ميخائيل بوغدانوف
فيكتوريا زاريتوفسكايا*
تعد العلاقات الروسية المصرية (إلى جانب علاقات روسيا بالدول العربية كافة) فريدة من نوعها، إذ يختلف هذان البلدان في كل شيء: التاريخ، والدين، والعقلية، وخصوصية الاقتصاد والهيكل السياسي الاجتماعي في دولتيهما. مع ذلك بقيت الدولتان في سعي دائب لإيجاد صيغة للتعاون والتفاعل المثمر بينهما. كانت الأوضاع تتبدل بين حين وآخر، ومنها مثلا أن تعتلي السلطة في القاهرة قيادة لا تحمل أي ود تجاه روسيا، ثم، وفي الوقت المناسب، تختفي مثل سراب في الصحراء. بالمقابل تعرضت روسيا لاضطرابات سياسية واقتصادية قاسية، تم خلالها استبدال اقتصاد السوق بالتوجه الاشتراكي، والغربلة في الركائز الإيديولوجية، كل هذه التحديات التي شهدتها روسيا طيلة القرن العشرين وضعت علاقاتها بمصر في ميزان متأرجح لا يستقر عند مؤشر ثابت. ولكن، وبعد كل شيء، يجب التأكيد على أن كلا البلدين ظلّ متمسكا بطرف من طرفي العلاقة وليس في نيته التخلي عنه.
بيد أنّ الأسئلة تشرع أبوابها في قضية العلاقات الروسية المصرية ومستوى التعاون بين البلدين، وما هي الآفاق المفتوحة لهذا التعاون، وكيف لنا أن نقيّم المشاريع الثنائية التي أثمر عنها التعاون المذكور وهل يمكن البناء عليها لقراءة مستقبل العلاقة بين البلدين، بل وبين روسيا وبلدان المشرق العربي قاطبة، باعتبار أنّ مصر هي قاطرة هذا المشرق وما يترتب عليها ينعكس على المنطقة بأسرها.
يوافينا بالإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها ميخائيل بوغدانوف في كتابه الجديد الذي بين أيدينا "موسكو – القاهرة: ارتفاع وانخفاض مستوى التعاون". وقد لمع اسم بوغدانوف في السنوات الأخيرة، ولا سيما بعد استلامه مهام نائب وزير الخارجية، ومبعوث الرئيس الروسي إلى الشرق الأوسط. وبحكم التغطية الضعيفة لمسألة التعاون بين موسكو والقاهرة سواء في الصحافة الروسية أو العربية، يأتي هذا الكتاب ليسد ثغرة في هذا الجانب، فضلا عن القضايا الأخرى التي ينسكب عليها الضوء تلقائيا كلما دار الحديث عن العلاقات بين دولة كبيرة مثل روسيا وبين المشرق العربي الذي يشهد تغيرات داخلية كبيرة ومؤثرة على الصعيد العالمي.
يناقش الكتاب العقود الأخيرة للعلاقات الروسية المصرية، تحديدا منذ انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991 وحتى انطلاق ما يعرف بالربيع العربي عام 2011. وكما يشير الكاتب، فقد مرت العلاقات الروسية المصرية طوال هذه السنين بمراحل تاريخية عديدة وخضعت لتغيرات ملحوظة، وفي بعض المجالات تكون التغيرات نوعيّة. وقد صنف الدبلوماسي تلك التحولات على النحو التالي: الأزمة (1991-1995)، العودة والبحث عن أشكال جديدة من التعاون (1996-2000)، الارتفاع النسبي (2000-2011) وأخيرا المرحلة من عام 2011 التي لم تكتمل فصولها بعد ولم يتم تقديرها بمعايير شاملة.
يعرض المؤلف في كتابه تحول العلاقات بين روسيا ومصر بما تحمله من مضامين وأسباب ونتائج سواء بالنسبة لروسيا أو لمصر، ويتسع نطاق هذه العلاقة ليشمل منطقة الشرق الأوسط والمجتمع الدولي. ويفيد المؤلف من موقعه السياسي فيقدم للقارئ رؤية مجهرية للدبلوماسية الرسمية الروسية حول العديد من الأحداث التي وقعت ومازالت تجري في منطقة الشرق الأوسط. ويناقش الكاتب طرق التحديث المأمولة بين روسيا ومصر، عارضا أدوات التعاون بين البلدين وواصفا مختلف جوانب التواصل بينهما، كما يحدد العوامل التي تؤثر في تطوير هذه العلاقة أو تقف عائقا دون ذلك.
ومنذ البداية يؤكّد المؤلف على إشكاليّة العلاقات بين روسيا ومصر وعلى طبيعتها المعقدة، مشيرا إلى أنّ روسيا الجديدة (وعلى الرغم من غرابة هذا الاستنتاج للمؤرخين والمراقبين) كان عليها أن تبني العلاقات مع الجمهورية العربية من نقطة الصفر، حيث أصبح واقعا ملموسا إلى حد بعيد أنّ علاقة روسيا بمصر، ومنذ سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين قد انحرفت بشكل حاد وخطير. فخلال الحرب الباردة وجد الاتحاد السوفيتي ومصر نفسيهما على طرفي نقيض في التحشيد والصدام بين مختلف النظم العالمية وذلك من أجل حيازة مناطق النفوذ في الشرق الأوسط، ومن آثار ذلك اختفاء التعاون الثنائي في بناء المنشآت الصناعية والزراعية وانخفاض التبادل التجاري بين البلدين، كما تمّ طرد عشرين ألف عسكري سوفيتي متخصص من مصر عام 1972، وفي عام 1975 ندد الرئيس السادات بمعاهدة الصداقة والتعاون بين البلدين وقام بقطع علاقات بلاده الدولية مع الاتحاد السوفيتي.
سوى ذلك، وفي أواخر الثمانينيات وبداية التسعينيات، برزت عقبة أخرى أمام التعاون المثمر بين روسيا ومصر وهي حالة الاقتصاد السوفيتي الذي أصبح غير قادر على منافسة الغرب في منطقة الشرق الأوسط حيث أصيب (الاقتصاد السوفيتي) بأزمة تنظيمية شاملة. في تلك الأثناء دعمت الولايات المتحدة والعديد من الدول الأوروبية الاقتصاد المصري والاستقرار السياسي في مصر ما غير المسار المصري باتجاه الغرب وذلك: "على الرغم من النقد الذي وجه من قبل بعض المحللين لمدى فعالية تلك المعونة الاقتصادية " (ص 21)، وخاصة على المدى الطويل.
وبالرغم من وجود رغبة واضحة للتعاون، يكشف لنا الدبلوماسي الروسي لحظات حرجة في عملية تطبيع العلاقات بين البلدين. بداية، وقبل كل شيء، كانت لحظة حرب الشيشان والوضع في شمال القوقاز المسلم. يكتب بوغدانوف في هذا السياق: "التزمت القاهرة رسميا موقف الحياد الإيجابي من مسألة الشيشان (...) وبالنسبة لوسائل الإعلام المحلية (المصرية) فقد فضلت الاعتماد على معلومات الوكالات الأجنبية كمصدر لها إلى جانب الامتناع عن التعليق من جانبها. وعلى ما يبدو فقد ترك هذا الموقف المحايد لدى الروس انطباعا بازدواجية النظرة المصرية تجاه الأحداث في شمال القوقاز، وإن كان ذلك بلا أي تدخل مصري" (ص 45). ويتابع بوغدانوف عن وزير الخارجية المصري عمرو موسى حيث: "أكد أنّ مصر ترى أنّ الشيشان جزء من روسيا وبأن الأحداث هناك شأن داخلي لروسيا. ولكن في أحد المؤتمرات دعا إلى وقف القتال وبدء عملية المباحثات" (ص 46).
ثمة عوامل خطيرة يجدها الباحث في مقدمة العوائق التي تقف أمام التطورات الإيجابية بين البلدين ومن بينها الرُهاب المتولد من خوف القاهرة من الاعتماد الكبير على موسكو في مجالات أساسية. إلا أنّ المؤلف يرى الواقع من زاوية مختلفة، فإن كان ثمة تبعية لأي من البلدين للآخر، فهي تبعية مشتركة ومتبادلة. وهكذا فوفق الإحصائيات نجد أنّ أربعين بالمائة من احتياجات الحبوب المصرية تأتي من روسيا، وبالمقابل فهذه النسبة تشكل أكثر من نصف الصادرات الروسية للحبوب.
وفيما يتعلق بالجوانب السلبية في العلاقات الثنائية بين البلدين في القرن الواحد والعشرين، يلاحظ الدبلوماسي الذي كان يشغل منصب سفير روسيا في القاهرة في الفترة ما بين 2005-2011 أنّها برزت في منتصف العقد الأول من هذا القرن، وسببه قلق الحكومة المصرية بشأن سيناريو تغيير السلطة. كانت الدوائر المصرية العليا تسعى إلى توظيف دعم موسكو لها في مواجهة المعارضة داخل البلاد، لاسيما أن ذلك يأتي على خلفية الانتقادات الغربية لنظام مبارك في عدد من القضايا الرئيسية لسياسته الداخلية. وفي ظل تلك الظروف اتخذت روسيا موقفا مبدئيا وثابتا بعدم التدخل في الشؤون الداخلية المصرية كما أبدت استعدادها للتعاون مع أية حكومة مصرية تأتي، الأمر الذي أحبط الطرف المصري.
يقدم الكاتب صورة موسعة من المشاريع التي تمّ التخطيط لها بين البلدين ولكن من غير أن ترى النور. من بينها عرض المصريين لإنشاء منطقة صناعية روسية بالقرب من الإسكندرية ولكن باستثمار روسي كامل، الأمر الذي لم يتقبله الجانب الروسي، ويعلل الكاتب ذلك الفشل بقوله: "منذ بداية عام ألفين وثمانية، إبّان الأزمة المالية العالمية، أصبح واضحا أنّ السواد الأعظم من الشركات الروسية لا تملك ما يكفي من رأس المال لإنشاء مجمعات استثمارية في الخارج، كما أنّ منتجاتها ليست دائمًا قادرة على المنافسة لجذب الاستثمارات الخاصة". ومن المشاريع الأكثر إثارة للاهتمام مشروع الصناعة المشتركة لطائرة تو-204 ولكن، وكما يشير المؤلف: "لسوء الحظ نشأت عوامل داخلية لدى الطرف الروسي أفشلت المشروع ما تسبب في إلحاق نوع من الضرر بالمستثمر المصري" (ص 91).
غير ذلك يذكر الكاتب بعض المحطات الإيجابيّة في التعاون الروسي المصري، التي لم تخل بدورها من بقع سوداء. يشير المؤلف إلى أنّ جميع نقاط الخلاف التي اعترت المشاريع الإيجابية بين الطرفين كانت بسبب تضارب السياسة الخارجية للبلدين أو بأمور تتعلق بالعلاقات الثقافية. ومع أنّ روسيا كانت من بين البلدان الأولى التي أنشأت علاقات للشراكة مع جامعة الدول العربية، إلا أنّه ومع مرور الوقت أصبح من الواضح أن: "موسكو تتأخر أكثر وأكثر ليس أمام الأوروبيين والصينيين وحسب، ولكن حتى أمام بلدان أمريكا اللاتينية" (ص 152). ومن هنا لم يساعد الوضع الروسي تطلعات مصر ولم تجدِ نفعا دعوة روسيا كضيف أجنبي وحيد إلى القمة الاقتصادية العربية في شرم الشيخ في عام 2011.
ومن الأمثلة الإيجابية للعلاقات الروسية المصرية في العقود الأخيرة، تعزيز التفاهم في المجالات الروحية والثقافية كإقرار مجلس جامعة الأزهر موافقته على الترجمة الجديدة للقرآن الكريم إلى اللغة الروسية للمستعربة الروسية فاليريا بوروخوفا، وكذلك قرار إنشاء الجامعة المصرية الروسية. ويشار إلى أن الحكومة المصرية تقدمت باقتراح لحذف كلمة الروسية من اسم الجامعة لأن مساهمة روسيا في مرحلة إنشائها كان يدنو من الصفر.
لنأخذ مجالا آخر- التعاون بين البلدين في مجال السياحة الذي تطور بشكل ملحوظ منتصف عام ألفين ومضى بخطى مشجعة. فعدد السياح الروس الذين يزورون مصر قد تجاوز أعداد السياح من البلدان الأخرى بما فيها فرنسا وإنجلترا وألمانيا. ولكن التدفق السياحي الروسي إلى مصر أصيب بمقتل إثر حادثة تحطم الطائرة الروسية في أكتوبر من عام 2015 في شبه جزيرة سيناء والتي اعتبرت وقتها أعنف هجوم إرهابي يستهدف المدنيين.
ويضع الباحث العلاقات الروسية المصرية في محك واقعي لا محيد عن تطوره، فإن لم يحدث ذلك في المستقبل القريب، فإن لاعبين آخرين، لا سيما الصين، سيدخلون الحلبة ويستأثرون بالثمار. يكتب عن ذلك: "إن ديناميكية تطور العلاقات الصينية المصرية، والتعاون العربي الصيني، أثار عددا من الأسئلة حول فاعلية الشراكة الروسية المصرية. ففي أوائل القرن الواحد والعشرين شهدت العلاقات العربية الصينية تحولا نوعيا: حققت بكين والعواصم العربية تقدما كبيرا في تطوير التعاون في المجالات السياسية والاقتصادية والإنسانية. لقد تم إنشاء أكثر من عشر آليات للتعاون في شتى المجالات ومنها منتدى الأعمال ولجنة الاستثمار ومنتدى التعاون في مجال الطاقة... إلخ. كما ارتفع حجم التبادل التجاري بين الصين والدول العربية من 36.7 مليار دولار في عام 2004 إلى 138,8 مليار دولار في عام 2008" (ص 168).
على الرغم من كل ما سبق إلا أنّ الكاتب يؤكد على تزايدٍ في التنمية المستدامة للتعاون بين القاهرة وموسكو بدأت منذ تسعينيات القرن الماضي، وعلى استمرارية هذا الاتجاه بخلفية الأوضاع الصعبة وسلسلة الأزمات على الأصعدة القُطرية والإقليمية والعالمية، ذلك لأنّ أساس العلاقات بين روسيا ومصر محكوم بعوامل لا يمكن إنكار عمقها وأهميتها الخاصة.
اعتمد الدبلوماسي الروسي ميخائيل بوغدانوف على منهج علمي رزين في تأليف كتابه مع الإفادة من خبرته العملية ورؤيته في التحليل السياسي وأيضا عن طريق الرجوع إلى أرشيفه الخاص المكون من ألفين وخمسمئة صفحة تضمّنت يوميات ومقالات ومقابلات في وسائل الإعلام الروسية والعربية.
-------------------------------------------------------------------------------------
الكتاب: موسكو – القاهرة: ارتفاع وانخفاض مستوى التعاون.
المؤلف: ميخائيل بوغدانوف.
الناشر: جامعة موسكو الحكومية للعلاقات الدولية، موسكو 2017.
اللغة: الروسية.
عدد الصفحات: 333 صفحة.
*أكاديمية ومستعربة روسية
