الخدمات الصحفية التي قامت بها المدارس والمنظمات الإسلامية في الهند

Picture1.png

للكاتب الهندي سهيل أنجم

فيلابوراتو عبد الكبير

اللغة الأردية، إحدى اللغات التي تتحدث بها نسبة كبيرة في الهند وباكستان، هي لغة خليطة من عدد من اللغات العالمية توجد فيها كلمات عربية مثل "نظرية ومذهب ومسلك واقتصاد" كما توجد فيها كلمات أخرى فارسية وتركية مثل " فرمان وفرياد وبزم ودست وبهشت ودهشت "وغيرها. والكلمة " أردو " ذاتها كلمة تركية معناها المعسكر، ويعود تاريخ نشأتها إلى معسكر المسلمين متعددي الجنسيات الذين كانوا يتحدثون بلغات مختلفة في الجيش العثماني التركي. وبما أنّها كانت اللغة الرسمية في العهد المغولي في الهند فسرعان ما أصبحت لغة لعموم شمال الهند بالإضافة إلى كونها لغة المسلمين الهنود الثقافية ولغتهم الأم حتى تجاوز نفوذها إلى جنوب الهند خارج سيطرة الملوك المغول مثل "مملكة حيدر آباد الآصفية" "وميسور "السلطان تيبو". وربما تكون ولاية "كيرالا" هي الاستثناء الوحيد في هذا الشأن. وحتى في " مدراس" بولاية "تاميل نادو" توجد مناطق مثل "عمر آباد" تتحدث نسبة غير قليلة من المسلمين بلغة "أردو".

ومن ميزة هذه اللغة أنّه تتوفر فيها غالبية أمهات الكتب الإسلامية من ترجمة معاني القرآن المجيد مع تفاسيره المختلفة والصحاح الستة وشروحها المتشعبة بالإضافة إلى كتب الأدب والتاريخ والعلوم المتعددة، سواء كانت مترجمة من اللغة العربية أو أصلية باللغة الأردية، مما يساعد كل الأجيال المسلمة على أن يتسلحوا بعلوم دينهم وأن يشربوا من مناهلهم الثقافية العريقة حتى ولو لم يكونوا ملمين باللغة العربية.

وإلى عهد قريب من استقلال البلاد كانت اللغة الأردية لغة نشيطة وغنية بجميع الفنون من النثر والشعر والقصة والرواية، وعلى الشاشة الفضية من الفن السابع كانت هي اللغة السائدة في شمال الهند. ونفوذها كان بارزا في أوساط الكتاب غير المسلمين أيضًا مثل "بريم شاند" و "كيشان شاند" و "أننت نارايان ملا". أمّا شأن الجرائد والمجلات فحدث عنها ولا حرج؛ فمثلا حزب المؤتمر الذي كان في مقدمة حركة الاستقلال، وقد حكم البلاد فترة طويلة، كان له جريدة يومية أردية ناطقة بلسانه باسم "قومي آواز" ("صوت الوطن"). الصحافة الأردية كانت في البداية مضمار الصحفيين المعاصرين مثل "كول ديب نايار" قبل أن يختاروا ميدان الصحافة الإنجليزية مجال عملهم في الفترة اللاحقة. محمد مسلم رئيس تحرير "دعوت" (الدعوة) الناطقة بلسان الحركة الإسلامية الهندية "الجماعة الإسلامية، وفارقليط رئيس تحرير جريدة "الجمعية" الناطقة بلسان جمعية العلماء الهندية، ومولانا أبو الكلام آزاد رئيس تحرير "البلاغ" و"الهلال" ومولانا محمد علي الجوهر رئيس تحرير "همدرد" جميعهم كانوا من رواد الصحافة في اللغة الأردية.

كان للمدارس الدينية والمنظمات الإسلامية دور كبير في مجال الخدمات الصحفية الأردية في الهند. يلقي الكاتب الصحفي سهيل أنجم الضوء على هذا الموضوع في كتابه الجديد "الخدمات الصحفية التي قامت بها المدارس الدينية والمنظمات الإسلامية". وهو أحد كبار الصحفيين باللغة الأردية في الهند. وخدماته في مجال الصحافة الأردية تمتد إلى أكثر من ثلاثين سنة ارتبط خلالها بعدد من الجرائد. وله زهاء عشرين كتابا حاز بعضها على جوائز من مجامع أكاديمية وأندية ثقافية. وحاليا يشغل مراسلا لـ "إذاعة صوت أمريكا" (Voice of America) في الهند.

 لتأليف كتابه هذا، قام الكاتب بمسح نطاق واسع للجرائد والمجلات الصادرة باللغة الأردية من قبل تلك المدارس والمنظمات في كافة أنحاء الهند شاملة جميع المذاهب والمسالك من أهل السنة والشيعة حتى الفرق المنحرفة مثل القاديانية. وقد حاول فيه أن يشير إلى محاسنها ومعائبها دون أن ينحاز إلى أي طرف منها، كما حاول أن يلقي النظر إلى خلفيتها التاريخية. إنه عمل شاق لم يسبقه إليه أحد. ولما خاض في لج البحث عن الموضوع تيقن أن أحدا لا في الهند ولا باكستان قد سبقه إليه. وعدم توافر مواد المصادر المعلوماتية كان العقبة الكبرى أمام مهمته؛ حيث لم يهتم أي مسلك بتشكيل أرشيف تحفظ فيه مجلاته القديمة منها والمعاصرة. فشمر عن ساعديه في عام 2009 وقام بجولة واسعة طول البلاد يجمع الجرائد والمجلات التي انقطع نشرها منذ زمان والتي لا تزال قيد النشر حتى الآن. صرف مبلغا كثيرا في شرائها. الجرائد والمجلات الناطقة بلسان الإخوة الشيعة كان يرتكز نشرها رئيسيا في " لكهنو" بينما إصدارات أهل السنة كانت تطبع في دلهي ومدن أخرى مختلفة في شمال الهند. ولتكميل مهمته استعان بزملائه في العمل. وهكذا أخذ سبع سنوات تقريبا لتحقيق أمنيته حتى صدر الكتاب في عام 2017.

الكتاب مبوب بستة أبواب وعدة فصول هامة. الباب الأول يحتوي على بداية تاريخ الصحافة الأردية ذات الاتجاه الديني وأسبابها وتطوراتها في مراحل مختلفة. وفي باب آخر يحاول استخراج النقوش الأولى الزاهية من الصحافة الأردية التاريخية التي سادت ثم بادت. وهناك باب طويل حاول فيه الكاتب استعراض الصحائف الدينية بمنظور غير منحاز يشير فيه إلى محاسن تلك الإصدارات التي تنتمي لكل مسلك ومعائبها ويمكن القول عنه إنّه خلاصة هذا الكتاب. اقتبس فيه نماذج من المقالات المنشورة فيها وكلمات تحريرها حتى يتضح للقارئ جليا التيار الفكري الذي يحمل تلك الصحائف والرجحان الغالب فيها.

مِثْلَ الاستعمار البرتغالي بقيادة كولومبوس وفاسكو دا جاما، دخل الاستعمار البريطاني أيضا في الهند، في يده اليمنى شركة الهند التجارة الشرقية، وفي يده اليسرى الكتاب المقدس. الإرساليات التبشيرية كانت جزءا من الاستعمار البريطاني. وكانت الكنائس رائدة في تأسيس المطابع ونشر الجرائد. وهكذا بدأت المجلات والمنشورات تظهر إلى حيز الوجود أول مرة في الهند وفي طيّاتها نواة التبشير التي تستهدف جميع الملل في الهند من الهندوس والمسلمين والسيخ، ويعود تاريخها إلى سنة 1800م حيث تنقّل كل من الدكتور "ويليام كيري" و "ويلايام وارد" إلى "سيرام بور" مع مطابعهما كما يشير إليه الدكتور طاهر مسعود في كتابه "الصحافة الأردية في القرن العشرين". كان هدفهما نشر الرسالة المسيحية وسط الشعوب الهندية. فقاما بنشر الإنجيل في خمس وعشرين لغة محلية في الهند يبلغ عددها مائتي ألف واثني عشر نسخة. البعثة التبشيرية في "سيرام بور" لها يد طولى في نشر الديانة النصرانية في الهند وخاصة باللغة البنجالية، ولا يهمل دورهم أيضا في مجال الصحافة. وفي هذا الوقت نفسه بدأ راهبان نصرانيان بنشر مجلة اسمها "خير خواه هند" (ناصح الهند خيرا) من "مرزا بور" و"بنارس". ولم تكن هذه الأعمال التبشيرية دون أثر بين المسلمين والهندوس حيث تقدم بعض الأسر من كلا القوميين لاعتناق الديانة النصرانية بتأثير المدارس الإنجليزية الحديثة. وفي عام 1857 تحولت أسرة ماستر رام شندر الهندوسية، وأسرة المولوي كريم الدين المسلمة، إلى الديانة المسيحية. وأعلن الملك "كولديب سينغ" أيضا اعتناقه الديانة المسيحية تاركا ديانته القديمة. وكان لكريم الدين أخ يعرف بالأب عماد الدين وله ثلاثة كتب كتبها ضد العقائد الإسلامية. الرهبان النصارى رغم اتخاذهم وسائل الاسترضاء لم يترددوا أيضا في استخدام وسائل الإكراه لتغيير ديانة الجمهور. هذا خلق طبعا بلبلة بين الهندوس والمسلمين جميعا. وكرد فعل لأعمال البعثات التبشيرية هذه ظهرت المجلات الأردية بين أوساط مختلف أتباع الديانات في الهند. فبدأت مجلة "فوائد الناظرين" تصدر تحت تحرير "ماستر رام شندر" ( (Master Ram  Chander كما بدأت مجلة "كريم الأخبار" تحت تحرير المولوي كريم الدين. وتقدم المصلح الهندوسي "راجا رام موهان روي" في عام 1821 بمجلته "براهمونيكال ماجزين" (Brhamonical Magazine) يدحض مزاعمهم ضد الديانة الهندوسية. لكن لم يقدر لها عمر طويل. وفي عام 1852 تقدم هندوسي آخر يدعى "جوفيند راجهو" (Govind Raghu) بمجلة " بناراس جازيت" (Banaras Gazette). أمّا المجلات الإسلامية فيعد أقدمها تاريخا مجلة "مظهر الحق" التي قام بنشرها عام 1843 المولوي محمد باقر من المسلمين الشيعة. وكان محركها الأساسي "الفتنة الكبرى" التي وقعت في بغداد آنذاك كما يدعي الإخوة الشيعة وكان هدفها ترويج عقائد الشيعة بين المسلمين. كانت مجلة أقل توزيعا؛ لأن قاعدة قرائها كانت محدودة بين الشيعة فقط ولا يقرأها السنة، وقد ظلت تصدر حتى عام 1852.

يقدم المصنف قائمة من المجلات والدوريات التي صدرت خلال فترة ما قبل استقلال الهند من جانب كل من الهندوس والمسلمين والسيخ مع أسماء مالكيها وسنة نشرها ثم يكشف عن ملامحها الرئيسية واحدة فواحدة. ولو أنّ القاسم المشترك لهذه المنشورات كان الرد على مزاعم البعثات التبشيرية، إلا أنّ المعركة كانت ساخنة بين هذه الملل المختلفة كما كانت بين الطوائف داخل كل ديانة. فمثلا المحافظون الهندوس كانوا لا يتعاملون مع "بروهما سماج" التيار التجديدي فيهم بتسامح، وطائفة "آريا سماج" التي كانت في مقدمة الدفاع عن عقائدهم الهندوسية ضد هجوم المسيحيين كانت منخرطة في محاولات تغيير ديانة المسلمين مما أدى إلى أن يخوض في هذا المضمار مولانا أبو الوفاء ثناء الله امرتاساري السلفي المنهج وصاحب "مجلة أهل الحديث" التي امتد عمرها 44 سنة حتى تقسيم الهند. وبما أنه كان يحارب البدع والخرافات في الأمة والفرقة الأحمدية التي تدعي شرعية النبوة الجديدة بعد النبي محمد صلى الله عليه وسلم، أصبح البريلويون والقاديانيون أتباع ميرزا غلام القادياني المدعي النبوة حريفين له. كان يواجه الرهبان من المسيحيين وقادة "الـ آريا سماجيين" من الهندوس والبريلويين الخرافيين من المسلمين، وميرزا غلام المدعي النبوة وأتباعه على جبهات عدة مشاركا في مناظرات تعقد في ميادين مفتوحة، وكاتبا في مجلته المذكورة أعلاه، ومصنفا كتبا يرد على مزاعمهم الزائفة. كان ثناء الله ذكيا وذا حس مرهف وحاضر الجواب. كان كابوسا للقاديانيين والآريا ساماجيين. وثمة حكاية ظريفة تدل على ذكائه الحاد؛ إذ تحدى المسلمين "شرادها آنندا من "آريا سماج" بمناظرة، فتقدم ثناء الله لقبول التحدي ولكن "شرادها آنندا" رفضه قائلا إنه إنما تحدى المسلمين لا الكفار، لأن "البريلويين" قد أفتوا ذاك الوقت بكفره، فرد عليه ثناء الله بإعلان كلمة الشهادة وقال: إنني قد أصبحت مسلما.

ومن الجرائد والمجلات المحفورة في وجدان الزمان خلال فترة الاستقلال "البلاغ" و"الهلال" لمولانا أبو الكلام آزاد و "همدرد" لمولانا محمد علي من قادة حزب المؤتمر و"الجمعية" الناطقة بلسان "جعية علماء الهند" و "دعوت" (الدعوة) الناطقة بلسان الجماعة الإسلامية، الحركة الإسلامية في الهند و "ترجمان القرآن" للأستاذ المودودي مؤسس الحركة الإسلامية في شبه القارة الهندية، و"المعارف" لسليمان الندوي المؤرخ الإسلامي الشهير، و"صدق جديد " (الصدق الجديد) للعلامة عبد الماجد الدريابادي. بعضها لا يزال يصدر حتى الآن مثل "دعوت " (الدعوة) الصادرة في دلهي و "ترجمان القرآن" التي انتقلت إلى باكستان بعد تقسيم الهند يحررها حاليا بوفوسور خورشد أحمد، وبعضها توقف بعد وفاة أصحابها مثل "البلاغ" و "الهلال" و "همدرد".

أما الصحافة الأردية الراهنة في الهند، فالحقيقة المرة أنّها في حالة يرثى لها. قبل عقد من الزمان لما سأل هذا الكاتب "كولديب نيار" عميد الصحافة الهندية المعاصرة الذي بدأ حياته الصحفية في مجال الصحافة الأردية عن حالتها الراهنة قال إنّه ليس لها مستقبل في الهند. السبب الرئيسي لذلك يعود أولا إلى العقبات التي وضعتها الحكومات الهندية المتتالية أمام تطورها حيث أخرجتها من مقررات المنهج الدراسي وجعلت اللغة الهندية التي تكتب بحروف "ديفاناجري" بدلا من الحروف العربية التي تكتب بها اللغة الأردية لغة التوجيه مما أبعد الجيل الجديد المسلم عن ألفة لغتهم الأم، فأصبح الجيل الناشئ لا يقرأ اللغة الأردية واضطر كثير من الكتاب أمثال القاص الأردي الراحل ساجد راشد أن يتحولوا في إبداعاتهم من اللغة الأردية إلى اللغة الهندية الوطنية مصدقين قول الشاعر الأردي المرموق أكبر إله آبادي:

"لو كان يعرف المسكين فرعون قوة سلاح التعليم لما كان باغتيال الأطفال سيئ الاسم هكذا في التاريخ"..

 كان المفكر الإسلامي الأستاذ المودودي قد حذر مسلمي الهند من هذه الحالة المأساوية التي ستواجهها لغتهم بعد استقلال البلاد حين تتحول حركة الاستقلال التي قامت على رجلين من الحركة الوطنية والعصبية الهندوسية إلى رجل واحد من العصبية الهندوسية ونصحهم أن يحاولوا نشر الكتب الإسلامية والوسائل الإعلامية في اللغة الهندية الوطنية واللغات المحلية الأخرى. ولو أن بعض هذه الجرائد التي يعود عمرها إلى مرحلة ما قبل الاستقلال لا تزال تصدر حتى الآن غير أن مستواها شكلا ومضمونا خلف مئات من الأميال من صحف التيار الرئيسي. وجريدة "دعوت" (الدعوة) الناطقة بلسان الحركة الإسلامية خير مثال لذلك. كانت تعد من الجرائد اليومية على المستوى الأعلى ولها وزن لدى الجمهور والسلطات حين كان الأستاذ محمد مسلم رئيس تحريرها حتى السبعينيات من القرن الماضي، ولكن فقدت بريقها بعد وفاة المذكور. هل يستطيع أحد أن يتصور جريدة تصدر كل ثلاثة أيام وذلك أيضا بدون أي صورة فوتوغرافية في عصر السرعة التي تنافس الجرائد المطبوعة القنوات الفضائية؟ إن كان احترام الميت دفنه فقد طال وقت دفنها. أمّا أخواتها فلا تختلف أحوالها أيضا كثيرا عنها إلا في شكلها الظاهر فقط.. تلك هي حكاية الجرائد الأردية المعاصرة.

-------------------------------------------------------------------------------

اسم الكتاب: الخدمات الصحفية التي قامت بها المدارس والمنظمات الإسلامية في الهند

اسم الكاتب: سهيل أنجم

لغة الكتاب: أردو

عدد الصفحات:367

الناشر: Institute of Objective Studies, New Delhi

 

أخبار ذات صلة