هند الحضرميَّة
لقد استطاعتْ الولايات المتحدة الأمريكية، منذ القرن العشرين، أن تُثبت للعالم أجمع أنها القوَّة العظمى، القوة القادرة على إيجاد الحلول لمشكلاته وأزماته. ومنذ أن اضطلعت الولايات المتحدة بهذا الدور، وتبني سياساتها فكرة الهيمنة على الدول الأخرى من خلال قواها العسكرية والاقتصادية، ظهرت آراء مختلفة حول هذه الإمبريالية الأمريكية بين منكِر لوجودها، ومبرِّر لها، وبَيْن مُندِّد لها. وقد تحدث رضوان السيد في مقاله المعنون بـ"بعض الإدراكات العربية للعلاقات مع الولايات المتحدة" -والمنشور بمجلة "التسامح"- عن ذلك التغيُّر الذي طرأ على الإدراك العربي نحو الولايات المتحدة.
وَيَرى رضوان أنَّ هناك ثلاث طرق أو مقاربات تمكِّننا من فهم طبيعة العلاقات العربية الأمريكية خلال العقود الخمسة الماضية؛ أول هذه الطرق: الطريقة التاريخية الجيوإستراتيجية؛ فبالعودة إلى الوقائع التاريخية، نجد الإدراك العربي بشكل عام نحو الولايات المتحدة بأنها الدولة الأعظم وأرض الفرص والهجرة والغنى السريع، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية، عندما بدأت أمريكا تمارس نفوذها في العالم بشكل عام وفي الشرق الأوسط بشكل خاص. ولابد هنا من الإشارة إلى الفترة التي امتدَّت ما بين الخمسينيات وأواخر الثمانينيات من القرن الماضي، والحرب الباردة التي نشبت بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، فقد قامت في بداية تلك الفترة دولة إسرائيل على أرض فلسطين، وشهدت في نهايتها الحرب الأولى على العراق، وما بين الحدثيْن كان هناك اصطفاف عربي واسلامي تحت مظلة القطبين المتنازعين؛ إذ كسب الاتحاد بعض الأنظمة العربية والإسلامية الثورية، وكسبت الولايات المتحدة أنظمة أخرى؛ من بينها: دول الجزيرة وإيران وباكستان.
وقد كانت أولوية أمريكا في تلك الفترة هي محاربة الشيوعية والاتحاد السوفييتي في الفكر والعسكر والسياسات، وقد بدأتْ الكفة تميل لصالحها بعد أواسط السبعينيات لعدة أسباب؛ من بينها: أن معظم الدول العربية -حتى الأنظمة الثورية- أقبلت على إقامة علاقات متوازنة مع كلا الطرفين، وبثقل أكبر مع أمريكا، لشعور تلك الأنظمة بالعجز عن مصارعة إسرائيل واعتقادها بأن أمريكا لديها المقدرة على التأثير على الكيان الصهيوني، إضافة إلى تردُّد السياسات الروسية واضطرابها في بعض الأحيان، مع استمرار صرامة السياسات الأمريكية وتصارعها في المنطقة، خاصة صراع الطرفين على أفغانستان.
ومنذ انهيار الاتحاد السوفييتي مطلع التسعينيات وحتى أواخر 2009، بزغت فترة الهيمنة الأمريكية، وبدأت هذه الفترة بالحرب الأولى على العراق واستمرت حتى الحرب الثانية على العراق، واندلاع الحرب المستمرة على ما أسمته الولايات المتحدة بـ "الإرهاب الإسلامي" الذي مثَّلته القاعدة أو السلفية الجهادية ذات القيادة العربية.
ولفهم هذه المقاربة، لابد من التطرُّق للمقاربة الثانية التي ذكرها رضوان؛ وهي ما أسماه بـ"المحطات الفاصلة"، وأولى هذه المحطات: قيام الدولة الإسرائيلية في قلب الوطن العربي عام 1948، وكان لا يزال في الإدراك العربي أنَّ الولايات المتحدة لا تتحمل المسؤولية الرئيسية عن قيامها في المشرق العربي. أما المحطة الثانية، فهي: ازدياد هذا الإدراك إيجابيا بعد حرب 1956 التي قامت في مصر والتي شنتها بريطانيا وفرنسا وإسرائيل، وتدخل الولايات المتحدة لإيقاف هذا الهجوم وسحب الجيوش من مصر. وتجلَّت المحطة الثالثة في حربي 1967 و1973، وفي هذه الفترة دخل في الإدراك العربي -لأول مرة- أنَّ أمريكا لا تقف موقفا محايدا، ولا تسعى للتسوية العادلة للمشكلة الأكبر في نظر العرب فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية ووجود الكيان الصهيوني، وقد كانت هذه المحطة فاصلة؛ لأنَّ الجيوش العربية بعد 1973 تنازلت عن زمام الصراع مع إسرائيل وحيَّدت الجيوش العربية نفسها، وقد تسلمت الحركات الثورية الفلسطينية زِمَام الكفاح بقرار من الجامعة العربية، ولا يزال هذا الأمر على هذا النحو حتى اليوم!
حِيَاد الجيوش العربية أثر على رأي الجمهور العربي، الذي اندفع باتجاه تلك الحركات، كما أثر على احترامه لتلك الأنظمة، وقد أدْرَك الجمهور العربي أن الحل العادل للقضية لا يأتي إلا من تلك الحركات بعد أن أظهرت الدول العربية عجزها، وبعد أنْ أعرض النظام الدولي -بزعامة أمريكا- عن تنفيذ القرارات المتعلقة بهذه القضية.
أمَّا المحطة الرابعة، والتي أثَّرت سلبا على الإدراك العربي للولايات المتحدة، فهي الحربان على العراق، والأولوية التي أعطتها أمريكا لما تسميه بالإرهاب، ويمكن ربط هذه المحطة بالمقاربة التاريخية التي تمت الإشارة لها آنفاً، ففي الحرب الباردة كانت إسرائيل قطبا في الأولوية التي اهتمت بها أمريكا وهي محاربة الشيوعية، وفي حقبة الهيمنة الأمريكية صار أمن إسرائيل جزءا من أمن الغرب وأمريكا، وصار الإسلام وليس العرب فقط مجالا للتشكيك والهجوم.
أمَّا المقاربة الثالثة، والتي أشار إليها رضوان، فهي الرُّؤى والنظرات المتبادلة بين المثقفين على وجه التحديد، ويرى أنَّ الكثير من المثقفين العرب يفصلون بين أمريكا وبين السياسات الإسرائيلية، ولا يزال الكثيرون يرون أنَّ الديمقراطية الأمريكية ذات أوجه متعددة وليست ذات وجه واحد، وأنَّه لا يجوز اختزال أمريكا بشعبها وحرياتها ودورها في حاضر العالم ومستقبله في مجرد قوة عسكرية أداة للسطوة الإسرائيلية في منطقتنا. ولكن هذا ما حدث خلال العقد الأول من القرن الواحد والعشرين؛ لأنها لم تفعل إلا هذين الأمرين، ويرى رضوان أنَّ الحضورَ الأمريكي الطاغي وتأثيره في المنطقة كان له دور في هذه النظرة العربية المختزلة لأمريكا -ثقافةً ومجتمعاً ونظاماً- فحرب أمريكا على العراق واصطفاف الشعب الأمريكي وراء جورج بوش، تركا انطباعًا لدى الوعي العربي حول العلاقة بين الدولة الأمريكية والمجتمع من جهة والدولة والدين، وحول النظرة الأمريكية للعرب والإسلام والمسلمين.
وقد أثارت الحربُ على العراق الكثيرَ من الجدل والكثيرَ من النقاش حول موضوع "الحرب العادلة"؛ فكيف تستطيع أمريكا شن حرب على دولة أخرى ما اعتدت عليها ولا أضرت بمصالحها المباشرة؟ رغم ما ترتب على تلك الحرب من خسائر بشرية هائلة، فمن يتحمَّل المسؤولية؟
فإذا كان هناك مُبرِّر لحرب أمريكا على أفغانستان، وأنها جاءت كردة فعل إزاء هجوم القاعدة؛ أي أنها "حرب دفاعية"؛ وبالتالي هي في نظرهم عادلة باعتبارهم القاعدة معتدية، رغم أنَّ تشومسكي في هذا الشأن طرح تساؤلا مفاده: هل كان التدخُّل العسكري ضروريًّا في أفغانستان؟ مُوْرِدا رأي القائد الأفغاني المُعارض لطالبان "عبدالحق" أنَّ الولايات المتحدة ربما كانت "تحاول فقط إظهار عضلاتها، وتسجيل انتصارٍ يخيف الجميع في أنحاء العالم، بلا اكتراث لمعاناة الأفغان، وكم منهم سيموت"، ثم ماذا عن العراق وفلسطين؟!! بالتأكيد الأمر مختلف، فليس له مبرر عادل ألبتة.
كانت أمريكا منذ ظهور دستورها تملك في نظر نفسها وشعبها رسالة تجاه الآخرين، لكن كيف للعربي أن يؤمن بهذه الرسالة وهو يرى نتائجها في فلسطين والعراق وغيرها من شعوب المنطقة بتدخلاتها المختلفة؟! وهي تريد أن تضيف إلى فضائلها أنها تريد حمايتنا من إيران!
وربما حان الوقت لكي يجدد المثقفون دورهم في إحقاق العدالة.. وكما قال الروائي الإفريقي كوتزي: "دور المثقف الأخلاقي يكمُن في تحسين أوضاع عالمنا، وإيقاف التدهور إن استطاع إلى ذلك سبيلا". ولعلَّ في الثورة الفرنسية مثالا بارزا على التغيير الذي يمكن أن يحدثه المثقفون.
