الصوفيَّة.. وجوهر التدين في الإسلام

ناصر الحارثي

يتحدَّث الكاتبُ والباحثُ مُحمَّد حلمي عبدالوهاب، في مقاله "القيم الروحية في الإسلام: نموذج تصوفي"، والمنشور بمجلة "التسامح"، عن التصوُّف، ودوره في تحقيق جوهر الدين بشكل عام، وغايات الإسلام بشكل خاص؛ وذلك من خلال تسلسله في المقال؛ حيث ناقش في مُقدِّمة مقاله أهمية الدين لدى الإنسان؛ كونه قوة فاعلة في القيم الروحية لدى الإنسان، ومن ثمَّ انتقلَ إلى محور الموضوع؛ وهو: أنَّ الإسلام كباقي الأديان يعطي للقيم الروحية أهمية كبرى، مُبيِّنا أنَّ القيمَ الروحية واضحة بشكل جلي في الدين الإسلامي بشكل عام، وعند الصوفية بشكل خاص، وأن مناهج وطرق المتصوفة ركَّزت على إرساء القيم الروحية في تفاصيل سلوك الإنسان.

إنَّ الدين في رَأي الكاتب مُحمَّد حلمي عبدالوهاب نَسَق قِيَمي يُؤثِّر على الفرد والجماعة، أمَّا المنظومة العقائدية من ثواب وعقاب والآخرة فتشكِّل جوهر الخبرة الدينية؛ فالشريعة الإسلامية برأي الكاتب هو جهاز لتطبيق المنظومة العقائدية، والدين ينقسم إلى جانبين: أصول الدين وهي الاعتقادات، ورسوم الدين وهي الشعائر والعبادات. ومن هنا، تكمُن قوة الأديان؛ فهي تمثل قيمة ملزمة لا يستطيع أحد أن يماري فيها؛ فالصبغة البراجماتية للدين مع القوة الفعلية الإلزامية والواقعية، أسهمت في أنْ يكون للدين أثر كبير في حياة البشر؛ حيث إنَّ الدين يُشكِّل ثلاثة محاور تجعله قوة قيمية فاعلة؛ وهي: الالتزام القيمي، والإشباع النفسي، والتوازن السيكولوجي، وكذلك قدرة الدين على تشكيل قوة تماسك أيديولوجي، ويقصد الكاتب هنا الأيديولوجيا، والتي اعتبرها صفة إيجابية للدين، أنَّها شبكة القيم والأفكار والمصالح والأهداف والمعايير التي تمثل جمعية الجماعة.

وبعد ذلك، يتطرَّق الكاتبُ للحديث عن الإسلام، وهو لُب الموضوع؛ ليبيِّن أنَّ الإيمان بالله واليوم الآخر هو رأس القيم الروحية والأخلاقية في الإسلام؛ وذلك لأنَّ الإيمان بالله واليوم الآخر يخلق لدى الإنسان قوة روحية دافعة، يشعر بها الإنسان في طواياه، وهو ما أوضحه الكاتب في بداية الموضوع بأنَّ الدين يُمثِّل قوة فاعلة ومؤثرة في الإنسان؛ فالفرد عندما يستشعر الرقابة الإلهية وتمثُّلها في الضمير الإنساني -كما نراه في صوم الفرد المسلم، والذي يجعل من التزامه بالصوم قوة ضاغطة عليه- فإنه يطبق جوهر الدين والذي يتمثل في الخضوع والاستسلام، ومن ثمَّ يُعرِّج الكاتب ليبين كيف استطاعت الصوفية تطبيق هذا المبدأ من خلال إدراكهم أن تحقيق القيم الروحية يستلزم المزج بين تكوين الاعتقاد السليم، وتكوين الثقافة الروحية الواسعة، ولا يتحقق هذا المبتغى إلا من خلال التدبُّر في ملكوت الله؛ لذلك لا يُمكن أن نلغي تأثير الدين في الأخلاق ولا في السياسة، حتى لو حاولوا إقصاء الدين؛ لأنَّ الدين قوة روحية ثقافية اجتماعية.

وهُناك عِدَّة جوانب تميِّز التصوف كنموذج يُحقِّق غايات الإسلام؛ أولها: ارتباط التصوف بالأخلاق والقيم، واعتبر الكاتب القيم متدرجة في وضوحها ووقوتها وتأثيرها، كما أنها تطلب الوعي بالقيمة كشرط أخلاقي، ويتمثل التزام التصوف بمنظومة القيم في رأي الكاتب عن طريق أن التصوف عبارة عن طابع من التربية يعمل على بناء نموذج رفيع من الإنسان الكامل الذي يجمع في داخله بين القوة والإرادة والحركة والحياة، وبين الأطماع والأهواء والشهوات؛ لذا يُركِّز التصوُّف على النفس الإنسانية بحثا ورياضة وتهذيبا لأخلاقها، وكشفا لآفاتها من خلال عوامل الكشف والذوق والعرفان. ومن هنا، نَجِد أنَّ العبادات في التجربة الفقهية تكون جافة ومطبوعة بطابع تقريري. أما في الصوفية، فإنها مُتحرِّرة من الطابع الشكلي؛ لذا نجد تعريف التصوف بأنه: "تصفية القلب من غير الله"، وكذلك "الدخول في كل سَنِيٍّ والخروج من كل دَنِيّ"، وأمَّا الغاية الثانية التي يحققها التصوف، فهي التركيز على القيم الروحية، وهذا ما جعل الإسلام الصوفي ينتشر في شبه القارة الهندية وإفريقيا دون فتوحات عسكرية، بل من خلال التعاملات التجارية التي التزموا فيها بالقيم الدينية كالصدق والإخلاص والأمانة، ومن القيم التي ركزت عليها الصوفية أيضا: قيم الحق والعدل والمعرفة، كما أنَّ الصوفية في رأي الكاتب لا تهمل الجانب الفقهي، بل تحرص على الالتزام الصحيح والأمثل بما جاءت به كتب الفقه مع التزام روحي؛ فالشخص الذي يقصر في أركان الصلاة ليست صلاته باطلة وحسب بل عليه أيضا أن يتأدب في عبادته مع الله، ويأتي بالصلاة على أكمل وجه؛ فهو في حضرة خالقه، كما أنَّ على القائم بالشعائر التعبدية أن يكون أكثر حرصا في أداء الزكاة وينفق أجود ما يملك دون أن يشعر بداخله بنوع من المضاضة على نقصان شيء من ماله، وإلا فإنَّ زكاته لا قيمة لها لأنها خلت من جانب الإخلاص والتسليم التام لأمر الله. وفي حديثه عن قواعد الصوفية، فقد ذكر أنها تتضمَّن قواعد رئيسية كمحاسبة النفس، وقصد التوجه إلى الله، والزهد في الدنيا، وتوطيد القلب على المحبة والرحمة والتحلي بمكارم الأخلاق؛ لذلك يجب على المسلم أن يحرص في كلِّ العبادات التي يقوم بها من صلاة وصوم وزكاة وحج وصدقة، أن يتحلى بهذه القواعد الصوفية والفقهية كاملة دون إخلال. ومن ثمَّ تحدث الكاتب عن أقسام العلوم، وقسَّمها إلى جانبين؛ هما: العلوم الشرعية الدينية وما يتصل بها من فقه وحديث وتفسير، وكذلك علوم اللغة والتاريخ والأدب. أما الجانب الثاني، فهو: العلوم العقلية الفلسفية كالفلسفة والمنطق والطبيعيات والرياضيات والموسيقى.

نجد في هذا المقال أنَّ الكاتب والباحث مُحمَّد حلمي عبدالوهاب يُدَافع عن الصوفية، ويعتبرها الصورة الصحيحة والصادقة لفهم الإسلام؛ لذلك نجده يبتعد عن الأسلوب البحثي في الحديث عن الصوفية وعلاقتها بالإسلام، ويركز على الدفاع عن الصوفية وقيمها بطريقة عاطفية تبتعد في أحيان كثيرة عن المنهجية العلمية؛ لذلك نجده يتحدث عن انتشار الإسلام في إفريقيا وشرقي آسيا بسبب الصوفية، دون أن يذكر أي دلائل وبراهين. وقد تميَّز في هذا المقال أنه لم يُهاجم الفقه والفقهاء، بل إنه أكد على ضرورة الالتزام بالمناهج الفقهية التزاما كاملا، مع الالتزام التصوفي، والذي يرتبط بالخشوع التام والصدق والإخلاص الكامل في ممارسة العبادة. وهنا، نجد أنَّ الكاتبَ وَضَع الإسلام في صورة ضيقة أقرب إلى الإسلام التصوفي السلفي رغم أن الحضارة الإسلامية اعتادت على التباين الكبير بين هاتين المدرستين، وهذا النموذج الجديد -إن صح التعبير- فإنَّه يَسْعَى لجعل الفرد خاضعا مستسلما دون تحرُّر من بوتقة الفقه التقليدي الصارم، ودون الاندفاع للتساؤل والتحرُّر، فلقد اعتبر الدين قوة تعبدية وأخلاقية، وإن كان الدين كذلك فكيف يمكننا تطبيقه في حياتنا!!

أخبار ذات صلة