واقع التحولات الديموغرافية في أوروبا

عاطفة المسكريَّة

في العقود الأخيرة، شهدتْ أوروبا تحوُّلات تَمَس التركيبة الاجتماعية لسكانها نتيجة هجرة أعداد كبيرة من سكان الدول الأخرى إليها.. هذا التزايد في أعداد المهاجرين أدَّى لتغيُّر الظروف فيها؛ حيث إنَّ هؤلاء المهاجرين جاءوا من خلفيات تعكس ثقافات وعقائد مُختلفة، حاملين فلسفة اجتماعية تختلف بشكل كلي عن تلك المتعارف عليها في المجتمعات الأوروبية. وما يُسلِّط الضَّوء على هذه التحولات هو التغييرات التي بدأت تظهر بعد الحرب العالمية الثانية بالتحديد؛ حيث شهدت انخفاضا في أعداد المواليد نتيجة تغيُّر نمط وطبيعة الحياة الأوروبية، إضافة للتوسع الاقتصادي فيها.

هذه الأحداث جعلت ْ بعض الدول الأوروبية تبحث عن طرق لتعويض النقص الناتج عن انخفاض أعداد المواليد بأقل ضرر ممكن. فالتفتتْ إلى دول تستمد منها القوى العاملة؛ حيث كان بعضٌ منها مُستعمرات أوروبية في السابق، أدت التوترات التي حصلت فيها إلى هجرة سكانها. لامست هذه الأحداث المسلمين من عدة دول في العقود الأخيرة، حتى انتهى بهم الأمر بالاستقرار فيها.

وفي هذا السياق، يُناقش الكاتب التونسي والمتخصِّص في علم الأديان عز الدين عناية تجربة الإسلام في أوروبا، في مقاله المنشور بمجلة "التسامح"- بعنوان "الغربة والاغتراب والتغريب: تجربة الإسلام في أوروبا بين التفاهم والمخاصمة"؛ حيث يطرح مسألة تغير الظروف المرتبطة بهجرة المسلمين تحديدا إلى أوروبا.

واللافت أنَّ تزايد أعدادهم عبر السنين وانخراطهم في هذه المجتمعات يفرض الواقع الذي سيتحتم عليه قبولهم وقبول مطالبهم التي ستغدو مع الأيام مطالب مواطنين ينتمون لتلك الدول بشكل كلي. وما يثبت ذلك أنَّهم أصبحوا أحرص من ذي قبل على معتقداتهم الدينية، بل وإبرازها عن طريق ممارسة الشعائر علنا. هذا التأكيد لحضورهم الديني يندرج تحت إطار الهوية التي أصبحت حاضرة بشكل أوضح بعد ثمانينيات القرن العشرين.

ويشكِّل هذا الأمر تحديا للأطروحات اليمينية المحافظة في الدول الأوروبية، والتي تشدد على استمرارية الفصل ما بين المواطنين والمهاجرين بكل ما يحملونه من اختلافات، والتي من وجهة نظر البعض منهم غير قابلة للدمج. وعلى العكس من ذلك، ففي الدول التي تميل للعلمانية؛ حيث إنَّها أكثر تقبلا لذلك؛ إيمانا بأهمية صون الحريات، فنجد دولا مثل بريطانيا أو الدول الإسكندنافية ترتبط فيها الكنيسة بالدولة، وتختص بأمور مثل تعيين الأساقفة، إضافة إلى ميلها نحو التحكم بالمجتمعات بطرق غير مباشرة؛ مثل: إنشاء عقيدة اجتماعية خاصة ترتبط بالكنيسة. ومن هذا المنطلق، حاولت الجماعات الكاثوليكية المحافظة على حضورها الأساسي في المجتمعات الأوروبية عن طريق رفضها لمزاحمة الحضور الإسلامي. ولتحقيق ذلك، اتَّبعت طرق الترويع من الآخر، لكن كل المساعي باءت بالفشل في ذلك؛ حيث غدت مطالبهم واقعا لا مفر منه. إلا أنَّ هذه المطالب وإن كانت في الدول العلمانية فلن تقبل إلا بموافقة الطرفين: الدولة العلمانية والفاتيكان كذلك. يتجلى ذلك في مساجد المسلمين بإيطاليا. وتحديدا مسجديْ روما وميلانو اللذين يعدان أشهر المساجد في إيطاليا؛ حيث تطلَّب بناؤهما موافقة الفاتيكان بجانب الدولة. وتحتوي إيطاليا على مساجد أخرى في مناطق مختلفة، إلا أنها لا تُعد دور عبادة رسمية أو معترفا بها نتيجة غياب موافقة أحد الطرفين. عندما تتحدث الكنائس في هذه الدول، فإنها تتحدث بالنيابة عن المجتمع ككل دون تجزئة أو مراعاة الذين ينتمون لعقائد أخرى. وحتى في الخدمات العامة التي تُقدِّمها الدولة، نجد مثل هذه الأمور حاضرة. وتعد المدارس خَيْر نموذج على ذلك؛ حيث يدرس الدين كمنهج مُعتمد للأجيال الناشئة في المدارس العمومية، ومع ذلك لا يتم مُراعاة الطلاب الذين ينتمون للديانات الأخرى؛ حيث إنَّه تمَّ رفض تحويل ساعة الدين تلك لتتوافق مع واقع اختلاف الأديان في تلك المجتمعات، ويعدُّ ذلك رفضا للآخر الديني أو محاولة لاستبعاده. وعلى كلٍّ يختلف ذلك من دولة لأخرى في أواسط أوروبا، كلٍّ بما يتوافق وتاريخه وسياساته في التعامل مع واقع التغيير الحاصل في النسيج الاجتماعي.

وتعدُّ إسبانيا مِثَالا مختلفا؛ حيث إنَّ لها مُبرِّرات تاريخية معروفة لتعترف بالإسلام، ينعكس هذا على دستورها الذي ينصُّ على احترام وصون الديانات، ويشمل ذلك الإسلام والمسلمين؛ كونهم لعبوا دورا في تشكيل الهوية الإسبانية عبر التاريخ. وعلى الرَّغم من كلِّ ذلك، لا يمكن نفي استمرارية صراع الهويات الذي يظهر على هيئة سلوكيات اجتماعية لا تزال قائمة. ويُشكِّل المسلمون هاجسا لدى الأوروبيين إلى اليوم بسبب تزايدهم؛ وذلك جعل منهم عاملا حاسما في تشكيل هوية أوروبا في المستقبل القريب. ونتيجة لذلك، يُحاول مسلمو أوروبا التعايش بعيدا عن هذه الصراعات بتقديم أنفسهم على أنهم معتدلون أو علمانيون كي لا ينظر إليهم بنظرة المتطرفين تلك. ويذكر الكاتب عزالدين عناية في مقاله مِثَالا على ذلك؛ حيث إنَّ العوائل المسلمة في الدول الأوروبية تميل لتسمية الفتيات باسم "سارا"، عِوَضا عن بعض الأسماء مثل "فاطمة"، والتي تشير بشكل ما لهوية حاملة هذا الاسم. أيضا تعاني النساء المسلمات المحجبات تحديدا من النفور في المجتمعات الوظيفية، قبل أن تبدأ نداءات التسامح والانفتاح على الآخر بالانتشار مؤخرا. غالبا ما تجد النساء المحجبات أنفسهن في أدنى السلم الوظيفي أو في مناصب غير مؤثرة؛ حيث إنَّ هناك توجُّها عامًّا بإبعادهن عن المناصب المرتبطة بصنع القرار. فالنظرة التي يُنْظَر بها إلى المسلمين غالبا ترتبط بكونهم راديكاليين ميالين نحو التطرف. ربما تكمن المشكلة في ذلك في أن بعض حاملي الهوية الإسلامية فشلوا في خلق كيان خاص بهم يتماشى مع مُجتمعات الدول التي يعيشون فيها؛ وذلك لا يعني بالضرورة مُعارضة أو مُخالفة الأساسيات التي بُنيت عليها عقائدهم، إنما تجنب التبعية التي اعتمدتها المجتمعات المسلمة دون مراعاة الفروق الاجتماعية في البلدان التي عاشوا فيها. ومع ذلك، من المهم أنْ نُشير إلى التقارب بين الإسلام والمسيحية في الكثير من القيم؛ وذلك يعني أنَّ احتمالية التوافق بينهما أكبر، وذلك ما يجب أن يركز عليه صُنَّاع القرار والأشخاص المؤثرون في هذه المجتمعات. إذ إنَّ الاختلافات من المفترض أن يتم استغلالها كمصدر غِنَى وإبداع، عوضا عن جعلها هاجسَ خوف لدى الدول والمؤسسات الدينية. وفي هذا النطاق، من الجدير بالذكر قضية انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي مثلا؛ حيث يُشكِّل "الإسلاموفوبيا" سببًا من عِدَّة أسباب تَحُوْل بين الانضمام التركي لهذه المنظومة، رغم المكانة التي تمتاز بها هذه الدولة.

أخبار ذات صلة