جون بول أيمتي
محمد الحداد
ترتبط بعالمنا اليوم ظواهر حضارية جديدة ستكون حاسمة في رسم معالمه وتحديد عيش سكانه. ومازالت هذه الظواهر غير مطروحة بشكل كاف وواضح أمام جمهور المثقفين والقرّاء، بحكم أنّها جديدة ومعقّدة أحيانا في آلياتها ومضامينها. وقد تتداول وسائل الإعلام أحيانا تنبؤات تبدو غريبة ومفزعة، تمثل نتائج محتملة لهذه الظواهر. على سبيل المثال، يعرف الجميع ظاهرة الاحتباس الحراري والتغيرات المناخية النوعية التي يشهدها العالم منذ سنوات، فهل سينتهي ذلك بالسيناريوهات الكارثية التي يتوقعها بعض الخبراء، على غرار اندثار جزر وبلدان بكاملها، وحدوث موجات من الهجرة الجماعية بسبب التغيرات المناخية تشمل عشرات الملايين من البشر؟ ويسمع الجميع ببرامج فكّ شيفرات الجينات البشرية وقدرة الطب على تعديل هذه الجينات، فهل سينتهي ذلك إلى القضاء الكليّ على الأمراض الفتاكة والمزمنة، ويصبح ممكنا تخليص الإنسان وهو جنين في بطن أمّه من كلّ المخاطر الصحيّة التي كانت تهدّد حياته؟ وإذا حصل ذلك، فهل يتحقّق التنبّؤ الذي أطلقه بيل ماريتس، أحد مسيّري مؤسسة "غوغل"، بأن يبلغ متوسط عمر الإنسان مستقبلا 500 سنة؟
الحقيقة أنّ دراسة ما يمكن أن نطلق عليه الظواهر الحضارية الجديدة هو ميدان بكر في الغرب، أمّا في الثقافة العربية فإنّ الكتابات والترجمات فيه تكاد تكون معدومة. ثمّة من جهة معطيات تقنية يصعب تمحيصها وعرضها في لغة مفهومة لعامة القرّاء، وثمّة من جهة ثانية معاينات يدركها الجميع دون أن يكونوا قادرين على فهمها والتنبّؤ بتبعاتها مستقبلا. ولا شكّ أنّ مؤسّسات ضخمة تعمل بصمت في هذا المجال، وليس من السهل فهم ما تخطّط له وتصبو إليه، لكن الاستثمارات بعشرات المليارات تقوم شاهدا على أهميّة الظواهر وما ستؤدي إليه مستقبلا من تبعات على حياة البشر عامة.
ما يدعى بقواعد البيانات العملاقة (Big Data) يمثل ظاهرة من هذه الظواهر، وقد بذل جون بول أيمتي في كتابه "لا بيانات: أيّة حرية في عالم رقمي؟" جهدا كبيرا لتبسيطها لعامة القرّاء، وهو دكتور في الرياضيات وأستاذ في التسويق الاقتصادي ومدير سابق للمركز الفرنسي للبحث العلمي وتولّى أيضا إدارة أكبر مؤسستين فرنسيتين للاستشراف وسبر الآراء. وقبل أن نستعرض بعض ما يقدّمه من معلومات مثيرة وخطيرة في هذا الموضوع، يتعيّن أن نذكّر بأن ظاهرة الثورات التي شهدتها المنطقة العربية سنوات 2010-2012، ومازالت ارتداداتها مستمرّة إلى حدّ اليوم، ترتبط ارتباطا وثيقا بقواعد البيانات العملاقة، وتؤكد ضرورة اهتمام المثقفين العرب بفهم الظواهر العميقة المؤثرة في العالم اليوم. فهذه القواعد تمكّن عشرات الآلاف من الأشخاص الذين يحملون نفس الآراء في مسألة معينة من أن يدخلوا بسرعة في عملية تشبيك بين بعضهم البعض، دون وجود معرفة سابقة بينهم، وذلك من خلال قواعد البيانات العملاقة التي تستعملها وسائل التواصل الاجتماعي مثل "تويتر" و"فيسبوك". وبفضل خوارزميات جبّارة، يمكن إقامة شبكات افتراضية تمهّد لعمليات احتجاج ضخمة مثلا. فعلى عكس الطريقة التقليدية في الاحتجاجات التي تتطلب أشهرا لتجميع الأتباع وحشدهم، فإنّ قواعد البيانات تتولّى التقريب بين المحتجّين والتشبيك بينهم في بضعة أيام أو ساعات. ولئن كانت وسائل التواصل الاجتماعي متاحة للجميع فإن الخوارزميات التي تعمل بها محفوظة بسريّة أكبر من أسرار الدول، فعملية التشبيك التي تبدو تلقائية لدى مستعملي وسائل التواصل الاجتماعي تخضع في الحقيقة إلى هذه الخوارزميات التي لا يعرف سرّها إلاّ حفنة من البشر.
وعندما نقرأ كتاب أيمتي، نصاب بشيء من الإحباط والفزع، لأننا ندرك أننا قد سلمنا في كل بياناتنا الشخصيّة لقواعد البيانات العملاقة، ولم يعد من وسيلة لاسترجاعها أو حجبها. فعلى مدى سنوات من استعمال الأنترنت، سمحنا لهذه القواعد بأن تحلّل رسائلنا الإلكترونية وأبحاثنا على الشبكة العنكبوتية وتسجّل أسماءنا وتواريخ ميلادنا التي كتبناها مرّة بمناسبة حجز تذكرة سفر مثلا، وتكشف عن كلّ واحد منّا قائمة أقاربه وأصدقائه، وبمقتضى هذه البيانات الأولوية التي فرطنا فيها دون وعي، يمكن للخوارزميات الجبارة أن تحدّد بدقة ميولاتنا ورغباتنا وتؤثّر فينا عبر الإرسال الموجّه للبيانات إلينا، سواء في أشكال بسيطة مثل الرسائل الإشهارية، أو في أشكال أخرى أكثر خفاءً وتعقيدا، مثل تقديم أخبار معينة دون أخرى أو اقتراح أصدقاء افتراضيين جدد يشاركوننا الميول والرغبات، وحجب آخرين مختلفين عنّا كان يمكن أن يساهموا باختلافهم في تعديل آرائنا ومواقفنا أو مراجعتها.
وطبعا لا يقتصر الأمر على الأفراد، فإن المؤسسات التجارية والإدارات والوزارات ومراكز السيادة للدول وغيرها تواجه بدورها هذا التحدّي. ولقد صار من الصعب على أكبر المؤسسات والدول في العالم أن تتصدّى لذلك. لقد قام جوليان آسانج، مؤسس "ويكيليكس"، بإرسال عشرات الآلاف من المعطيات الديبلوماسية الأمريكية السرية إلى قواعد البيانات العالمية فلم تعد واشنطن قادرة على استرجاعها أو حجبها. وفي سنة 2014، حكم القضاء الفرنسي على مؤسسة "غوغل" العملاقة بخطية مالية لمخالفتها مبدأ سرية المراسلات، لكن المؤسسة لم تمتثل إلى الحكم، كما أنّ المبلغ المالي يعتبر بسيطا بالمقارنة بالأرباح الضخمة التي تجنيها "غوغل" من استغلال البيانات الشخصية لمستعمليها. وفي الأسبوع الماضي، أعلن مجدّدا عن خطية مالية ضدّ هذه المؤسسة، فرضها هذه المرة الاتحاد الأوروبي، وقد وصفت بالقياسية وغير المسبوقة والأكبر في التاريخ، إذ تجاوزت 2,4 مليار يورو، على خلفية الهيمنة على الأسواق وتوجيه المستهلكين إلى مواد معينة، وتطلب صدور الحكم أكثر من سبع سنوات من التحقيق والاستقصاء، ومن المرجح أن تعترض غوغل وتفتح مواجهة قضائية تتواصل سنوات طويلة تمكنها من التهرب من تسديد المبلغ.
يتوقّع أيمتي بأن تستفحل هذه الظواهر، فقد انتصر الذكاء الرقمي على الذكاء الإنساني منذ أن انهزم، ذات يوم من سنة 1997، غاري كسباروف بطل العالم في الشطرنج، أمام إنسان آلي من إنتاج مؤسسة "أي بي أم" الرائدة عالميا في مجال الرقمنة. وتتضاعف قدرات الحواسيب حاليا كلّ سنتين. وقد نشأت أجيال من الشباب أصبحت الاستعمالات الرقمية جزءًا لا يتجزّأ من حياتها اليومية. ثمّ إنّ ميدان المعاملات الرقمية، الذي يبدو عالما تلقائيا ومفتوحا ومجانيا، هو عالم أرباح خيالية، فلئن كان الدخول إلى "غوغل" مثلا مجانيا ومتاحا إلى الجميع، فإن ترتيب المؤسسات في هذا المحرك للبحث يحقّق أرباحا خيالية (على سبيل المثال، تدفع تطبيقة حجز الفنادق "بوكينغ كوم" مليار دولار كل سنة لترد في أعلى القائمة على محرك البحث) وإذا كانت تطبيقة مفتوحة مثل "إيبر" تساعد الناس العاديين على حجز سيارة بأقل تكلفة، فإنها تمثّل إمبراطورية مالية قدّرت قيمتها سنة 2016 بسبعين مليار دولار أمريكي.
الإدمان على الإنترنت أصبح أيضا مرضا من أمراض العصر، ويعتبر مدمنا، حسب المتخصصين، كلّ شخص يقضّي أكثر من ثلاث ساعات في اليوم لاستعمال الإنترنت بأي شكل كان، عدا الاستعمالات المرتبطة بالالتزامات المهنية. ويتوقع أن يصبح كلّ الأطفال اليوم مدمنين في المستقبل لأنهم تعوّدوا بالإنترنت منذ نعومة أظفارهم وسيترتب على ذلك مثلا تراجع قدراتهم اللغوية، إذ أنّ اللغة المستعملة في التطبيقات ووسائل التواصل الاجتماعي هي لغة مبسطة وفقيرة في مصطلحاتها ومفاهيمها، عكس لغة الثقافة المكتوبة. ويقول أيمتي إنّ الحضارة البشرية قد تطورت منذ ظهورها باتجاه الرفع من مستويات التعقيد اللغوي، وإنّ هذه أول مرة في التاريخ ستشهد فيها الحضارة اتجاها عكسيا. من جهة أخرى، يتمثل الفارق بين جيل اليوم وجيل المستقبل في أنّ الثقافة الرقمية تمثل بالنسبة للأول مصدر معلومات أساسا، بينما ستمثل مصدر معلومات ومنهجا للتفكير في الآن ذاته للجيل الثاني. فآليات التفكير وصياغة المواقف ارتبطت لديهم ارتباطا وثيقا بالاستعمالات الرقمية منذ الصغر. بل إنّ الأمر سيؤثر في كلّ مستويات السلوك، إذ يقدّر أنّ خمسين بالمائة من حالات انتحار المراهقين في الغرب مرتبطة بالعالم الرقمي، لأنّ هؤلاء أكثر تأثرا بالإشاعات التي تنتشر على الشبكة العنكبوتية أو عمليات الابتزاز التي يقعون ضحيتها على هذه الشبكة بواسطة قرصنة معلوماتهم الشخصية وصورهم.
وتمثل القرصنة وجها آخر للمخاطر المحدقة في العالم الرقمي، إذ أنّها لا تمثل مجرّد مسألة عابرة بل تحولت إلى نشاط عدواني شديد التطوّر وشبيه بالحروب، لا يوقع الأضرار بالأشخاص أو المؤسسات التجارية فحسب، بل يتعدّاها إلى الدول ومصالحها ويجعلها في كثير من الأحيان عاجزة عن حماية أسرارها الأمنية والعسكرية، وقد تواترت في السنوات الأخيرة الهجمات "السيبرنية" التي قد يكون من المرجح أنّها صادرة عن منظمات جريمة عالمية وربما أيضا أجهزة مخابرات دول.
لكنّ العالم الرقمي يفتح أيضًا آفاقا جديدة أمام البشر، إذ يعتبر مثلا أنّ الحصول على كلّ البيانات الصحية لمجموعة بشرية معينة يمكن أن يقدّم معرفة دقيقة تسمح للطب مستقبلا من تعديل الجينات بشكل يلغي كلّ الأمراض الفتاكة والمزمنة، وتشارك مؤسسة "غوغل" في برنامج عالمي ضخم في هذا الاتجاه. سيصبح أيضا بإمكان أي أسرة أن تقتني إنسانا آليا (روبوت) يساعد في الأعمال المنزلية ويكون قادرا على تعليم الأطفال قواعد الحساب أو اللّغات الأجنبية. وتعمل عدّة مؤسسات عملاقة على تطوير إنسان آلي يمكن أن يصاحب الأشخاص المتقدّمين في السنّ أو حاملي الإعاقة، ويمكن لبعضها ألا يكتفي بتقديم المساعدات "المادية" لسيده بل يكون قادرا أيضا على التلفظ ببعض العبارات والجمل اللطيفة والتفطّن إلى حالته النفسية والمبادرة بتصرفات من شأنها أن تخفّف عنه الغضب أو الخوف أو القلق. يبدو أيضا أننا اقتربنا من مرحلة تسويق سيارات آلية تعمل دون سائق، تعمل مثل الطائرات بالتوجيه الآلي. لكن يمكن أيضا أن يصنع إنسان آلي يبرمج لخوض الحروب أو القيام بتفجيرات إرهابية. ففي السنة الماضية، وقّع بيل غايتس (صاحب مؤسسة "ميكروسوفت") وستيفن هاوكينز (أحد أشهر علماء الفيزياء المعاصرين) على رسالة مفتوحة تحذّر من خطورة الظهور القريب للروبوتات القاتلة (إنسان آلي مبرمج للقتل)، بما يؤكّد أنّ المخاطر حقيقية وإلاّ لما تجاسرت شخصيات مشهورة على التحذير العلني منها.
وبصرف النظر عن التبعات الإيجابية أو السلبية التي ستترتب على الموجة الأخيرة من الثورة الرقمية، كما حصل على مدى التاريخ مع كل التحولات التكنولوجية، فإن الموضوع الفلسفي المطروح يتعلق أساس بالحرية الإنسانية التي ستواجه تحديات من نوع جديد. لقد تميز الإنسان عن بقية الكائنات بالعقل، لكن العقل يتصرف حسب المعطيات التي تقدم له، وهذه المعطيات لم يعد مصدرها الأساسي الأسرة أو المدرسة أو المكتبة، وإنما العالم الرقمي الخاضع لقواعد التسويق التجاري. هذا ما ينبغي التأكيد عليه لفهم التحدّي الذي تواجهه الحرية الإنسانية، لأنها لا تستلب في هذه الحالة بالإكراه أو العنف وإنما بوسائل ناعمة يستسلم إليها الإنسان من تلقاء نفسه، فهي تمنحه شعورا بالرفاه والانفتاح على عالم أوسع بكثير من عالمه اليومي المباشر.
ثمّة تحوّلات حضارية عميقة تشبه تلك التي شهدتها البشرية مع الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر، ستقدّم العديد من الإيجابيات والسلبيات في الآن ذاته، وسيكون من العسير الحكم على تبعاتها منذ الآن. لكنّ الأكيد أنّنا نحتاج إلى مؤلفات من نوع هذا الكتاب كي نفهم بطريقة علمية طبيعة هذه التحوّلات الحضارية، حتى لو شعرنا بالعجز أمامها، لاسيما أنّها تحصل كلها بعيدا عن المجتمعات العربية وعن اهتمامات المثقفين العرب، مع أنها تدور في النهاية حول تطوير الخوارزميات التي تتحكم في الحواسيب وقواعد البيانات والتوجيه الآلي وتنشيط وسائل التواصل الاجتماعي، وكلمة خوارزميات نسبة إلى العالم محمد بن موسى الخوارزمي الذي عاش في بلاط الخليفة العباسي المأمون. فمن الضروري ألا يقتصر المثقفون العرب على القضايا الكلاسيكية في الفلسفة والحضارة وأن ينفتحوا أيضا على ما دعوناه بالقضايا الحضارية الجديدة، لفهمها على الأقل واستشراف تبعاتها على مجتمعاتهم. وسيكون من المفيد تعريب مؤلفات يكتبها متخصصون قادرون في الآن ذاته على فهم المواضيع وتبسيطها لعامة القرّاء، وهذا الأمر ليس بالهيّن نظرا لتشعبها وطابعها التقني ومصطلحاتها الكثيرة التي لم تدخل بعد ميدان اللّغة السائدة.
---------------------------------------------------------------------------
عنوان الكتاب: لا بيانات: أيّة حرية في عالم رقمي؟
المؤلف: جون بول أيمتي Jean-Paul Aimetti
الناشر: Paris, Descartes et Cie, 2017
اللغة: الفرنسية
