عرض: حسام المغربي
تبادلت القوتان الاقتصاديتان الكبريان في العالم فرض رسوم جمركية على واردات بعضهما البعض بلغت قيمتها مئات مليارات الدولارات، ومع الوقت انتقل الصراع التجاري بين الصين والولايات المتحدة إلى "حرب تقنية"، وحاليا بدأت تطفو على السطح بوادر تحوّلها إلى "حرب عملات"، ما يعتبره محللون أزمة ستكلف الاقتصاد العالمي خسائر فادحة.
فدفع الصين إحياء طريق الحرير القديم (مبادرة الحزام والطريق) سيضاعف الصادرات الصينية بأضعاف ما هي عليه الآن، ويعني نجاح هذه المبادرة تراجعا حادا في تدفق الاستثمارات الأجنبية إلى الولايات المتحدة، ما سيعزز رغبة الإدارة الأمريكية في خفض أسعار الفائدة كون الاقتصاد الصيني هو المتضرّر الأكبر منها، وبالتالي قد تشتعل حرب عملات تلحق الضرر بمصالح البلدين الكبيرين والاقتصاد العالمي.
ولفهم طبيعة هذه الحرب التجارية وأبعادها، قد لا تكون الخبرةالتاريخية كافية،لأمر كذلك تفكيرا استراتيجيا جديدا على أساس مراجعة جولات سابقة من النزاعات التجارية.قد تكون الاحتكاكات التجارية بين الصين والولايات المتحدة تمهيدا لتغيير"القيادةالعالمية"،وإذاتمكّنت الصين منتنفيذ جولة جديدة من"الإصلاح والانفتاح"بنجاح،فستضع الأساس لمستقبل الأمة المشرق.
في كتابه "الاحتكاكات التجارية العالمية ـ صعود وسقوط الدول الكبرى" الصادرعن «دار الشعب للنشر» عام 2019، حاول المؤلف رن تسه بينغ، أحد أبرز علماء الاقتصاد الصينيين، فهم أحداث التاريخ والاستفادة من دروس الحرب الاقتصادية التي شنتها أمريكا ضد اليابان خلال 40 عاما من القرن الماضي في مواجهتها التكنولوجية المتصاعدة بين بكين وواشنطن.
ويرى المؤلف أنه رغم مواصلة الولايات المتحدة احتواء التنمية الاقتصادية والتطور التكنولوجي للصين، إلا أن امتلاك بكين لإمكانيات هائلة في السوق المحلية سيمكنها من معالجة الخلل في التوازن بين التنمية الاقتصادية والتكنولوجية، وكذلك تحقيق الاندماج في السوق العالمية من خلال تعاونها مع الدول الأوروبية، لتعويض ضغوط واشنطن.
ويعد المؤلف رن تسه بينغ المولود في عام 1979 والحاصل على درجة الدكتوراه في الاقتصاد من جامعة رنمين الصينية في بكين عام 2007، كبيرالاقتصاديين (نائب الرئيس) وعميد معهد مجموعة إيفرغراند، وزميل بعد الدكتوراه في كلية الاقتصاد والإدارة بجامعة تشينغ هوا. وتولى في السابق منصب نائب رئيس مكتب البحوث في إدارة دراسات الاقتصاد الكلي بمركزبحوث التنمية التابع لمجلس الدولة الصيني (مجلس الوزراء).
وقد سبق له كتابة العديد من العناوين التي تتناول الأوضاع الاقتصادية بشكل خاص منها "البحث في بنية الاقتصاد الكلي" و "من المعجزة إلى النضج.. تجربة التحوّل الكوري» و«الاتجاه الكبير..الاقتصاد والسياسة وأسواق رأس المال» و«دورة السوق العقارية" وحققت جميعها مبيعات قياسية في داخل الصين وخارجها.
كما قدّم رن تسه بينغ عددا كبيرا من وجهات النظرالأكاديمية منها على سبيل المثال «معدل نمو 5 بالمائة في العصر الجديد أفضل من 8 بالمائة» و«5000 نقطة في سوق أسهم من الفئة'A' ليس حلما» و«تضاعف أسعار عقارات مدن الدرجة الأولى الصينية» و«منحنى اقتصاد على شكل 'L'» و«دورة جديدة» وجميعها نالت تقديرا واسعا منقبلالسوق.
حجّة صراع الحضارات
في القسم الأول من كتابه "الاحتكاكات التجارية العالمية ـ صعود وسقوط الدول الكبرى" يسلّط رجل الاقتصاد رن تسه بينغ الضوء على الحروب التجارية خلال المائة عام الماضية، وأبرزها "الكساد الكبير" الذي بدأ بانهيار سوق الأسهم الأمريكية في أكتوبر 1929 لترفع واشنطن بعدها الرسوم الجمركية على الواردات ما أسفر عن هبوط حركة التجارة العالمية بنسبة 50% وزيادة معدل البطالة إلى 25% وقد استمر الركود من عام 1929 حتى منتصف أربعينيات القرن الماضي وتسبب في اندلاع الحرب العالمية الثانية؛ والحرب التجارية بين الولايات المتحدة واليابان التي بدأ تخمسينات القرن الماضي؛ والحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي بعد الحرب العالمية الثانية.
ويرى المؤلف أن مسميات مثل "صراع الحضارات" و" المواجهةالأيديولوجية لعقلية الحرب الباردة" جميعها مبررات وذرائع، والحقيقة وراء هذه الحروب التجارية هي المنافسة الاقتصادية وسياسة الاحتواء الاستراتيجي للقوى المهيمنة على القوى الناشئة.
وبأخذ الحرب التجارية بين الولايات المتحدة واليابان كمثال، فإنه من منتصف الخمسينيات وحتى أوائل تسعينيات القرن الماضي، تصاعدت حدة التنافسبين البلدين على الهيمنة الاقتصادية لتشعل حروبا تجارية شملت ست صناعات متمثّلة في المنسوجات (1957-1974)، والصلب (1968-1992)، والأجهزة المنزلية (1970-1980)، والسيارات (1981-1995)، والاتصالات (1981-1995)، وأشباه الموصلات (1978-1996)، لتنتقل تدريجيا إلى حرب مالية في سعر الصرف ثم حرب اقتصادية توسّعت من الصراع الصناعي إلى النزاعات في التنسيق الكلي والنظام الاقتصادي.
وكانت نتائج تلك الحرب التجارية، هي اختيار اليابان "طواعية" فرض قيودعلى صادراتها وتحديد حجم التجارة وقبول توسيع الواردات، بداية من إلغاء التعريفات المحلية (مثال/على السيارات)، وفتح الأسواق المحلية (مثال/ في قطاع الاتصالات السلكية واللاسلكية)، وفرض قيود على منتجات التصديرإلى الولايات المتحدة، وتعيين مؤشر حصة المنتجات الأمريكية في السوق اليابانية (مثال/ منتجات أشباه الموصلات). لتؤدي هذه الخطوات إلى اختيار مصنعي السيارات والأجهزة المنزلية اليابانية الاستثمار مباشرة في الولايات المتحدة من أجل تجنّب مخاطر التعريفات الجمركية المحلية وسعرالصرف، الأمرالذي تسبب بعد ذلك في ظهور احتكاكات في الاستثمار.
ويمكن القول إن نهاية الحرب التجارية اليابانية الأمريكية كانت "ضعف" قوةالأولى بشكل كبير أمام الهيمنة الأمريكية. وقد خلقت هذه الحرب التجارية "متاهة العشرين عام" لدولة اليابان، وحفاظ الولايات المتحدة على الهيمنة الاقتصادية العالمية دون علاج حقيقي لاختلالاتها التجارية.
سبع نقاط لحل جذري
في القسم الثاني من كتابه، يقدّم رن تسه بينغ مجموعة كبيرة من البيانات والجداول لعرض أحوال الاختلال التجاري بين الصين والولايات المتحدة، وطرح حل جذري للاحتكاك والاختلالالت جاري بين الدولتين. وقال رن، النائب السابق لمديرمكتب البحوث في إدارة دراسات الاقتصاد الكلي بمركز بحوث التنمية التابع لمجلس الدولة الصيني (مجلس الوزراء)، إن السبب المباشرللاحتكاك التجاري بين الصين والولايات المتحدة هوالفائض التجاري الضخم بين الدولتين، حيث تحاول إدارة ترامب فتح السوق الصينية بشكل أكبر أمام البضائع الأمريكية، وخفض صادرات بكين للولايات المتحدة من خلال التصعيد من حدّة الاحتكاكات التجارية وزيادة التعريفات الجمركية لتحقيق هدف "أمريكا أولا" و"جعل الولايات المتحدة قوية من جديد".
ولخص المؤلف أسباب الاختلال التجاري بين الصين والولايات المتحدة في سبع نقاط رئيسة، والتي لا يمكن حلها من خلال الركون إلى زيادة التعريفة الجمركية على البضائع الصينية، وهي:
1) المشاركة في سلسلة القيمة العالمية تسبب في أن تكون المنتجات مصدرها الصين لكن قيمتها المضافة تعود إلى دول أوروبا والولايات المتحدة، ما يعني أن "الفائض" في الصين و"المصالح" تصب في أوروبا والولايات المتحدة. لذلك يمكن القول إن نظام المحاسبة التقليدي يبالغ في تقديرالفائض التجاري بين الصينوالولايات المتحدة.
2) مكانةالدولارالأمريكيكعملةاحتياطيةدوليةتتطلّبحتماالإبقاء على العجزالتجاريلضخ الدولارالأمريكيوتوفيرسيولةدولية (معضلة تريفين).
3) الدولارالأمريكي كعملة احتياط رئيسية يمنح الولايات المتحدة امتيازا للحصول على سلع وموارد الدول الأخرى من خلال بيع العملة إلى الحكومات الأجنبية وإصدار السندات الاحتياطية المقوّمة بالعملة دون تقييد، ما سيؤدي حتما إلى ظهور عجز هائل في المشاريع التجارية وفائض ضخم في مشاريع تمويل رأسال المال. وبالتالي، فإن الامتياز الفائق للدولار يعادل فرض ضريبة العملة على البلدان الأجنبية للحفاظ على نظامها المهيمن.
4) تراجع المدخرات والاستهلاك العالي في الولايات المتحدة يؤدي حتما إلى خلق عجز تجاري خارجي ضخم، والأسباب الكامنة وراء ذلك هي نظام الرفاهية المرتفع وبيئة أسعارالفائدة المنخفضة والهيمنة المالية للدولار الأمريكي.
5)يوفرالفرق الهائل في تكلفة العمالة بين الصين والولايات المتحدة الميزة النسبية للصين في الصناعات التحويلية" المنخفضة المستوى" في ظل الحظر الذي تفرضه الولايات المتحدة على صادراتها من التكنولوجيا الفائقة إلى الصين. ومن ناحية أخرى، يمثل قطاع الصناعات التحويلية في الولايات المتحدة 18.8% فقط، بينما تشكّل صناعة الخدمات 80%، ويعني الهيكل الصناعي للولايات المتحدة هذا أن حجم الإنتاج لا يمكنه تلبية الطلب المحلي المتزايد ويتطلّب حجم واردات كبير.
6) تمثّل التكنولوجيا المتقدمة دعامة أساسية في استراتيجية الأمن القومي الأمريكي وليست مجرّد عملية منافسة في السوق، ومع تشديد القيود على تصديرها للصين سجّل عجز الولايات المتحدة في هذا القطاع أكثرمن 30%من إجمالي عجزها التجاري مع الصين، في حين تشهد الولايات المتحدة فائضا في صادراتها من التكنولوجيا الفائقة إلى بلدان أخرى.
7) حققت مؤسسات التمويل الأجنبي حجم تصدير ضخما، وساهمت بنسبة 57% من الفائض التجاري للصين، وتعد المؤسسات ذات التمويل الأمريكي المستفيد الأكثر حظا من حركة التجارة، ولاتستطيع الولايات المتحدة إلقاء اللوم على الصين بينما تجني الفوائد منها.
ويرى المؤلف أنه بدون معالجة هذه الأسباب فإنه حتى لو تم تخفيض العجزالتجاري مع الصين من جانب واحد، فسوف يستمرالعجز في التجارة الخارجية للولايات المتحدة؛ وما سيحدث هو نقل هذا العجز مع الصين إلى الهند أوفيتنام، تماما مثل الحرب التجارية بين الولايات المتحدة واليابان في الثمانيات من القرن الماضي التي حوّلت العجز من اليابان إلى الصين وألمانيا.
خطة النقاط الست الشاملة
استنادا إلى الحقائق، يلخص المحلل السياسي المرموق في الجزء الأخير من كتابه (قوانين صعود وسقوط الدول الكبرى)، ويقدم اقتراحات للصين لمواجهة الاحتكاك التجاري مع الولايات المتحدة وتعزيز قوتها. حيث يشير إلى أن تغييرات الهيكل الاقتصادي العالمي ستؤدي قريبا إلى"تعديل نسق الحوكمة العالمية".
وأوضح رن تسه بينغ إلى أن المكانة النسبية لبلدان"الدرجة الأولى في الشؤون العالمية" تتغيّر على الدوام، ويرجع ذلك إما إلى الانخراط في صراع عسكري أو المنافسة في التنمية الاقتصادية، في حين يكون لعوامل مثل معدلات النمو الوطني والاختراقات التكنولوجية والتغيّرات التنظيمية دور هام في صعود وسقوط الدول الكبرى.
وإذا كان نسق الحوكمة العالمي في القرن الحادي والعشرين يتحرّك نحو التعدّدية القطبية، فإن هذا التحوّل يبدأ من الهيكل الاقتصادي في وقت لاتزال فيه الولايات المتحدة تهيمن على الشقين السياسي والعسكري.
ومع ذلك، فإن تجاربالتاريخ تخبرنا أنه إذا انحسرت فجوة القوة الاقتصادية العالمية، فستتسبب قريبا في تعديل الهيكل السياسي العالمي، والفرق الوحيد هو ما إذاكان هذا التعديل في شكل حربأوسلام.
فمن الهيمنة البحرية لكل من بريطانيا وإسبانيا، إلى الحربين العالميتين، إلى الحرب الباردة ثم اتفاق بلازا، كانت جميع هذه الحروب تمثّل كفاحا من أجل النضال العسكري والسباق على فرض الهيمنة الاقتصادية. وبعدد خول العصر النووي،أصبح منغيرالمرجح وقوع "حرب انتحارية" بين قوى العالم الكبرى، بل زادت حدة التنافس على نطاق أوسع في مجالات التجارة والتمويل ومواردالطاقة والتأثير في المنظمات الإقليمية والجغرافياالسياسية.
وبالنسبة للصين، يرى رن تسه بينغ أن الصين تواجه جملة من الفرص والتحديات كونها ثاني أقوى اقتصاد عالمي وأكبر دول العالم سكانا، وتزايد أهميتها على المسرح الدولي، ووضعها كواحدة من الدول الخمس الكبرى في مجلس الأمن.هذا مع الأخذ في الاعتبار، اختلاف النظام السياسي في كل من الصين والولايات المتحدة.
وأوضح رن أنه يتوجب على الصين فهم أن "الهيمنةالخارجية"هيامتدادمباشر لـ"القوةالداخلية"، لذلك فإن أفضل رد على التحديات بما فيها الاحتكاك التجاري مع الولايات المتحدة هو تنفيذ جولة جديدة من "الإصلاح والانفتاح" بتصميم وشجاعة أكبر.
واقترح الكاتب خطة من ست نقاط لتجاوز التحديات انطلاقا من دروس الحروب الاقتصادية عبر التاريخ، وهي:
1) الدفع بثباتنحو جولةجديدةمن"الإصلاحوالانفتاح"وتحسينمناخ الأعمال؛ما يلبى تطلعات الشعب الصيني للتنمية والابتكار وحياة أفضل، ويتوافق مع الاتجاه العالمي نحو التنمية والتعاون والسلام.
2) تعزيزالتنمية عالية الجودة وتشجيع التحديث الصناعي، وترسيخ موقع الصين في مشاركة سلسلة القيمةالعالمية.
3) رفع رغبة الاستهلاك بين أبناء الشعب من خلال خفض الضرائب وتحسين الضمان الاجتماعي، ودفعجهود تخفيف حدة الفقر وتعديل توزيع الدخل؛ ما يصب في صالح تعديل الهيكل الاقتصادي للبلاد.
4) مواصلة تطويرمبادرة "الحزام والطريق" بالتعاون مع الاتحادالأوروبيودول آسياوأفريقيا.
5) صياغة استراتيجية وطنية جديدة لخلق وضع استراتيجي طويلالأجل يفيد الصين في مواجهة تطوّرالوضعالسياسيوالاقتصاديفيالمستقبلوتغييرالقيادةالعالمية.
6) مواصلة تعزيز تدوي لالعملة الوطنية "الرنمينبي"، حيث يعتبر بروز "الرنمينبي" كعملة رسمية في أكتوبر 2016 بإدراجه ضمن سلة عملات الاحتياط أبرز تغيير رئيسي خلال الأعوام العشرين الماضية، ويواصل اكتساب المزيد من النفوذ إلا أن حصته الحالية لا تصل إلى 2% من احتياطيات النقد الأجنبي للبنوك المركزية في المرتبة الخامسة لترتيب العملات العالمية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عنوان الكتاب: الاحتكاكات التجارية العالمية ـ صعود وسقوط الدول الكبرى
المؤلف: رن تسه بينغ
الصفحات: 300
الناشر:دار الشعب للنشر
سنة النشر: أغسطس 2019
اللغة: الصينية
