مُحمَّد بن علي الكمزاري
يُشير الواقع العربي إلى تراجع ملحوظ لدور الدولة والمجتمع المدني، وارتفاع صَوْت الجماعات والتكوينات الطائفية، والعرقية، والدينية؛ الأمر الذي كان سببًا للصراعات بين أغلبيات وأقليات، دينية أو عرقية؛ حيث تعرضت حقوق الإنسان الفردية والجماعية لانتهاكات متفاوتة، ولعلَّ الاقتتال والتشريد، والعمليات الانتحارية والتفجيرات بالجملة، هي مظاهر يومية، كانت صادمة في البداية؛ ولكن مع تواترها وتكرارها يوميًّا خَف وقعها النفسي والوجداني، وأصبح شأنها شأن حوادث الطرق أو نشرة الأحوال الجوية.
ففي المجتمع العربي كانت التكوينات الأولية لها الغلبة والتأثير والهيمنة؛ سواء كانت في صورة جماعات دينية، أو طوائف، أو قبائل وعشائر، وفي القرنين الثامن عشر والتاسع عشر -وبالتحديد منذ انهيار الإمبراطورية العثمانية (1918)، وانحسار الاستعمار الغربي (1940-1960)- حيث بدأت تتفكك عرى النظام التقليدي، ونشأت منظمات المجتمع المدني في صورة "جمعيات أهلية" و"أحزاب سياسية" و"تنظيمات نقابية"...إلخ، وتوج ذلك عقب انتهاء الاستعمار بنشوء ما يعرف بالدولة القومية الوطنية التي تستند فيها العلاقة بين المواطنين إلى أساس "المواطنة"، وتراجعت هيمنة المجتمع التقليدي بما يحمله من تكوينات أولية، ولكن إلى حين. وجعلت تلك الدول الوطنية الحديثة "المساواة أمام القانون" أحد أسس دساتيرها، بصرف النظر عن الجنس والدين واللون والأصول السابقة؛ ولكن لأسباب متعددة، تفجرت توترات وصراعات داخلية عديدة في دول عديدة، وتحول بعضها إلى صراع مسلح وممتد، منذ الاستقلال إلى الآن كما في العراق والسودان والصومال. والجدير بالذكر أن الكثير من الدول العربية لجأت إلى توظيف "الدين" أو "المذهب" في إنتاج شرعية جماهيرية تواجه بها عجزها عن الإنجاز، كان من شأن ذلك تسييس التكوينات الدينية والمذهبية، وفتح شهيتها السياسية، ودفعها لتقديم نفسها لاعبا أساسيا في ظل ضعف الدولة، وترهلها؛ حيث عجزت كثير من الدول العربية عن تحقيق اندماج وطني حقيقي بين الجماعات الدينية والعرقية المختلفة، ولجأت إلى سياسيات "رديئة" في إدارة التنوع الديني والمذهبي، أسهم في تمديد المشكلات، وتعميق الأحقاد التاريخية، وتنشئة أجيال على استعذاب فكرة الاضطهاد في مواجهة النخب الحاكمة، وربما في مواجهة أصحاب الأديان أو المذاهب التي تأتي منها هذه النخب.
المشكلة الحقيقية أنَّ المجتمعات العربية باتت يعتريها فيروس التفكيك، والبديل الوحيد والقادر على إنجاز هذا السيناريو المشروعات الدينية والمذهبية المتطرفة، والتي تغذيها ماكينة للتنشئة الطائفية، إعلاما وتعليما، ولجأت الدولة القومية الجريحة" في المنطقة العربية إلى المراجع الدينية بحثا عن شرعية، وثبات، وقدرة على المواجهة، وهكذا أصبح المواطنون يدارون عبر الماكينة الطائفية بالوكالة، إما لحساب قوى سياسية داخلية، أو مشروعات سياسية خارجية.
ومن خلال هذا المعنى، يستعرض لنا الباحث المصري سامح فوزي في مقاله "المواطن والعصبية: قراءة في أزمة الدولة والمجتمع العربي" -والمنشور بمجلة "التسامح"- نقاشا لأزمة الدولة والمجتمع العربي التي كانت التكوينات الأولية لها الهيمنة والغلبة والتأثير على الدولة ذاتها، والتي باتت تعاني من الضعف والترهل. فهو يرى أن البديل الحقيقي يكمن في إعادة بناء دولة وطنية حديثة ديمقراطية، تراعي حقوق المواطن وتوفر سياقا تعدديا يمكن المواطنين المختلفين من أن يسعوا من خلالها لتطوير نوعية الحياة، سياسيا، واقتصاديا، واجتماعيا وثقافيا.
إنَّ الاستسلام لسيادة الطائفة هو قمَّة الانتحار، والسَّحق للدولة الحديثة، والأمل هو إعادة بناء دولة ديمقراطية، تقوم على المواطنة، والحرية لكل مواطنيها؛ بحيث تشدد على التعدد كمركب ضروري في المجتمع لما ينتج عنه من تعايش مشترك بين كافة أقسامه والاعتراف بالثقافة الأخرى كشرعية في المجتمع وكأحد مكوناته وكونه جزءا لا يتجزأ منه. والجدير بالذكر أن مفهوم المواطنة قد اقترن بحركة النضال الإنساني عبر التاريخ من أجل العدل والمساواة والإنصاف، ولقد أفرزت التجارب الإنسانية في مختلف الحضارات معاني مختلفة للمواطنة فكرا وممارسة تفاوتت قربا وبعدا من المفهوم المعاصر للمواطنة حسب آراء المؤرخين حتى القرن الواحد والعشرين الذي شهد فيه مفهوم المواطنة تطوُّرا مَالَ به إلى معنى التعايش والاندماج؛ حيث تحدَّدت مواصفات المواطنة لتشمل عِدَّة أبعاد؛ نذكر منها على سبيل المثال: الاعتراف بوجود ثقافات مختلفة، واحترام حق الغير وحريته، والاعتراف بوجود ديانات مختلفة، والمشاركة في إدارة الصراعات بطرق اللاعنف.
وقد ذَهَب في الاتجاه ذاته فرانسيس فوكوياما؛ حيث يرى أنَّ هناك ضرورة أساسية في القرن الحادي والعشرين تتمثل في إعادة بناء الدولة على أساس المواطنة؛ لأنَّ فشل أو ضعف الدولة أدى لتفاقم مشكلات إنسانية كبرى من الفقر إلى الإرهاب. وفي رأيه أنَّ إعادة بناء الدولة أولوية كبرى يتعين أن تتصدر الأدبيات السياسية بدلًا من الترويج للأفكار الداعية إلى تقزيم دور الدول.
وتعزيزا لهذا الاتجاه، يرى أرتشوف فونج أنَّ مخزون رأس المال الاجتماعي، أو ما يُمكن أن نطلق علية قيم المواطنة في أيِّ مجتمع يُعدُّ شرطا أساسيًّا لقيام حكم رشيد يقوم على المساءلة، والمشاركة من جانب المواطنين أنفسهم؛ إذ يشكل غياب ثقافة الانخراط في مؤسسات مدنية عائقا أمام تعميق المشاركة، ومساءلة الجهاز الحكومي، وتنمية روح التعاون في العلاقات ما بين المواطنين أنفسهم.
ويحتلُّ مفهوم المواطنة مكانا بارزا ومهمًّا في الفكر الاجتماعي المعاصر؛ فالنقاشات مستمرة حول "المواطنة" في مختلف الأوساط الشعبية والرسمية والإعلامية والأكاديمية، وقد يبدو غريباً أنْ تتزايد هذه الحوارات والنقاشات حول فكرة قديمة ظهرت في المدينة الإغريقية منذ أكثر من ألفين ومئتي عام، إلا أنَّ استمرار هذه النقاشات يُعطي مُؤشراً إلى أنَّ ثمَّة حراكاً للتحول في العلاقة بين الفرد والسلطة من علاقة قائمة على التبعية والرعاية، إلى علاقة قائمة على المواطنة والمشاركة، لكن تحقيق هذا التحول ليس بالأمر اليسير، بل في حاجة إلى كثير من النضال والمسؤولية من جانب المواطنين، وكثير من التفهم من قبل السلطة لإحداث التحولات التي تمر بها المجتمعات الإنسانية اليوم، والتي تحتم بناء مجتمعات تقوم على المواطنة والمشاركة في صنع القرار الوطني، كما يحتاج إلى تربية تسهم في بناء الوعي بمعنى المواطنة المسؤولة وحقوق المواطنين ومسؤولياتهم، وبالمشاركة ومهاراتها وقيمها وبالدولة ومؤسساتها.
وما أحوجنا في وقتنا الحاضر إلى هذا المفهوم، خصوصا مع ما تعانيه الشعوب من إقصاء وتهميش بإسقاط الحقوق الدينية والعرقية عن بعض الأقليات، وما يصاحب ذلك من تقسيم للمجتمعات؛ وبالتالي إضعاف المواطنة التي فقدت دورها كأداة تنمية وتعزيز للتماسك؛ بحيث أصبحت المواطنة مُجرَّد مهرجانات فارغة من أي حمولة معنوية؛ الأمر الذي أحدث جُملة من التغيُّرات الإنسانية الكبرى كالثورات وانعدام الأمن والاستقرار المجتمعي.
