حالة ياوس، مسالك الفهم في مستقبل الفيلولوجيا

Picture1.png

رضوان ضاوي

 أوتمار إيته

روبيرت ياوسHans Robert Jauβ  (1921- 1997) هو منظر ورائد في الدراسات واللغات الرومانية/ الفرنسية في كونستانس، وصاحب "جمالية التلقي" (مدرسة كونستانس). دافع ياوس عن استعماله للبعد الهيرمينوطيقي وقواعده الفلسفية في عملية الفهم، متأثراً بدرس الفلسفة على يد جادامير Gadamer، الذي ألهمه استعمال الهرمينوطيقا الفلسفية في الأدب والشعر والموسيقا والفن التشكيلي.

يسعف الانطلاق من هذه المعطيات في القول إن الخطاب الهرمينوطيقي في كتاب الباحث (أوتمار إيته)Ottmar Ette ، -أستاذ الدراسات الرومانية بجامعة بوتسدام- الموسوم بـ"حالة ياوس، مسالك الفهم في مستقبل الفيلولوجيا"، يؤسس لعدّة قضايا أهمها علاقة هانس روبيرت ياوس بالنظام النازي ضمن شبيبة هتلر. واستشهد المؤلف بما كتبه هانس أولريش جومبريشت  H. U. Gumbrecht في مقال مطول سنة 2011 عنونه بالتالي: "أستاذي، رجل سلاح الإس إس، نجاح هانس روبيرت ياوس الأكاديمي يظهر كيف يصبح رجل ذو تاريخ ماض مع النازية ذا قامة في الجمهورية الاتحادية"، حيث أوضح كيف أن ماضي أستاذه السابق ياوس مع سلاح الإس إس كان يثقل كاهله.

تستجيب الهندسة البنائية للكتاب الذي بين أيدينا للمنطلقات التشييدية التي يستهدفها الباحث في خطابه. لهذا خصّص المؤلف دراسته في ثمانية فصول مترابطة ومتماسكة، لموضوع "الفهم والتأويل"، من خلال حديث الكاتب عن هرمينوطيقا الفهم والصمت والإزاحة وهرمينوطيقا الفهم، والنسيان والتسامح. وقد قدم "أوتمار إيته" في كتابه الذي بين أيدينا ما يندرج ضمن مشروع ثقافي توثيقي يمكن تلخيصه في نقطتين: هاجس الانعتاق من هيمنة الماضي المشؤوم وسلطته على المفكرين التي تم تغييبها في الكتابات السابقة عند هانس روبيرت ياوس، والسعي لتأكيد الشعور بالذنب عند هذا الكاتب، وثبات علو كعب هانس روبيرت ياوس في مجال فلسفة العلوم الإنسانية وفلسفة الفهم.

خصّص الباحث جزءا كبيرا من دراسته في المنجز الهرمينوطيقي لهانس روبيرت ياوس "مسالك الفهم" الذي صدر سنة 1994، وفيه يدافع ياوس عن الهرمينوطيقا، وعن مفهوم "الفهم "(Verstehen). ويقول المؤلف "أوتمار" إن مفهوم الفهم وإشكالية الفهم، باعتبارها من المفاهيم المفاتيح في كتاب ياوس، تدخل في صلب الإنتاج الفكري الفلسفي لمنظر جمالية التلقي.

تشكلت القراءة الثقافية للفهم عند المؤلف أوتمار من خلال اقتناعه على ما يبدو بأهمية مفهوم الفهم. فما يبنيه لنا تاريخ الفهم هو أن المهم في الفهم، ما يعنيه الشيء، وأيضاً كيف يعنيه، أي ما تدل عليه العبارة "الإفهام بدقة"، و"التفاهم" (sich verstehen)، أي الفهم عبر الآخر (sich selbst im anderen zu verstehen).

وبالنسبة للمؤلف "أوتمار"، فإن نتائج تاريخ المفهوم (Begriffsgeschichte) عند ياوس سمحت له بوصف مختلف وظائف الفهم في ضوء فن التأويل، وهي مهمة يضطلع بها فقط مفهوم الفهم وفلسفة العلوم الإنسانية الحديثة، لأنّها من طبيعة حوارية، ولأنّه يبحث عن التفاهم عبر الآخر، ويسعى إلى فهم الآخر في أفق عالمه الخاص.

يذكر المؤلف أنّ ياوس قد اعترف بانتمائه في سن العشرين إلى فرقة الحماية الخاصة بهتلر المسماة بسلاح الـ إس إس التي صُنفت بعد الحرب كمنظمة إجرامية. فهي إحدى أكثر الفرق دموية ووحشية، ويرمز الحرفان SS إلى قوات الحراسة، هذه الفرقة كانت في البداية مختصة بحماية هتلر. من هذه الفرقة تفرع سلاح الإس إس الذي كان تابعا لقيادة الجيش. ارتكب سلاح الإس إس قائمة طويلة من جرائم الحرب والمذابح التي أبادت قرى بأكملها، ولذلك اعتبر قضاة محاكمات نورنبرغ سلاح الإس إس منظمة إجرامية. وصف ياوس نفسه بـ "أسير حرب" Kriegsgefangener في مقابلة مع صحيفة لوموند في 1996، وتحدث عن العار الذي موضعه ضمن رد فعل جماعي. وقد تجاوز ياوس هذا العار علنا بكتابته عن الضمير الحي" أنا أكتب هذا".

نفهم من هذا الكلام أنّ ياوس لم يكن يتحدث عن الماضي المشؤوم أبدا في نقاشاته العامة. وكانت السلطات الأمريكية قد حصلت من دليل الهاتف من مقر الإس إس على إسم هانس روبيرت ياوس بعد أن طلب ياوس التأشيرة، بعدها.  وأقرّ ياوس أن هذا الاكتشاف هو ثمرة لسوء الحظ.  ففي 17 ديسمبر سنة 1945، ألقت بريطانيا القبض على هانس روبيرت ياوس، بعد شهر على تسجيله في الجامعة في 13 نوفمبر 1945، وقبل أيام قليلة على احتفاله بعيد ميلاده الرابع والعشرين، ولم يتم الإفراج عنه إلا في 2 يناير 1948.

يقول المؤلف أوتمار إن الماضي لم يمت. إنه حتى لم يمض بعد. والكاتب ياوس لا يدع الماضي يمضي بسلام. فقد أثّر ماضي ياوس السياسي والعسكري في ظل النازية، عميقا في حياته، وشكل مواقفه الفكرية اللاحقة بخصوص الديكتاتورية والحرب. كان السياق الألماني واضحا بالنسبة لياوس. فقد انضم ياوس إلى شبيبة هتلر، وسار مع التيار، وكان منبهرا بالنازية، مؤمنا حتى آخر أيام الحرب بالنصر النهائي للألمان.

ويتساءل مؤلف الكتاب أوتمار بصوت مرتفع: فهل كان ياوس مصابا بالعمى فلم ير أي ظلم يقع على المعارضين السياسيين أو على أعداء النظام النازي؟ ربما يجيب هانس روبيرت ياوس: تركنا أنفسنا لإغواء النازية. خلال فترة ما بعد الحرب يقول ياوس إنه تعلم كيف يرفع صوته بالاحتجاج، وتعلم طرح الأسئلة.

طيلة عقود احتفظ ياوس بهذا السر لنفسه. ويتساءل الكاتب أوتمر: هل هو اعتراف متأخر يخفف من مشاعر الذنب التي ظلت تعذبه طوال عقود؟ هل نقول إن ياوس كان ضحية البروباجندا النازية؟ شابا مبهورا بالقائد، مؤمنا حتى آخر لحظة بالنصر النهائي للألمان؟

قيم كثيرة كانت ربما خفية قبل أن تجد تعبيرا عنها في أعماله اللاحقة. وربما أهم هذه القيم هو الشعور بالذنب وبأنه كان شريكاً بشكل ما في جرائم النازية، لهذا انبثقت أعماله الفكرية بعد الحرب التي تمحورت كلها حول قضية الفهم والحوار والتفاهم والغيرية. فكر ياوس في تنظيم ملتقى فكري سموه شعر وهرمينوطيقا، تتم فيه القراءة والمناقشة والتعليق على الأعمال الفكرية.

ربما يدخل ياوس ضمن دائرة المفكرين الذين يمدحون الهزيمة: أي ينظرون إلى الهزيمة باعتبارها فرصة لتصحيح المسار وتقويم الأمور، ربما لهذا أظهر ياوس التعاطف مع حركة الاحتجاج الجامعية التي وصلت إلى برلين حين قمع الأمن مظاهرات ضد زيارة شاه فارس. كما أنّ ياوس اهتم كثيرا بالأعمال الاغترابية للكتاب النمساويين اليهود وعلى إرث المفكرين اليهود.

لقد قرأ الباحث النصوص المشكلة للمنجز الهرمينوطيقي العلمي عند ياوس وأهمها كتابه مسالك الفهم في ضوء رؤية بديلة، فتجلت من خلال طرحه لأسئلة كثيرة ومؤلمة، مثلما فعل هانس روبيرت ياوس نفسه في أعماله التي نشرها بعد الحرب. ومن بين الأسئلة المهمة التي نجدها في هذا دراسة الباحث أوتمار: لماذا اختار ضابط الإس إس السابق الدراسات الرومانية؟ ولماذا اختار مدينة بون؟ لقد تعلق ياوس منذ صغره باللغة والثقافة الفرنسيتين، كما أنه، وعلى عكس الدراسات الجرمانية، لم تكن الدراسات الرومانية بعيد الحرب، موضع مراقبة إيديولوجية. إن تخصص اللغات الرومانية منح ياوس "كرسيا مختلفا في الحياة"، إنه مكان للهروب وللتراجع. فقد بحث ياوس قبل وبعد الحرب عن صفحة جديدة في حياته، وأراد تغيير الماضي الذي لا يمضي. فقد كافح ياوس ضد أعداء السلام العالمي Feinde des Weltfriedens وضد البولشوفية، وأصبح مناضلا من أجل السلام العالمي بعد زوال الرايخ.

في بداية فترة ما بعد الحرب برّر ياوس انضمامه لسلاح SS برغبته آنذاك في تحقيق هدف حياته وهو أن يصبح بروفيسورا لتاريخ الثقافة. كما أنه تحدث عن الواجب البديهي عند كل ألماني في الدفاع عن الثقافة الذاتية والثقافة الأوروبية ضد تهديدات البولشوفية.

وكما أسس الباحث في هرمينوطيقا ياوس قراءته لكتاب "مسالك الفهم" على مقولة سياسية، فإنه توسّل أيضا في قراءته للمقولة الهرمينوطيقية التأويلية، وللمقولة الفلسفية: أي أنه اشتغل على مقولتين هما: ماضي ياوس ومفهوم الفهم وضمنها فلسفة العلوم الإنسانية.

اتكاء على المعطيات السابقة، يمكن القول إن المفاهيم المؤسسة للدراسة ترتبط بأهم مرجعية أساسها محاضرات ياوس باعتبارها من أهم النجاحات في تاريخ فلسفة العلوم الإنسانية الألمانية التي شهدت أزمة عميقة في القرن التاسع عشر، والتي وجدت حياة جديدة بهذه الدراسات التي قام بها ياوس وزملاؤه في الجامعة، استوحاها ياوس من شخصيات بارزة من الدراسات الرومانية مثل المتخصص في الدراسات الرومانية Robert Ernst Curtius ببحثه القيم بعنوان الوظيفة التربوية الاجتماعية للأدب.

ويعتقد المؤلف أنّ هذه الحاجة جعلت من نص ياوس بيانا أصليا لجمالية التلقي، وحتى اليوم أصبحت جمالية التلقي واحدة من المواضيع الإجبارية في كل دورة تمهيدية لعلم الأدب ولفلفسة العلوم الإنسانية، حيث يستعمل منطق السؤال الحتمي والجواب المفتوح، انطلاقا من فلسفة جادامير. ويضيف الكاتب بأنّ العمل الفني والفلسفي يجب أن يحفز الطلاب على العثور على الأسئلة بأنفسهم من أجل إدراك ثورات العالم وحل المشاكل الشخصية.

يقول المؤلف أوتمار إنّ ياوس يعد من الكفاءات الألمانية التي استفاد منها الدرس الفلسفي والنقدي، من خلال أعماله التي تصب في مجال إصلاح العلوم الإنسانية، فهو يعتبر ياوس من أوائل المدافعين عن فن التأويل الذي يتجاوز دوغمائية النص الكنسي وينفتح على مسالك واستراتيجيات مختلفة للفهم.

وقد عمل ياوس جاهدا على تجديد فسلفة العلوم الإنسانية والتزم بروح معرفة حوارية، متداخلة الاختصاصات ومتجاوزة لحدود الفروع. وطرح ياوس في أعماله الأخيرة أسئلة مركزية ومحورية عن مجال الجمالية التاريخانية والأخلاق.

تبحث فلسفة العلوم الإنسانية في الفهم الذاتي للإنسان ماضياً وحاضراً، بما في ذلك تمظهرات هذا الفهم في الاقتصاد والسياسة والقانون، كما في العلوم الثقافية. إنّها تمكننا من إيجاد جواب عن السؤال الهام، وهو كيف نفهم أنفسنا بشكل أفضل؟ فالعلوم الإنسانية تبحث في العالم الإنساني وتقول لنا من نحن؟ وماذا يمكننا أن نكون؟ وهي بإمكانها أن تضمن تكويناً علمياً جيداً في مجال تكوين المعلمين والأساتذة من خلال تقوية الذاكرة الجمعية والتحذير من بروز العنف والاستعباد الاجتماعي وتكوين القدرة على التجديد لدى الطلاب والأساتذة، اعتماداً على إصلاح الفيلسوف الألماني هامبولت الجامعي، الذي طالب فيه باستقلالية البحث العلمي ودمجه مع الدرس العادي، فقد أدركت الفلسفة بجامعة هامبولدت الوظيفة التكاملية للعلم من أجل إثارة الفكر التركيبي لدى الطلبة. إن مشروع ياوس هو "وسيلة فنية عامة للفهم كله". وقد طالب الفيلسوف الألماني هامبولدت باستقلالية البحث العلمي ودمجه مع الدرس العادي واقترح إلقاء الدرس في شكل حواري، وتحرير الامتحان من عزلة الاستجوابات البحتة. وقامت فكرته على الوحدة والترابط والتكامل بين البحث العلمي والتعليم. "من لم يفهم سوى الكيمياء فقط، سوف لا يفهمها بشكل صحيح أيضاً".

وسعت فلسفة العلوم الإنسانية دائما، ومنذ العصر الإغريقي، حدود المعرفة، ما دامت تعلي من قيمة السؤال المفتوح على حساب الجواب الحتمي. فهي في معناها التقليدي تطرح أسئلة يومية عن الخير والشر، عن الدور الذي قام به الإنسان، إذا ما أراد أن يعيش حياة جيدة، عن الطبيعة، عن الدولة وعن الجميل. وفلسفة العلوم الإنسانية تهتم مسبقاً بالأسئلة التي لا توجد لها أجوبة علمية حتمية. فالأجوبة تكون علمية ما دامت تثبت في وجه النقد المنطقي.

كان الباعث السياسي الاجتماعي للأزمة الألمانية هو ثورة الأبناء ضد الآباء بماضيهم القمعي لمستقبل هتلر. ولأن هذه لم تستطع منع الحقيقة اللاإنسانية "للرايخ الثالث"، حتى أنّها لم تقف ضدها بشكل علني قط، فإنّه يظهر من الصعب فهم سبب إمكانية إعادة تجديد العلوم الإنسانية ضمنياً ودون وعي، وبعد 1945 عند إعادة توظيف الدراسات في مجالها. وقد تردد في هذه السنوات، أن أزمة العلوم الإنسانية الألمانية كانت في الوقت ذاته صدى أزمة عالمية للعلوم الإنسانية. ودعيت العلوم الإنسانية إلى حداثتها، وكلفت بمهمة ربط الجسور بين النظرية والممارسة، والحرية الأكاديمية، والمسؤولية المدنية. باختصار، دعيت إلى تجديد وظيفتها التواصلية، والماهوية، والوظيفة المبنية على توافق الآراء: "يمكن للفنون أن تخلق جماعات، وتجعلهم يستطيعون تعريف أنفسهم كجماعات أو ثقافات. وعلى العلوم الإنسانية (الإنسانيات) أن تقوم بتواصل أكثر بين الأشخاص وبالمشاركة بينهم أكثر."

يرصد كتاب أوتمر استراتيجية ياوس المتمثلة في الخطاب الدفاعي Verteidigungsrede، وهي استراتيجية مهمة شرح بواسطتها ياوس للجمهور السياق الألماني لماضيه المشؤوم وقدّم له قرائن بذلك. وقد استعمل ياوس هذه الاستراتيجية في مقابلته مع صحيفة لوموند الفنرسية في 1996، أي سنة واحدة بعد ظهور كتابه مسالك الفهم. وقد جاءت المقابلة في وقتها. فحلم مقابلة متخصص ألماني في الدراسات الرومانية في الإعلام الفرنكفوني تعدّ مهمة جدا، فقد بات الجمهور العريض يعرف بماضي ياوس الذي لا يمضي.

إنّ دراسة أوتمار "حالة ياوس، مسالك الفهم في مستقبل الفيلولوجيا" إسهام في النقاش الأكاديمي حول ماضي هانس روبيرت ياوس السياسي وخطاب الدفاع الذي انتهجه في كتابه "مسالك الفهم"، وهو ينشد الموضوعية في قراءة منجز ياوس ما أمكن، مع محاولة توسيع الجهاز المفهومي لفلسفة العلوم الإنسانية ومفهوم الفهم. وفي الحقيقة يوجد كتابان آخران لياوس لا نعرف لماذا لم يذكرهما الكاتب في دراسته، وهما بعنوان "مشاكل الفهم"، وصدر سنة 1999، وكتاب "العلوم الإنسانية اليوم"، وقد ذكرنا هذين الكتابين لأنّهما يكملان مشروع هانس روبيرت ياوس في فلسفة العلوم الإنسانية وفلسفة الفهم، ويستحقان إلى جانب كتاب مسالك الفهم وكتاب أوتمار ترجمة إلى اللغة العربية.
------------------------------------------------------------------------------------

الكتاب: حالة ياوس، مسالك الفهم في مستقبل الفيلولوجيا.

الكاتب: أوتمار إيته.

دار النشر وسنة النشر: 2016، دار كادموس الثقافية، برلين، ألمانيا. (155 صفحة)

لغة الكتاب: اللغة الألمانية.

 

أخبار ذات صلة