التقدم العسكري وخصوصية تجليّاته في تقاليد الغرب

Picture1.png

سيرغي ماكسيموف

أحمد الرحبي*

في الكتاب المقترح يحلل الباحث الروسي من مدينة كراسنويارسك السيبيرية سيرغي ماكسيموف واحدة من أهم قضايا عصرنا الحديث؛ وهي فهم جوهر التقدم العسكري، هذا التقدم الذي يشمل مجموعة من المسائل الشائكة:

1) خصائص التطور العلمي والتكنولوجي وعلاقته بتطور المجتمع ككل.

2) الحرب والقوى ذات المصلحة فيها. 3) السلام وآمال التعايش السلمي.. إلخ.

يقول مؤلف الكتاب إنّ العالم الحديث الموسوم بالعولمة يتميز بتعقد الأزمات السياسيّة والاجتماعية والثقافية، ما يؤثر على فهم طبيعة وآفاق التقدم البشري، بما في ذلك المجال العسكري. ويؤكد المؤلف أنّ المعرفة الفلسفية والاجتماعية المعاصرة غير قادرة على الاستجابة لتحديات العالم الحديث المعولم، بينما المعرفة الجديدة لم تتبلور بعد، وفي هذه الظروف يلوح التقدم العسكري بصفته تهديدا للبشرية، كما ينبغي عليه في الوقت نفسه أن يكون عامل استقرار اجتماعي يوحد الأجيال والأمم والفئات الاجتماعية.

يشكل الترابط بين تقدم الإنسانية والتقدم العسكري جزءًا لا يتجزأ من التطور البشري العام، مع ذلك يبيّن لنا ماكسيموف أنّ هذا الترابط لا يخلو من التعقيد وتعدد الأوجه واختلاف الأبعاد. فهناك ثلاث وجهات للنظر شهيرة في عملية تنمية المجتمع:

1) فكرة رجعية التنمية (التي تفترض دائما أن الغد أسوأ من اليوم).

2) فكرة التطور التدريجي وفق الماركسية.

3) فكرة دورية التنمية التي انعكست في أعمال شبنغلر وتوينبي.

ولا تنكر أي من وجهات النظر الثلاث أنّ التنمية الاجتماعية تعود إلى حد كبير إلى تطور التكنولوجيا الذي غالبا ما يترسخ في مجال الصناعة العسكرية، بمعنى أنّ التقدم الذي ننشده منشأه عسكري وحربي؛ الأمر الذي يضعنا في نوع من التناقض، ذلك لأنّ التقدم العسكري لا يضمن تقدم المجتمع. فجوهر التقدم هو المسلك الذي يسير بنا إلى الأفضل والأكمل، أما الآلية التي يجب أن يعمل بموجبها التقدم البشري السوي فتكمن في معرفة وتحديد مفهوم الكمال المجتمعي أولا ومن ثم السير على طريق هذا النوع من التقدم أو ذاك. إذ الخير وحده ما ينمو ويتطور وإنما الشر كذلك. ومن هنا لا يكون ثمة تقدم حقيقي، بما فيه التقدم العسكري، من دون وعي بهذا البعد الأخلاقي ومضامينه الإنسانية.

   ولإبداء فهم مختلف للتقدم العسكري يرصد المؤلف انعكاس هذا التقدم في العقلية السياسية والاجتماعية لمختلف مناطق العالم، وهذا الفهم المختلف للتطور العسكري يحيلنا مباشرة إلى النظرية التي أطلقها العالم السياسي الأمريكي صمويل هنتجتون عام 1993 والتي تقول بصدام الحضارات، التي يفندها ماكسيموف ويلقي عليها مزيدا من الضوء.

يذكر المؤلف ثلاث رؤى تميز بين ثلاثة مفاهيم للحياة والتقدم البشري وكل منها ينتمي إلى حضارة إنسانية مختلفة:

1) الحضارة الغربية: حيث العالم هو نشوء النظام من الفوضى وحيث بمقدور الفرد كبح جماح الشر وإخضاع الطبيعة من خلال المعرفة والنشاط العقلي للأفراد.

2) الحضارة الشرقية: حيث الكمال المتناغم هو أصل العالم، مع احتمال أن تتضمن الأنشطة البشرية مقدارا من الشر؛ وبالتالي يجب قمع مصادر الشر والعنف في الفرد من خلال الفروض والقواعد والتقاليد الاجتماعية.

3) الحضارة السلافية: حيث الخير والشر متضافران في نسيج الكون، وحيث أفعال الناس تعزز أو تضعف هذا أو ذاك وذلك من خلال تفاعلهما في المجتمع، وأما الطبيعة فلا تخضع للإنسان أبدا. (ص 136).       

من المعروف أن الفلاسفة الأوربيين في قرني الازدهار الفكري، الثامن عشر والتاسع عشر كانوا يجمعون على توقع مجيء السِلم العالمي وحلول الفردوس الأرضي وكانوا مقتنعين بأن الإنسانية، أو نخبتها بأقل تقدير، تقترب من زمنها التاريخي المبارك، وكانوا مؤمنين بحقيقة إنقاذ البشرية ووصولها إلى قمة التاريخ، وليس أدل على ذلك أن فكرة السلام الأبدي كانت تطبع بخاتمها معظم أعمال إيمانويل كانط، أبرز فلاسفة تلك الحقبة، فمهما اختلفت أفكار كانط عن المجتمع إلا أن كتاباته تنتهي إلى وضع حد للحروب، وهي أم الشرور كلها.

ولكن، وبعد الإحصاءات المخيفة التي يوردها الكاتب عن الحروب، كيف لنا أن نستبشر خيرا بمسألة تقدم الإنسانية والنماء الذي تصبو إليه البشرية؟ يقول ماكسيموف: " من أهم الخصائص التي تميز التقدم العسكري هي الحروب العالمية التي خاضتها البشرية. وللأسف فهي حروب صاحبت الإنسان منذ فجر تاريخه. فمنذ سنة 3500 قبل الميلاد وحتى وقتنا الراهن عاش الإنسان 292 سنة فقط من غير حرب. وطيلة زمانه هذا عاصر الإنسان ما مجمله 14530 حربا. كانت مختلفة في نطاقها ومدتها، ويبقى القرن العشرون هو الأشد وطأة من حيث حجم الحروب التي ارتفع معدلها أضعاف ما كانت عليه في السابق، فاستولت على قارات بأكملها، وعمت العشرات من البلدان، وحصدت ملايين الضحايا من البشر. لقد شاركت ثماني وثلاثون دولة في الحرب العالمية الأولى. وخلال الحرب العالمية الثانية حاربت إحدى وستون دولة أي ما معدله 80 بالمائة من مجموع سكان الأرض. وينتسب الاختراع الخبيث للحروب العالمية والاضطرابات البشرية الشاملة إلى القرن العشرين. وفي القرن العشرين أيضا ارتفع عدد ضحايا الحروب إلى أرقام قياسية حيث بلغ قتلى الحربين العالميتين الأولى والثانية ستين مليون نسمة. ومن الجدير هنا ملاحظة أن عدد ضحايا الحروب من المدنيين في تزايد مضطرد ونسبة الإصابات في صفوفهم في تفاقم مستمر. فبينما كان عدد القتلى من الجنود في الحرب العالمية الأولى عشرين ضعف القتلى من المدنيين، نجده في الحرب العالمية الثانية يتساوى مع عدد القتلى من المدنيين. وبعد ذلك حصدت الحرب الكورية (1950-1953) ما معدله خمسة أضعاف من المدنيين مقابل الجنود، ثم في حرب فيتنام التي أزهقت أرواح مدنيين يصل عددهم إلى عشرين ضعف القتلى من الجنود" (ص 13). ويستنتج الباحث من هذه الإحصائيات أننا: "قد بلغنا الألفية الجديدة ووجدنا أنفسنا حيال واقع لم نكن نتوقعه. ومع ذلك، وبما أن الخيارات كانت متاحة أمامنا في السابق للتنمية البشرية، إلا أننا اخترنا الخيار الخاطئ، وبموجب ذلك يجب الاعتراف أنّ التوقعات أتت في سياقها الطبيعي" (ص 60-61). وهذه هي الفكرة التي أراد أن يصيغها المؤلف، أي أنّ الإنسان هو صاحب مصيره.

يولي الكاتب الروسي اهتماما كبيرا بمشاكل الحداثة وتحليل خصوصيات التقدم العسكري في القرنين العشرين والواحد والعشرين، رابطا بينها وبين التغييرات الاجتماعية العالمية الأخيرة. ويشير الباحث في هذا الصدد إلى أنّ اتجاه التطور الاجتماعي ينتقل من الوحدات الكبيرة التي تمثلها الفئات الاجتماعية ذات القوة التنظيمية والتغييرية العظمى إلى المجتمعات الديناميكية الصغرى، ويقصد بها مجتمعات الأقليات، وما قد يسببه ذلك من توترات مزمنة. فقد ازدادت حرية الاختيار الفردي في الالتحاق والانتماء إلى أية فئة مجتمعية يجدها الفرد أكثر مواءمة له وتلبي حاجاته النفسية، ولم تعد مسألة الانتماء مشروطة بالولادة أو بارتباط الأسرة بوحدات اجتماعية أو قومية أو دينية معينة لا يمكن ولا يُقبل تبديلها. وكل هذا يعمل ضد توحد المجتمع ويعزز من احتمالات تفريقه كما أنّه يستفز خلافاته الكامنة. ويصور المؤلف مجتمع اليوم بقوله: "يغدو النمو الاقتصادي فيه هو المؤشر الوحيد للتقدم الاجتماعي، وتتشكل علاقات الأفراد فيه من خلال مفاهيم الربح والمصلحة وعقلانية العمل. كما تبدو ثقافة وشخصية الفرد في المجتمع ما بعد الصناعي غير محمية من منطق السوق والوسائل التقنية وتسود الثروات والمرافق المادية على القيم الروحية. ويبقى إنسان المجتمع المعاصر رهين اعتبارات شكلية؛ أما التقاليد الدينية والقواعد الأخلاقية والجمالية فتحتل مكانة ثانوية. والحالة الطبيعية للمجتمع الاستهلاكي هي حالة التنافس والعداء، وامتلاك الحق في كل شيء حتى في القتل (...) ويدعو الغرب العالم إلى البقاء في حالة حرب، ففي المجتمع الفردي (كالمجتمع الغربي) يتراجع كل معيار اجتماعي باستثناء قانون الحقوق" (ص 42).

يضع ماكسيموف التطور العسكري في الغرب الليبرالي موضعا هاما ويقول إن ليبراليي الغرب والساسة الأمريكان ونخبهم الفكرية غالبا ما يبالغون في تقييم وتثمين مبادئهم الليبرالية المتمركزة على حقوق الإنسان والحريات الديموقراطية واقتصاد السوق، والتي يفسرونها بطريقتهم الخاصة ويعتبرونها مذهبا حقيقيا وحيدا صالحا لكل زمان ومناسبا لكل شعوب العالم. لذلك يتشكل فهمهم للواقع على صيغة "إما وإما" حيث تتخذ الرؤية للواقع والأحداث منظورًا وحيدا يحتوي على عقيدة وحيدة تدعي الحقيقة المطلقة، وبالتالي فكل ما عداها من حقائق ومذاهب وثقافات يتبعها أقوام آخرون تصبح في نظرهم خاطئة وكاذبة بل وخطيرة يجب مقاومتها والحد من أضرارها. ولذلك أيضًا فإنّ مجموع هذه الأفكار والقيم الليبرالية الغربية تمثل أساسًا لنسخة جديدة من الأصولية العلمانية التي تُستخدم لإحلال الاحتكار العقائدي بحجج ضرورة نشر القيم الكبرى التي من الواجب أن تشمل المعمورة كلها. وكما هو جار اليوم، فكل شيء لا يقع تحت مظلة النموذج الليبرالي الغربي غالبا ما يتم تعريفه بالتعصب والتطرف والإرهاب إلى آخر هذه التوصيفات الراديكالية والقاطعة. كما يتم فرض أفكار الليبرالية الغربية على المستوى العالمي بشتى الوسائل والطرق ومن بينها استخدام القوة المسلحة. ويرفد المؤلف كتابه بعدد من الأسئلة الملحة والتي تعزز من تقييمه لعدوانية الفكرة الليبرالية الغربية وضيق أفقها الإنساني، من بين تلك الأسئلة: لماذا حينما يتم ضبط حكومة من الحكومات (غير الغربية بطبيعة الحال) وهي تنتهك حقوق الإنسان يتم عقاب تلك الحكومة مع رعاياها، سواء حصل ذلك بشكل عقوبات أو بشن الحرب عليها أو بالإثنين معا؟

ومن ناحية تقنية يشير الكاتب إلى وصول التقدم العسكري إلى طريق مسدود لا سيما فيما يتعلق بأسلحة الدمار الشامل، التي يرى الكاتبُ أنها في مأزق حقيقي. فالأسلحة النووية التي هي أقصى ذُرى الشر العقلي، حيث استخدامها كفيل بمحو البشرية جمعاء عشرات المرات، وعلى الرغم من عدم فائدتها مطلقا من ناحية التفوق العسكري، إذ لا أحد قادر على استخدامها، مع ذلك نرى التنافس على امتلاكها عند البلدان التي لم تمتلكها بعد وعلى تطويرها بالنسبة للبلدان المالكة لها. وهنا فحوى المأزق الذي يشير إليه الكاتب، أي الاستماتة على امتلاك شيء قاتل وخطير لا فائدة تجنى منه.

غير أنّ المؤلف يجد ثغرة تبرر امتلاك أسلحة الدمار الشامل وإن كان هو الآخر تبريرا يتضمن جانبا من العبثية. وينطلق تبريره هذا من مبدأ: بما أننا صنعنا الشر بأيدينا، أي السلاح الذري، فعلينا التحكم به بنفس الأيدي. وبما أنّ هذا السلاح المرعب أصبح بين أيدينا فإن معرفة الخطورة الناجمة عن استخدامه هو وحده الكفيل بعدم استخدامه. وبعبارة أخرى: لقد ابتكرنا الشر وصنعنا معه القفص الذي نحبسه في... فأي عبث فوق ما صنعه العقل البشري؟!

يحاول سيرغي ماكسيموف إثبات أنّ القوة العسكرية الضخمة بإمكانها في حالات معينة أن تمنع الحروب وبالتالي تساهم في حفظ السلم العالمي. مثاله على ذلك المواجهة الكبرى بين الاتحاد السوفيتي وأمريكا بما عرف بالحرب الباردة، حيث كان توازن الرعب قائما وحقيقيا وبلا حرب، ولكن ما إن انهار الجدار الحديدي حتى انطلق الشر من عقاله ودخل العالم حقبة جديدة تصاعد فيها العنف وانتشرت بؤر الحروب الظالمة التي تنشب أحيانا تحت شعار "الحرب حفاظا على السلم!".  

ويستبعد المؤلف قطعيا أن تتخلى روسيا عن برنامجها في التطوير العسكري حيث المسألة بالنسبة لها مسألة وجود. يكتب عن ذلك: "في ظل الأزمات الاقتصادية وغيرها من الاضطرابات دائما ما يلوح إغراء لحل المشاكل من خلال الضغط والقوة. وليس من قبيل المصادفة أن ترتفع اليوم في روسيا أصوات تنادي بالسيادة على موارد ذات أهمية عالمية. وهذا هو الأمر الذي يمنع روسيا من التخلى عن أسباب الردع الاستراتيجي في أي ظرف من الظروف. وقد ساعدنا هذا في الحفاظ على سيادتنا الوطنية خلال فترة التسعينيات وهي فترة صعبة للغاية لم نكن نمتلك فيها أي شيء ذي وزن غير الردع الاستراتيجي" (ص 71).

وبخلاف فلاسفة أوروبا الكلاسيكيين الذين بشروا بالسلام المستدام، يرى الكاتب أنّ الرؤية للمستقبل تشير إلى بؤر جديدة للتوترات العسكرية. وبحسب رأيه قد تؤثر الحروب القادمة على أمم كبيرة تراها القوى العالمية المسيطرة عقبة أمام ميولها الاستحواذية. كما يشير المؤلف إلى اضمحلال المواد الخام وموارد المياه والأراضي الخصبة والمناطق الآمنة بيئيا التي ستكون السبب الرئيسي في الصراعات السياسية والعسكرية للعقود المقبلة. 

---------------------------------------------------------------------------------

الكتاب. التقدم العسكري وخصوصية تجلياتها في تقاليد الغرب.  

المؤلف: سيرغي ماكسيموف.

الناشر: إنفرا – م / كراسنويارسك 2017 باللغة الروسية.

عدد الصفحات: 254 صفحة. 

*كاتب عماني

 

أخبار ذات صلة