الإصلاح: كيف تنجو الأمم وتزدهر في عالم يتداعى؟

http___com.ft.imagepublish.prod.s3.amazonaws.jpeg

جوناثان تيبرمان

فينان نبيل

كاتبة وباحثة مصرية

 

يعيش العالم اليوم لحظة من الخوف والمعاناة من المشاكل الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية، التي يراها الجميع غير قابلة للحل، تتمثل في تزايد عدم المساواة، والهجرة، وانتشار التطرف من مختلف الأطياف، والحرب الأهلية، والفساد، وصعوبة انتقال الدول من مرحلة النجاح التنموي إلى مصاف الدول الغنية، في هذا المناخ المحبط، يقدم "جوناثان تيبرمان" رؤية متفائلة تجاه عملية إصلاح العالم، من خلال تحليل وضع المجتمع الدولي في وقت يعاني فيه عالم الأفكار من فراغ كبير، يسلط الضوء على تجارب إصلاح للسياسات والاقتصاديات في العديد من دول العالم التي حسنت بشكل كبير من دخل الفرد على مدى السنوات الخمسين الماضية. وقام بتوصيف طبيعة الأزمات وطرق حلها، وقدم عددا من النماذج التي تمكنت فيها قيادات قوية ذات كاريزما من التغلب على تلك المشاكل، من أمثلة ذلك القضاء على الفساد في سنغافورة، والهجرة في كندا، والفقر في البرازيل، وكوريا الجنوبية وبوتسوانا، وإلى أي مدى يمكن نقل هذه النماذج الناجحة عبر البلدان.

 

حاول الكاتب إثبات أن معظم أزمات عالمنا المعاصر كان محورها الاقتصاد، وتطرق بشيء من التفصيل إلى تدهور الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط، والصراعات المسلحة الدائرة حاليا في المنطقة، وتطور موجات الربيع العربي في اتجاه سلبي معاكس وما ترتب على ذلك من تردي الأوضاع بشكل عام.

يري تيبرمان أنّ فشل عدد كبير من حكومات العالم في إدارة اقتصادات بلادها، يعود إلى ثلاثة عوامل رئيسة، تتمثل في:

أولا: مطالبات الشعوب للحكومات بتحسين الوضع الاقتصادي، وظروف المعيشة، خلال فترة زمنية محدودة، لا تتناسب مع الخطط متوسطة وطويلة المدى التي تضعها الحكومات.

ثانيا: ضعف مؤسسات الدولة التي تقوم على تنفيذ عملية التحول والانتقال إلى الوضع الجديد على المستويين السياسي والاقتصادي.

 

ثالثا: محدودية الموارد المالية المتوافرة لتمويل مرحلة التحول الحرجة، سياسيا واقتصاديا، وهو ما يتفاقم مع ارتفاع معدلات الفساد المالي والإداري، وزيادة حجم الديون الخارجية والمحلية، التي تمثل فقدا من مقدرات المواطنين والأجيال القادمة. أمّا في بلدان الربيع العربي تحديدا، فقد رأي الكاتب أن جزءا كبيرا من أزماتها الاقتصادية يعود إلى اعتمادها على قطاع السياحة، وهو القطاع الذي تراجع أخيرا كثيرا، وحقق خسائر كبيرة لم تشمل فقط البلدان التي هزتها رياح التغيير، بل طالت تلك التي ظلت بعيدة عن تغيير الأنظمة، وشملت الخسائر مصر، وتونس، واليمن، وسوريا تحديدا، إضافة إلى دول أخرى لم تستطع أن تنأى بنفسها عن التأثر بما يجري في محيطها الإقليمي، مثل: لبنان، والمغرب، والأردن، وهي دول تشكل السياحة العربية والأجنبية إليها مصدرا رئيسيا للدخل القومي، فضلا عن استيعابها لجزء كبير من القوى العاملة.

أكد المؤلف أن دول الربيع العربي لن تنجح في تخطي المرحلة الانتقالية إلا بتحسين أوضاعها الاقتصادية. فدول الشرق الأوسط الآن تعيش مرحلة اقتصادية تقوم على استعادة الاستثمار، ووضع حلول سريعة للمشكلات التي قامت من أجلها الثورات، خاصة ما يرتبط بالفرد، الذي هو العنصر الأساسي في عمليات النمو والتنمية الاقتصادية.

 

 تناول الكاتب "تجربة البرازيل التنموية" فقد أُصيب رجال الأعمال بالرعب في البداية بعد انتخاب "لولا دا سيلفا" رئيسا للبلاد عام 2002، فهو الزعيم العمالي الصلب، الذي عاني في طفولته من الفقر المدقع، وكان من المتوقع أن ينتهج سياسات اقتصادية يسارية، ولكنه "تحول إلى مصلح عظيم"، قدم نموذجا جديدا لبرامج الإعانة الاجتماعية، من أجل معالجة الفجوة الضخمة في دخول البرازيليين والمعروف ببرنامج "بولسا فاميليا"، والذي لم يكن برنامجا لإعطاء إعانات مالية لمساعدة الفقراء فقط، وإنما كان مشروطا، حيث إنّ المواطن لا يحصل على هذه الإعانة في حالة عدم التزامه بإرسال أولاده إلى المدارس، أو عدم التزامه بإعطائهم الأمصال الوقائية. وكان الهدف من البرنامج هو مساعدة الأسر، حتى تستطيع أن تترك الأطفال يتعلمون، حتى لا يكون الفقر والمرض وراثيا وطبقيا، ساهم البرنامج في انتشال 45 مليون فقير من تحت خط الفقر والموت جوعاً وفق إحصائيات برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، وتم اعتبارها "الحل السحري للتنمية".

ناقش الكاتب تجربة سنغافورة في القضاء على الفساد بقيادة رئيس الوزراء "لي كوان يو" والتي فرضت نفسها من اليوم الأول الذي نشأت فيه "دولة ما بعد الاستعمار" وكان على القادة الجدد الذين وقع على عاتقهم عبء بناء دولة مستقلة، تغيير هذا الواقع المريض لإنقاذ البلاد، عندما نجحوا في الانتخابات سنة 1959 قرروا تنقية البلاد من كل أشكال الفساد. وتحولت فكرتهم إلى مشروع وطني وإنجاز جعل تلك الدويلة الصغيرة تكتسب سمعة عالمية على أنها من الدول الأقل فسادا، كانت الإرادة السياسية مصدر النجاح في بناء "حكومة نظيفة" وتجسيدا لهذا المبدأ حاكم "كوان يو" كثيرا من وزراء وشخصيات عامة بسبب ممارسات فاسدة، اعتبر "كوان يو" أن الشرط الضروري لوجود حكومة نظيفة يبدأ من مرحلة الانتخابات، فكلما كان المال الملوث هو مصدر المنصب السياسي، سيتحول العمل السياسي إلى عبء ليس على العملية الانتخابية فحسب بل على نظافة المؤسسة الحكومية، ونظافة الجهاز الإداري والبيروقراطية الرسمية. لعبت القوانين المرافقة لإستراتيجية مكافحة الفساد في سنغافورة دورا مهما في تحقيق أهداف هذه الإستراتيجية فقد سُنت تشريعات قانونية ضد الفساد وشددت العقوبة وتوسعت دائرة المساءلة القانونية، وأنشئت تنظيمات إدارية ضد الفساد: منها، تسهيل الإجراءات الإدارية، وسد الثغرات التي تؤدي إلى التعسف في استغلال المنصب، ومراجعة رواتب موظفي القطاع العام حتى تتناسب مع مستويات المعيشة، ووضع شروط لإلغاء العقود مع مقدمي الخدمة حتى في وقت لاحق في حالة اكتشاف أنّ العقد تم تنفيذه بناء على محسوبية أو تفضيل غير مبرر قانونيا، ووضعت مخططات وقائية ضد الفساد، حيث يحظر على موظف القطاع العام أن يكون خاضعا لظرف مالي لأي شخص يتعامل معه، كما يتم الإعلان عن الأصول التي يملكها الموظف الحكومي أثناء تعيينه وفي كل سنة، كما يحظر عليه القيام بأي عمل مواز أو الانخراط في نشاط بيع أو شراء ما دام موظفا في الجهاز الحكومي.

 

بدأت سنغافورة التصنيع بخطوات سريعه منذ أوائل الستينيات من القرن العشرين الميلادي، وأنشأت هيئة التنمية الاقتصادية عام 1961م للنهوض بالصناعة بصفتها العامل الأساسي للنمو الاقتصادي. وقد افتتحت مدينة "جورونغ" الصناعية في الجزء الغربي من الجزيرة .وقد ركز البرنامج الاقتصادي في البداية على الصناعات ذات الكثافة العمالية المرتفعة للمساعدة على حل مشكلات البطالة التي سادت في أوائل الستينيات. بعد نجاح هذا البرنامج، انتقلت سنغافورة إلى الصناعات ذات المهارة العالية، ومنذ الثمانينيات من القرن العشرين، بدأت تركز على الصناعات ذات التقنية المتقدمة.

استعرض الكاتب تجربة "بوتسوانا" بعد الاستقلال كواحدة من أسرع الدول في معدلات النمو في نصيب الفرد من الدخل في العالم، وتحولها من واحدة من أفقر البلدان في العالم إلى فئة البلدان المتوسطة الدخل، بلغ متوسط النمو الاقتصادي وفقاً لصندوق النقد الدولي أكثر من 9 ٪ بين (1966 :1999). بوتسوانا لديها مستوى عالٍ من الحرية الاقتصادية مقارنة مع بلدان أفريقية أخرى. حافظت الحكومة على سياسة مالية سليمة على الرغم من العجز في الميزانية في 2002 و2003 على التوالي، ومستوى لا يكاد يذكر من الديون الخارجية. حصلت البلاد على أعلى تصنيف ائتماني في إفريقيا وكدست احتياطيات النقد الأجنبي (أكثر من 7 مليارات دولار في 2005/2006) تمتلك الدولة حصة 50% من "دبسوانا" أكبر شركة مناجم ألماس في بوتسوانا، توفر الصناعات المعدنية نحو 40٪ من مجموع الإيرادات الحكومية. في عام 2007 تم اكتشاف كميات كبيرة من اليورانيوم وبدء التعدين بحلول عام 2010، حيث يعود التنقيب عن الألماس والذهب واليورانيوم والنحاس والنفط بنتائج إيجابية. على الرغم من ذلك أعلنت الحكومة أنّها ستحاول التحول عن الاعتماد الاقتصادي على الألماس بسبب المخاوف الخطيرة حول نضوبه من بوتسوانا على مدى السنوات العشرين المقبلة.

 

نظام بوتسوانا المصرفي التنافسي أحد أكثر الأنظمة تقدما في إفريقيا. حيث تلتزم بالمعايير العالمية في الشفافية في السياسات المالية والرقابة المصرفية، ويوفر القطاع المالي الوصول إلى وفرة من القروض لأصحاب المشاريع. تشارك الحكومة في القطاع المصرفي من خلال المؤسسات المالية المملوكة للدولة وبرنامج خاص للحوافز المالية التي تهدف إلى رفع مكانة بوتسوانا كمركز مالي. يتم تخصيص الائتمان وفقا لشروط السوق وعلى الرغم من أن الحكومة تقدم قروضاً مدعومة، تواصل إصلاح المؤسسات المالية غير المصرفية في السنوات الأخيرة ولا سيما من خلال إنشاء وكالة للرقابة المالية التي توفر إشرافاً أكثر فعالية. ألغت الحكومة الرقابة على أسعار صرف العملات ومع إنشاء خيارات الاستثمار الجديدة في الحوافظ المالية، فإن بورصة الأسهم في بوتسوانا في نمو مستمر.

 

يحمل الكتاب رؤية إيجابية حول مستقبل نمو" اقتصادات دول الربيع العربي"، وذلك استنادا إلى الطاقات البشرية الهائلة التي تمتلكها تلك البلدان، والتي قد تمكنها من تحقيق أهداف التنمية الشاملة، والتغلب على التحديات التي تراكمت قبل الثورات، أو كنتيجة لها. ولكنه يرى أنّ التحدي الأكبر الذي يواجه مستقبل عمليات التنمية في هذه الدول يتمثل في درجة وعي الأنظمة السياسية بأهميّة بناء نظام ديمقراطي حقيقي، يكفل العدالة الاجتماعية، ويسعي لمحاربة الفساد وتقويضه على المستويات كافة. ووفقا لتيبرمان، لابد على دول الربيع العربي أن تتبنى سياسات عامة على المديين القصير والمتوسط، تواجه التضخم، والبطالة، في ظل العجز الحكومي، وسياسة السوق الحرة. أمّا على المدى الطويل، فلابد على هذه الدول أن تعمل على تحرير اقتصاداتها، وإطلاق روح المبادرات الفردية لدى الشباب، مع توفير التمويل اللازم لتحقيق أهداف التنمية. كما يجب على الحكومات أن تعمل وفق سياسات منحازة لمصالح الشعوب، ومستقبل الأجيال القادمة، وذلك من خلال توفير فرص العمل، وتنشيط القطاعات المنتجة محليا، ودعم القدرة على المنافسة، وهو ما يتطلب مزيدًا من المشروعات، خاصة الصغيرة، والمتوسطة، ومتناهية الصغر، التي تستوعب البطالة في هذه البلدان.

يركز الكاتب على القادة ذوي الكاريزما فيذكر الطريقة التي استخدمها الرئيس "الرواندي بول كاجامي" لقيادة شعبه نحو تحقيق ملحوظ للعدالة والمصالحة بعد مذبحة المليون "توتسي" من قبل أكثرية "الهوتو"، وكيف أصبحت إندونيسيا مكانا للتعايش السلمي اليوم بين الإسلام والديمقراطية والحداثة وحقوق المرأة، بدلا من تحولها إلى مسرح لصعود التطرف الإسلامي، يركز كتاب "الإصلاح" على تقديم حالة من الأمل، في ظل وضع سياسي واقتصادي واجتماعي يبدو قاتما ومتشائما. يقدم نماذج لقادة استطاعوا التغلب على الحواجز لأنهم كانوا على استعداد للتفكير "خارج الصندوق".

--------------------------------------------------------------------------------------

عنوان الكتاب: الإصلاح: كيف تنجو الأمم وتزدهر في عالم يتداعى؟

المؤلف: جوناثان تيبرمان

الناشر: New York: Tim Duggan Books, 2016

عدد الصفحات:307

اللغة: الإنجليزية

أخبار ذات صلة