ديانات قديمة سياسات جديدة المثال الإسلامي في ضوء المنظور المقارن

Picture1.png

المؤلف: مايكل كوك

مراجعة: محمد الشيخ

هذا كتاب، كما يقر صاحبه في مفتتحه وفي مختتمه، اختمر في ذهن مؤلفه لسنوات عدة، واقتضى إنجازه زمنا غير هين، على الأقل منذ عام 2002. وعلى الرغم من طول عشرة مؤلفه للأديان الثلاثة، التي هي الهندوسية والمسيحية والإسلام ـ وعشرته للإسلام منها على وجه الخصوص الذي هو المقصد المتيمم في الكتاب بأكمله ـ فإن هذه العشرة لم تُولِّد في صاحبها ضربا من "الأنسة" و"الألفة"، بل "المودة"، مع ذاك الدين الذي قد تنشأ عن معاشرته أو عن معاشرة أهله. ولهذا يفترض هذا الكتاب في قارئه أن يكون عن كل هوى عقدي بمعزل، أن يحبس أنفاسه عند كل حكم جريء بل مجازف. فالكتاب يشتد في بعض فقراته على الحالة الإسلامية، التي يعتبرها حالة استثنائية بين الأديان، وقد يلين في أحوال أخرى، لكنها نادرة. وهو في مجمله وإِنْ بحث في أحوال الأديان الثلاثة في صلتها بالسياسة الحديثة بضرب من البحث المقارن، فإنه كان بالحالة الإسلامية أشد ولعا وتهوّسا؛ إذ اعتبرها الحالة الإشكالية بامتياز. هو إذن كتاب ظاهره المقارنة وباطنه الإدانة.

إشكالية الكتاب

في تقديمه للكتاب، يشير المؤلف إلى أن من شأن كل من يعيش في عهد التباشير الأولى من القرن 21 ويتابع الأنباء عن كثب، أن يلاحظ، لا محالة، الدور الذي تلعبه الأديان في السياسات الحديثة. على أن هذا الدور ما كان بين الأديان بالدور المتكافئ، وإنما الإسلام فيه بالنصيب الأوفر يحظى. لكن، لمّا كان الأمر على هذا النحو؟ هل ثمة، يا ترى، "شيء" ما، سواء في "شكل" التقليد الإسلامي أو في "محتواه"، يجعل من اللوذ بهذا الدين خيارا جذابا للأفراد أو للجماعات المسلمة النشطة سياسيا في السياق المعاصر؛ "شيء" يُفتَرض أنه لا يوجد في التقاليد الدينية الأخرى وإنما ينفرد به الإسلام كل الانفراد؟ أم هل ثمة من سبب يفسر كيف أن المرء يمكن أن يفهم سياسة الهند وأمريكا اللاتينية فهما تاما من غير أن يؤوب إلى كتابات العصور الوسطى الهندية والمسيحية، بينما لا يستقيم له أن يفهم سياسة العالم الإسلامي المعاصر من دون أن يكون قد سمع بابن تيمية؟

هو ذا السؤال المحوري الذي يحاول هذا الكتاب أن يجيب عنه ولو جوابا جزئيا. وذلك بحكم العامِلَين التاليين: 1- لأنه ما كان للمؤلف أن يعالج الموضوع المعالجة الشمولية. وقد اعتذر عن ذلك بأن ما لا يُلِمُّ به من الموضوع ـ على الرغم من سعة اطلاعه ـ أكثر بكثير مما يُلِمُّ به منه. 2- لأن تركيزه سوف ينصب بالأولى على الفوارق بين التقاليد الدينية الثلاثة أكثر مما سيهتم بالسياسات الثلاث.

وحتى يتسنى للمؤلف تحقيق بغيته تلك، عمد إلى مقاربة "الحالة الإسلامية" باصطناع المنهج التاريخي المقارن؛ أي بمقارنة دور الإسلام في السياسة الحديثة مع الدورين الذين تلعبهما الديانة الهندوسية في الهند والديانة المسيحية في أمريكا اللاتينية.

 

أطروحة الكتاب الرئيسية

وأطروحة المؤلف الأساسية بهذا الصدد، والتي ما فتئ ينافح عنها، هي أن التقاليد الدينية الثلاثة توفر بواعث ـ عوامل إيجابية - وصوارف - عوامل سلبيةـ متباينة تباينا دالا لأولئك المنخرطين في لجج السياسة المعاصرة. وهذا ما يجعلها تختلف ـ ترغيبا وترهيبا ـ عند مثل هؤلاء الفاعلين، وذلك بحسبانها موارد للتوظيف السياسي. ويقر المؤلف بأنّه عامَل هذه المصادر كما لو كانت هي "قوائم طعام" توفر للفاعل السياسي "وجبات" إن لم تكن قسرية، فإنّها على الأقل جذابة. وبناء عليه، انتهى إلى أنّ الإسلام أكثر الأديان قابلية للتوظيف في مسألة الهوية السياسية وفي شأن الدفاع عن القيم التقليدية، وفي أمر إحياء التنظيم السياسي الخلافي العتيق - نسبة إلى الخلافة - في عالمنا الحديث. وهو يشكل بذلك ظاهرة استثنائية أمام ضعف الإسهامين - الهندوسي والمسيحي - في المساهمة في صياغة وصناعة سياسة العالم الحديث. 

أقسام الكتاب وفصوله:

ولكي يبسط المؤلف هذه الأطروحة، قام بتقسيم كتابه إلى ثلاثة أقسام كبرى:

  • قسم أول دار على دور التقاليد الدينية الثلاثة في تشكيل الهوية السياسية الحديثة. والبيِّنة الأساسية في هذا القسم هي أنّ الإسلام يوفر هوية سياسية لا تتكافأ من حيث أهميتها مع ما توفره الهندوسية، فبالأحرى المسيحية. ويتكون هذا القسم من فصل أول يسعى إلى إقامة الموازنة بين شكلي الهوية السياسية ـ الشكل العرقي والشكل الديني ـ في العالم الإسلامي العتيق، أكان عربيا أم لا. وهو يقيس مدى صلابة الهوية السياسية المسلمة في الأزمنة ما قبل الحديثة. وينتهي إلى التساؤل حول ما الذي أفضت إليه الموازنة القديمة، لا سيما منها ما تعلق بالهوية الإسلامية، تحت الظروف الحديثة؛ فيجد أنّ "الأصوليين" هم أكثر الناس تشبثا بالهوية الدينية هوية سياسية لهم تتجاوز الأوطان. أمّا الفصل الثاني، فمداره على بيان المدى المحدود الذي يوفره التقليد الهندوسي للهوية الهندوسية، على خلاف ما يوفره الإرث الإسلامي للهوية الإسلامية، كما مداره أيضا على عرض مزيج النجاح والإخفاق الذي شهدت عليه مختلف محاولات القوميين الهندوس بغاية تصيير الهوية باعثة أو صارفة في السياسة الهندية في السنوات الأخيرة. ويتمم الفصل الثالث البينة الأساسية لهذا القسم الخاص بالهوية، وذلك بالبرهنة على أنّه في سياق أمريكا اللاتينية فإنّ سياسة هوية مسيحية من هذا الجنس تعد أمرا يصعب الحديث عنه، أكثر مما هو صعب الحديث عن تشكيل الهندوسية للهوية الهندية. وبهذا، يتم المؤلف حديثه عن تفرد الهوية الدينية، في الحالة الإسلامية، بفعاليتها النشيطة كمطلب يراد بناء عليه إقامة الأنموذج الإسلامي.

  • أما مدار القسم الثاني من الكتاب، فهو على مساهمة المواريث الثلاثة ـ الإسلامي والهندوسي والمسيحي ـ في قضية "القيم" في العالم الحديث. وتنظيم هذا القسم مباين لتنظيم القسم الأول. إذ أنّ كل فصل مخصص إلى قيمة معينة، ويغطي الأديان الثلاثة مجتمعة هذه المرة لا منفصلة. وهكذا، فإنّ الفصل الأول يهتم بالقيم الاجتماعية، ويبحث في ما إذا كانت القيم المجسدة في كل تقليد تشكل فواعل إيجابية - بواعث - أم سلبية ـ صوارف ـ في السياسة الحديثة. وفي كل حالة يتم التركيز على سمة خاصة من سمات دين معين، وفحص أثرها، بحيث تختلف السمات اختلافا كبيرا عن بعضها البعض. وفي الفصل الثاني ينتقل المؤلف إلى الموقف من "الحرب" ـ والذي يجعله - ويا للغرابة "قيمة" من القيم! - وهو يركز بالأولى على قيمة "الجهاد" وتكلفته في العالم المعاصر، وإلى أي حد يمكن أن توجد ظاهرة موازية له في كل من الديانتين الهندوسية والمسيحية، وينتهي إلى تفرد الإسلام بظاهرة الجهاد. ويدور الفصل الثالث على الطرائق التي تتصل بها الأديان الثلاثة بمختلف أشكال الثقافة. وهو يحاول إبراز الفوارق بين هذه الطرائق في تفاعل الأديان الثلاثة مع الحداثة بالقدر الذي تدعي فيه هذه التقاليد السيادة على مجالات ثقافية معينة، وبالقدر الذي تلتزم فيه هذه الديانات أو مناصروها بالحفاظ على هذه السيادة. ولربما كانت التعارضات بارزة هنا في المجال التشريعي أكثر، بحيث يتساءل الباحث عن دور التشريعات في الانسجام مع متطلبات العالم الحديث، وعمّا إذا كان ما يسميه "الغيرة الإلهية" التي لا تقبل منافسة غير الرسالة الدينية تسمح لأتباع الديانات بالاجتهاد في أمور دنياهم والانسجام مع مطالب التحديث. أمّا الفصل الرابع فينقلنا من خلاله المؤلف إلى الحديث عن تصورات التنظيم السياسي. إذ من جهة، يظهر أنّ الأديان الثلاثة تتقاسم جملة من الصلات الوثيقة بنظام "الحكم الملكي" في معظم تاريخها، لكن من جهة أخرى يظهر تميز "نظام الخلافة" عن "النظام الملكي" وجاذبية ذاك الأنموذج في الحكم في زماننا هذا لدى أصوليي العالم الإسلامي. وفي كل واحد من هذه الفصول تم التركيز على الحالة الإسلامية أكثر من غيرها، بناء على أطروحة الباحث الأساسية القائلة بأن الحالة الإسلامية حالة استثنائية، وهي بَدْعٌ بين الأديان.

  • وينصب اهتمام القسم الثالث من الكتاب على "الأصولية" التي يعني بها المؤلف اختيار العودة إلى أصول كل إيمان على حدة، وتفضيل الأوبة إلى المنابع الأولى لكل دين. وهنا يعود المؤلف - منهجيا - إلى اتباع التنظيم الذي كان قد اصطنعه في القسم الأول؛ بحيث يخص كل دين بفصل مستقل. والأسئلة الأولى التي يطرحها هي: إلى أي حد يكون كل دين مستعدا إلى "أصالته"؛ أي إلى هيمنة الأصولية عليه واستئثارها به؟ وإلى أي مدى أولئك الذين يذكرون بتقليد هذا الدين في السياسة الحديثة يعدون بالفعل "أصوليين"؟ وفي حالة الجواب بالإيجاب، ما الذي تكسب إياهم أصوليتهم؟ والحال أنّ المؤلف يجد أن الجواب عن السؤالين الثاني والثالث بالخصوص يتباين تباينا شاسعا بين الأديان الثلاثة. وتظهر هذه الفصول بدورها لماذا هي الحالة الإسلامية حالة متميزة. إذ ينكر المؤلف وجود أصولية هندوسية لأسباب عدة منها عدم تقديس كل الطوائف الهندوسية لكتب الفيدا، وأن احترامها عائد عندهم إلى عتاقتها لا إلى صلاحيتها في كل زمان ومكان. ولئن كانت ثمة شبهة أصولية في الهندوسية فما كانت إلا ردة فعل ضد الأصولية المسيحية الغازية. كما أنّه لا أصولية كاثوليكية، وإنما الأصولية بروتستانتية. أمّا الإسلام فإنه شكليا دين قابل للأصالة حسب اعتقاد المؤلف.

  • مفترضات الكتاب

والحال أنّه ككل كتاب، يقوم هذا الكتاب على افتراضات. وهي في عداد الافتراضين:

أولا؛ لا يجادل الكتاب في أن ثمة فوراق جوهرية بين الأديان الثلاثة، سواء من حيث القيم التي تؤمن بها، أو من حيث قابليتها للتوظيف السياسي، أو من حيث مآلها في العالم الحديث.

ثانيا؛ لا يؤمن صاحب الكتاب بأن التقاليد الدينية تقع طوع يدي المفسرين والمأولين، وذلك كما لو أنّ كل تقليد يقبل أن يُؤوَل بنجاح لكي يُقَوّلَ بكل ما أراده منه قارئه، وأن كل التأويلات ـ أيَّان كانت وأنى كانت ـ تكون مقبولة عند أتباع ذلك الدين. ذلك أنه لَئِنْ كان من شأن التقاليد أن تتغير تحت تأثير التفاسير والضغوط، إلا أن ذلك يتم بالتدريج وضد ضرب من الجمود على المسطور. إن من شأن الهويات ـ التي تهم الناس والذين هم في أغلبهم مستعدون للموت من أجلها ـ كما من شأن القيم أن تتغير، لكنها ليست في ذوبان دائم كما يدعي أهل الخطابة من الباحثين الأكاديميين أحيانا. إذ لا بد للهويات من مستقر حتى تتمكن من أن يكون لها دور تلعبه. ومن هنا تختلف نظرة المؤلف عن نظرة أولئك الذين يقولون بأنّه لا وجود لماهية متعالية اسمها "الإسلام"، وأن كل ما يوجد هناك إنما هو "إسلامات" أو "تمظهرات" تعددية لإسلام لا وجود له إلا في الأذهان. وإذ يقر جون كوك باللوينات المحلية التي يتلون بها الإسلام، فإنه يؤمن بأن الاعتقاد القائل بأن العالم الإسلامي ليس أكثر من فسيفساء تقاليد دينية إنما هو اعتقاد مضلل.

النتائج التي ينتهي إليها المؤلف

  1. منذ قرن ونصف انتشرت فكرة أنّه في العالم الحديث على الدين أن يختفي. وتلك كانت فرضية جريئة لكنّها لم تكن غبية. وبالنظر إلى حال أوربا الغربية لا زالت النبوءة قائمة بل ومتحققة، ولربما هي سائرة إلى التحقق في بلدان العالم المتأثرة بالنموذج التحديثي الغربي. لكنها تبدو فرضية خاطئة حين يتعلق الأمر بالعالم الإسلامي. وما حركة الإحياء الإسلامية إلا تفنيد لها. لكن ما الذي يشكل الاستثناء هنا: أوربا الغربية أم العالم الإسلامي؟ وأيهما محق: النزعة الأوربية المتمركزة على الذات أم النزعة الإسلامية المتمركزة بدورها على الذات؟ أولا؛ التبليغيون "يبشرون" بالإسلام في آسيا، والتعميديون يبشرون بالمسيحية في أمريكا اللاتينية، لكن ثمة في رأي المؤلف فرق بين التبشيرين: في العالم الغربي أمسى أغلب الناس عن الدين بمعزل، بينما في الشرق لا زالت للدين قوته. ثانيا، ثمة انتشار بحدة لدور الإسلام في السياسة ـ على مستوى الهوية السياسية والقيم الإسلامية وسياسة الدولة الإسلامية ـ الشيء الذي لا نظير له بالمرة لا في الدول البوذية ولا في دول أمريكا اللاتينية. وثالثا؛ في ما يخص الفكرة الجهادية لا نجد نظيرا لانتشارها في البلدان غير الإسلامية اللهم إلا لدى السيخ.

  2. إذا صح أنّه يمكن أن نجد لكل سمة من سمات حركة الإحياء الأصولية الإسلامية المذكورة ـ الهوية، القيم، التنظيم السياسي ـ شبيها في العالم غير الإسلامي، فإنّه يصح أن هذه السمات ـ هوية دينية قوية، قيم موروثة عن العصور الوسطى، محاولة تأسيس دولة على أساس ديني ـ لا توجد مجتمعة إلا في الحالة الإسلامية؛ بمعنى آخر، ما اجتمعت هذه العناصر إلا في النموذج الأصولي الإسلامي، بما يجعل منه بالفعل ـ في نظر المؤلف ـ حالة فريدة. والأخطر عنده أن النموذج المناضل السيخي والنموذج القومي الهندوسي تشكلا في ظل سيادة الإسلام في الهند وبالتشبه به!

  3. المشترك بين الحالات الثلاث - هندوسية الهند ومسيحية أمريكا اللاتينية وإسلام العالم الإسلامي - إنّما الانتماء إلى العالم الثالث وما يشكله، خارجيا، من التظلم من العالم الأول، وداخليا من الحاجة إلى صون التراث ضد التغريب المجتاح. ههنا تآلف التحدي والمحافظة وإخفاق التعاون والتثاقف اللهم إلا في ما ندر- وتبدو الحلول، في رأي المؤلف، بلا أفق- وكثير من المسلمين يجدون أنفسهم في كماشة هذا الوضع العصيب الذي يخلق في أنفسهم ضربا من الفصام: إرادة الجمع بين قيم الإسلام وقيم الليبرالية معا! وفي ظل هذا الوضع يشكل الاحتماء بالتراث الزاد الاحتياطي. والتراث الإسلامي يوحد العالم الثالث في جبهة عريضة مانحا إيّاهم موارد يمكن استعمالها في التفكير وفي الإحساس وفي الكلام. لكن لا تراث يتحدث إلى أهله بصوت واحد، ومن ثمة الجلبة التي تجتاح العالم الإسلامي.

  4. بالمقارنة مع الحالتين الأخريين ـ الهندوسية والمسيحية ـ نجد أنّه في الحالة الأولى لا شيء مهم في التراث الهندوسي يمنحه حتى يساهم به في رسم معالم الإيديولوجية السياسية الهندية المعاصرة. وإنما يقدم فقط هوية سياسية ضعيفة غير جذابة لقطاع عريض من السكان. وهو لا يشكل أهمية في النضال ضد الأجانب. وليس ثمة من اهتمام بفكرة دولة واحدة تحكم كل الهندوس. وإرثه الاجتماعي الثقيل - طائفة المنبوذين - لا يساعد في تحقيق ذلك- كما يفتقد إلى القيم التي تتناغم مع قيم الغرب الحديث- ونظام الملكية - العنصر السياسي الوحيد الموروث- لا يتلاءم مع الشروط الحديثة. ومن شأن الأصولية، إِنْ هي اجتاحته، أن تزيد الأمور سوءا على الأقل بخلق هوة سحيقة بين المحافظين والأصوليين. وأغلب النصوص الشرعية الهندوسية يمكن تجاهلها لفرط عتاقتها. والأمر نفسه يمكن أن يقال عن وضع التراث الكاثوليكي في أمريكا اللاتينية؛ إذ لا يسهم كثيرا في الوضع الحالي، ولا يلعب دورا يذكر في الهوية السياسية. وهو تراث متناقض في ما يخص النزعة النضالية. ويفتقر إلى رؤية واضحة للمجتمع وللتنظيم السياسي. والاستثناء الوحيد الحي فيه هو المكانة الاعتبارية التي يعطيها للفقير، وهي سمة مكتوبة في النصوص المقدسة تتناغم بقوة مع النزعة اليسارية الحديثة.

  5. فإذن، النموذج الإسلامي، وحده بين النموذجين، هو النموذج الذي لا زال يحظى بالجاذبية، على مستوى الهوية السياسية وتصور القيملا (المجتمع، الحرب، الشرع) والتنظيم السياسي، لدى أتباعه.

لكن، متى سيفقد هذا النموذج جاذبيته؟ يقر المؤلف بأن لا فكرة له في هذا الشأن، وإِنْ كان متأكدا من أنّ ذلك لا محالة حادث في زمن من الأزمان، بناء على أسس رخوة من أن لا شيء يدوم، وأن الأيديولوجيات تملك من المقدرة على الدوام نصف ما تملكه الأديان. ثمة إذن احتمالات خمسة:

  • الاحتمال الأول: أن تستمر الأمور على ما هي عليه منذ نهاية الحرب الباردة.

  • والاحتمال الثاني: أن ينتصر الإسلاميون في العديد من بلدان العالم الإسلامي، وأنها إما ينقشع وهمهم فتنجلي سلطويتهم عند ممارستهم للسلطة، أو يكيفون أهدافهم مع المحيط الديمقراطي فيقطعون مع منطق إحياء الشريعة وإقامة الدولة الإسلامية ويكتفون بتقديم أنفسهم على أنّهم أبطال للقيم الاجتماعية المحافظة وكمحافظين على الرمزية الدينية. والسيناريو الأول هو النموذج الإيراني، والسينايو الثاني هو النموذج التركي.

  • والإمكان الثالث: نزوع الإسلام نحو اختزال وجهه السياسي بحصول إصلاح ديني شبيه بالإصلاح البروتستانتي يسمح بازدهار القيم الليبرالية. على أن المؤلف يذكرنا بأنه لا ينبغي لنا أن ننسى أن الإصلاح الديني الأوربي نفسه أطلق الكثير من التعصب من قمقمه؛ مما يدعو إلى نموذج إسلام متنور أكثر منه إسلاما إصلاحيا. وهنا يجد المؤلف أنه يمكن أن يُطرَح التصوف باعتباره نزعة روحية غير سياسية، على خلاف الأصولية المسيسة. لكن المؤلف يجد أن هذا الطريق ليس بدوره مضمونا. على أنّه على مر الأيام يتعب الناس من تسييس الدين، وقد لاحظ قس أمريكي آمن بالمسيحية السياسية بعد أن انقشع عنه وهم النضال السياسي: "عندما تخلط السياسة بالدين لا تحصل في النهاية إلا على السياسة".

  • والإمكان الرابع: انبثاق نظام اعتقاد دنيوي ليحل في المحل الذي تركه أفول الماركسية فارغا. وهنا يرى المؤلف أن المثقفين المسلمين يحتاجون إلى أن يكونوا مؤهلين لتبني طرائق الغرب الحديث من غير أن يشعروا بالخجل كما لو كانوا متعاونين مع الغرب، وفي نفس الوقت أن يعارضوا قوة الغرب من غير أن يشعروا بأنهم ضد حركة التاريخ، وأن لا أمل لهم. ذلك أن فراغ الساحة من مثل هؤلاء الذين يجابهون التراث والغرب معا هو أحد أسباب بروز النزعة الإسلامية في العشرين سنة الأخيرة. على أن هذا أيضا أمر قد يحدث، وقد لا يحدث.

  • والإمكان الخامس: وهو الذي يدعوه المؤلف "الأنموذج الكاثوليكي" ـ وهو نموذج المصالحة بين الدين والتقدم والليبرالية والحضارة الحديثة على نحو ما فعلت الكاثوليكية بعد أن كانت قد عادت بأشد عداء يكون هذه القيم لزمن مديد.

تلك هي أهم الأفكار والنتائج التي وردت في هذا الكتاب. بعضها قد يسهل على القارئ المسلم هضمه، وبعضها قد يعسر عليه. لكن، مهما اختلف تقييمنا للكتاب فإنه لا بد من التنبيه على بعض فضائله. ومنها أنه يقدم لنا من بين ما يقدمه درسا في أخلاقيات التأليف الأنجلوسكسونية، بحيث لا يكاد الكتاب يذكر فكرة متفردة إلا ويعزوها إلى من أفادها منه، فيقول: "أفادني هذه الفكرة فلان.."، و"نبهني إلى هذه الفكرة فلان.."، و"أنا مدين بهذه الفكرة إلى فلان". وبعد، هل بقي لنا مكان لأن نذكر هنا بأن الحضارة الإسلامية كانت من الحضارات السباقة إلى إفراد "أخلاقيات التأليف" بكتب نادرة؟ أم نحتاج إلى التذكير بأن جلال الدين السيوطي كتب كتابه "التعريف بآداب التأليف" ونبّه فيه على فضيلة عزو الأفكار إلى ذويها؟ 
----------------------------------------------------------------------------

عنوان الكتاب : ديانات قديمة، سياسات حديثة

اسم المؤلف : مايكل كوك
دار النشر : Michael Cook
Princeton University Press
مكان النشر : الولايات المتحدة الأمريكية
عدد الصفحات :
541

 

أخبار ذات صلة