منظومة المواطنة المعاصرة في العقل التواصلي عند هابرماس

أم كلثوم الفارسي

يُقدِّم لنا الكاتب مُحسن الخوني وجبة فكرية دسمة فيما طَرَحه من أفكار تناولت نظرية العقل التواصلي عند هابرماس، مُفجِّرا تساؤلا عريضا حول إمكانية تناغم النضالات الجماعية من أجل الاعتراف بالنظرية الفردانية للحقوق، هذا السؤال يدعو للبحث في العلاقة بين البُعد الشَّخصي الذي أقرَّه القانونُ الوضعيُّ الحديث والبُعد الجماعي للاعتراف بحقوق الجماعات إثر الصراعات البورجوازية والعمَّالية. ويخفي هذا السؤال نزاعا بين سياسة القيم الذاتية، وسياسة تعطي الأولوية للخصوصيات الجماعية.

إنَّ التواصل الاجتماعي الذي يدور في مجالات الواقع الأخلاقي والسياسي والاقتصادي بين الأطراف المعنيين، يتعرَّض لعراقيل تفسِّر وجود أزمة تعيشها المجتمعات الرأسمالية الغربية منذ العصر الحديث. وهذه الأزمة متعددة الوجوه أدت ببعض الفلسفات لبلورة نزعات تشاؤمية رسختها الأحداث التي انزلقت فيها المجتمعات المعاصرة عبر حروب دامية وتطهير عرقي، ومزيد من الحيف في توزيع الثروات وصعود أنظمة توتاليتارية. وقد انعكسَ ذلك في تصاعد يئس من تحقُّق المشروع التنويري تجسَّد في الكثير من النصوص؛ ومن بينها تلك الكتابات الدائرة في فلك جدلية التنوير لهوركهايمر وأدورنو.

وفي مقابل ذلك، يتنزل مشروع هابرماس الفلسفي في إطار البحث عن مخرج من الأزمة عن طريق صياغة نظرية تقوم على مبدأ التواصل؛ لذلك يبقى في منزلة المعيار الذي نقيس به مدى معقولية التواصل بين الذوات في المجالات التي تكون فيها الحرية والاستقلالية هي الرهان، وفي مقدمتها الأخلاق والسياسة.

وتجدُر الاشارة إلى أنَّ فلسفة التواصل تقوم على مسلمة أخلاقية سهلة عبَّرت عنها فلسفة كانط بكل وضوح، مفادها: أنَّ الناس -سواء أكانوا أفرادا أم جماعات- كائنات لا يمكن اختزالها في مجرد وسائل؛ إنها غاية، وكل تعامل بين الناس يُسقط هذا المعطى لا يُعَد تواصلا بالمعنى الأصلي للكلمة، ويُدرَج ضمن المعوقات. لذلك ترث فلسفة التواصل من الفلسفة الحديثة الطاقة النقدية لمؤسسات المجتمع والدولة؛ لغاية العمل على ترسيخ قيم الديمقراطية الجذرية في دولة الحقوق، وفق نموذج التفاهم البينذاتي.

فالدولة الليبرالية الحديثة نَشَأت على أساس نموذج تعاقدي يلغي الاختلافات الخصوصية، أو يرتقي بها إلى مستوى الوحدة التأليفية للإرادات الفردية؛ لكن شهدت الفترة الفاصلة بين عصر هيجل والحقبة الراهنة -في العالم الغربي- تطورات اجتماعية وسياسية بلغ صداها إلى الفلسفة. ودون ادعاء إحصاء لهذه التطورات يمكن الإشارة إلى الطبقية كظاهرة جعلت منها كتابات ماركس مثلا مرجعا أساسيا لتشخيص أزمة الدولة الحديثة التي بدت قائمة على هيمنة فاقدة للمشروعية واستغلال فاحش من قبل بعض الفئات (الرأسماليين) لبعضهم الآخر (العمال والمهمشين).

وتمثِّل الهجرة الجماعية إلى الدولة الغربية المعاصرة مُعطى تُطرح فيه مسألة الأقليات المتشبثة بأنماط عيشها الأصلية وقيمها التي ورثتها من تقاليدها، والتي تجد صعوبة في الاعتراف بها داخل الدول المستقبلة لهم، ويتعلق هذا المثال بالفرنسيين من أصول مغاربية أو الألمان من أصول تركية أو أيضا الأمريكيين من أصل آسيوي أو إفريقي أو هندي.

كما ينمي التمييز العنصري على أساس اللون أو الجنس أو المنحدر الإثني للأفراد أو المعتقد مظاهرَ سلبية تضعف الاندماج الاجتماعي بين المجموعات الخصوصية.

فهابرماس يسعى لتحرير الفكر الإنساني من الذاتية، أو ما يسمى بالتمركز حول الذات، مُسخِّراً لذلك كل ما لديه من علوم الفلسفة واللسانيات الحديثة، والحداثة لدى يورغان هابرماس تعلن عن نفسها في الدولة القائمة على القانون أو المؤسسات الديمقراطية من برلمانات والمجتمع المدني...إلخ. على أنْ يترافق ذلك بمستوى عال من التقدُّم في المحاور الفكرية والسياسية؛ لذلك تلعب المُثل العليا المتبلورة في مفاهيم التفاهم والتواصل بين الذوات والاعتراف بالذات الفردية معايير تستعملها النظرية النقدية لتدل على الطريق المؤدية لعقلنة المجتمع عقلنة غير مشوهة؛ وذلك في مُختلف مجالات الحياة الاجتماعية من الاقتصاد للسياسة، ومن القوانين إلى الأخلاق.

إنَّ الهاجسَ الأكبرَ للفيلسوف الألماني يورغن هابرماس هو إعادة بناء نسق الحقوق ومنظومة المواطنة المعاصرة؛ بحيث يخلصها من القيمة الاستعمالية، ويمنحها قيمة تداولية، ويتجاوز الهوة التي تفصل الملكية الخاصة مع حرية المجتمعات، ويتخطى التوتر القائم بين حقوق الإنسان وسيادة الشعوب.

من المفروض إذن أنْ تحدد قيمة المواطنة الشروط الأنثربولوجية للحياة السياسية الديمقراطية، وتضغط على توجه كل حياة مدنية ممكنة نحو العيش المشترك واحترام التعددية، وتؤسِّس بطريقة جذرية انتماء الفرد إلى جماعة سياسية معينة، وتضع الحق والأخلاق والسياسة في الواجهة التمهيدية لكل فضاء مجتمعي.

وبهذا، استطاع هابرماس أنْ يقيم مزاوجة بين عالم اللغة وعالم الموجودات، فكلما كانت اللغة صادقة ودقيقة، تحقق التعايش بين الذوات على أرض الواقع. إذن؛ فمقولة الفعل التواصلي تحقق تفاعلا رمزيا، هذا التفاعل يكون حسب معايير صالحة إلزاميا تحدد توقعات وسلوكيات متبادلة يجب أن تفهم ويعترف بها من قبل ذاتين فاعلتين على أقل تقدير، والمعايير الاجتماعية تزداد قوة من خلال التوافقات على معناها بتموضع في التواصل عبر اللغة المتبادلة، في حين تتعلق صلاحية القواعد التقنية والإستراتيجيات بصلاحية القضايا الصحيحة تجريبيا والدقيقة تحليليا. أما صلاحية المعايير الاجتماعية، فهي تتجسَّد فقط في مشاركة التفاهم حول المقاصد، وتتأكد عبر الاعتراف العام بالالتزامات.

والحقُّ أنَّ نموذج هابرماس يعطي مفاهيم الفضاء العمومي السياسي وبنيته التحتية والمجتمع المدني معاني إستراتيجية، ويجعلهما يضمنان الالتقاء بين المواطنين ويقوي لديهم تجارب الاندماج والاستقلالية.

إنَّ الفكرَ النيِّر والرؤية الثاقبة التي تميَّز بها فكر هابرماس خوله نقدَ مشروع الحداثة وتصحيح مساره، وفرض نظام من البدائل في الخطاب الفلسفي المعاصر ينشد الحوار والتواصل بين جميع الذوات والطوائف. وهي دعوة إذن من الفيلسوف وعالم الاجتماع المعاصر يورغن هابرماس لإحلال ثقافة الحوار والتعايش والتواصل بين جميع الفئات والطوائف، في عصر كثُرت فيه الطائفية والطبقية، وتباين الأيديولوجيات. فما أحوجنا إذن لفكر مُختلف يُؤمن بالكونية والعالمية، ويجعل الحوار سلوكا اجتماعيا يوميا ونمط معيشة وطريقة تفكير.

أخبار ذات صلة