة الى المسيطرين على قوم ما كفرعون مثلا وما تعرض له هو وبنو قومه من هلاك نتيجة الفساد الذي تغلغل في نفوسهم. يرتبط ذلك بشكل مباشر بالشعوب أو الأمم الواقعة في الطرق التجارية وفقا لما ورد؛ حيث تزدهر هذه الطرق التجارية، ومن ثم يبدأ الفساد بالانتشار بينهم، ومن ثم يهلكون فيظهر المصلحون في محاولة إعادة القرى لأمجادها فينجحون في ذلك أو يفشلون فيها أحيانا. وتتكرَّر هذه الدورة على فترات مختلفة من التاريخ حاملة نفس الفكرة التي تعكس أسباب نهوض الأمم وهلاكها. ونتيجة لذلك، بإمكاننا القول إنَّ مفهوم رؤية العالم -وفقا لأي منهج- من المفترض أن يكون شاملا غير متناقض بالعادة وفقا لكافة المناهج. وهذا ما نجده حاضرا في القرآن الكريم. حيث يحث على التشبث بالقيم -كالمساواة، والكرامة، والرحمة، والعدالة والخير- والتي بدورها تؤدي إلى نفس النتائج. هذه القيم تشكل الجانب النظري، إلا أنها إذا ما انعكست على الأخلاق التي تعد التزامات دينية من الأساس، يصبح تأثيرها واضحا على الفرد والمجتمع ككل.

ويُذكر في هذا السياق أنَّ رؤية العالم باختلاف معانيها لدى كافة التصنيفات تَمْنَح الإنسان دافعا لكونها تمنحه الفرصة لفهم الحياة؛ وبذلك تعطيه سببا للإيمان. ولرؤية هذا الجانب وفهمه، قليل من المقارنة قد يفي بالغرض مع أولئك الذين قرَّروا التخلي عن الجانب الإيماني؛ سواء بالخالق أو الأديان بشكل عام؛ حيث إنَّ الفكرة السائدة لدى هذه الفئة أن اللاوعي والعدم أنتج الوعي والعقل؛ مما يعدُّ غير منطقي لدى فئة لا بأس بها على الأقل. والذي يثير التساؤلات هنا هو الكيفية التي يستطيعون بها العيش دون الإيمان الداخلي الذي يبعث على الطمأنينة؛ إذ يدرك الإنسان أن محدودية القدرة لديه لها مُبرِّر؛ لأنَّ الله الذي خلقنا هو الكامل والمدبر للأمور التي لا يفقه بها البشر. قد نتفق على أن العقلية والقدرات التي منح إياها البشر تفي بالغرض الذي خلق من أجله والبيئة التي وجد فيها، لكن لا يمكن تجاهل الجانب الآخر والوجودي الذي يفوق عقل الإنسان تفسيرا، رغم حدوثها وتكرارها أمام البشر كالموت والغيبيات مثلا. قد لا يحق لنا أن نحكم على من يسير على الصواب أو الخطأ إلا أنَّ الإنسان له حرية التفكير والقياس والشك كذلك، على أن يكرم شكوكه بالبحث حتى لا يعيش العشوائية المعنوية بداخله. إنَّ رؤية العالم من منظور ديني أو فلسفي، أو أيا كان، تُحدِّد وجهة الإنسان؛ لأنه بطبيعة الحال سيتصرف وفقا للصورة التي يؤمن بها ووفقا لنظرته لهذا العالم؛ لذا إما أنْ تمنحه إيمانا تاما وطريقا واضحا، أو رؤية مشوشة وخطوات متخبطة. وقد يخلق الإنسان لنفسه رؤية خاصة في مرحلة ما مبنية على رؤى أكثر شمولا كالتي وردت في القرآن، على أن تضاف إليها القراءات والتجارب الشخصية للإنسان. لكن ما يُميِّز هذا المفهوم أنه غير قابل للتعميم أو التحول إلى قانون علمي ثابت؛ إذ إنَّ الظروف أبسط ما يكون تختلف في نفس المدة الزمنية؛ لذلك هي غير قابلة للتحول إلى قانون ثابت.

وعلى كلٍّ، أسهمت رؤى محددة في تشكيل بعض المذاهب في أوروبا؛ فالمذهب البروتستانتي في فترة من فتراته كان مبنيا على تقديم صورة كونية من منطلق ديني بحت، ابتداء من ذات الإنسان وعلاقته بالله وإرادته، وصولا إلى مصيره نتيجة الانغماس والانشغال بالدنيا. وفي هذا السياق، من المهم ذِكر مسألة التغيير الوارد في هذه الرؤى؛ حيث كانت تميل نحو التسليم والخضوع التام، إلا أنها أصبحت أكثر تفتحا من نواحي النقد الفكري وهي قابلة للتغيير مستقبلا كلما كثرت محاولات فهم رؤى العالم بنظرة المجددين.

أخبار ذات صلة