فهم نواة الرسالة بنزع الأسطرة عند رودولف بولتمان

قيس الجهضمي

يتناول الكاتب فوزي البدوي في مقالته المنشورة بمجلة التفاهم بعنوان "الإصلاح الديني في بعض أعمال المفكرين والفلاسفة المعاصرين: تجربة رودولف بولتمان ومشروع نزع الأسطرة" تجربة بولتمان الإصلاحية التي كانت في مشروعه "تأويل الأسطورة" عن طريق نزعها، وقد انخرط بولتمان في هذه التجربة التأويلية حيث حتمت عليه الاعتراف بأهمية المناهج النقدية التاريخية في فهم النصوص الدينية، ويذكر الكاتب أنَّ نقطة بداية بولتمان كانت من فلسفة شيلنغ التي تقول "إذا اهتممنا بالأسطورة اليوم فلأننا تركنا الوعي الميثي وراءنا، وإذا فهم نزع الأسطورة على أنه خروج من الوعي الميثي فذلك أمر واقع لا رجعة فيه بالنسبة إلى الثقافة المُعاصرة".

يذكر الكاتب أنَّ المسيحية احتوت على مشكلٍ تأويلي وهو نواة البشارة، وهي التي تذهب إلى معنى التبشير بيسوع الشخص وليست تأويلا للنص الإنجيلي، فهي عهدٌ بهذا المعنى من الأجيال الأولى، لكن النص الإنجيلي أصبح يظهر مسافة تفصل بينه وبين الحدث المُرتبط بنواة البشارة، وفي هذه المسافة صار التعبير عن نواة البشارة بشكل ميثي أسطوريا، فالأسطوري عند بولتمان هو"كل نمط تمثيل، يبدو فيه ما ليس من هذا العالم جزءٌ منه، وذلك وفق صياغة إنسانية، بل إنسانية جدا"، كما أنَّ الأسطورة لديه هي تتحدث عن واقع، وأما الميثي فيرى بولتمان أنَّه هو كل قصة عن الآلهة ويجب التمييز بين الأسطورة والخرافة التي لا صلة لها بالآلهة، وتكمن صعوبة النظر في الأسطورة إلى أنها غامضة تحتاج لمن يُبحر فيها ليكشف عن مقصدها.

إنَّ الفكر الأسطوري برأي بولتمان هو نقيض للفكر السحري، لأنَّ الأسطوري يسعى إلى الانفصال عن العالم بينما السحري يسعى إلى الاتحاد معه، وقد وضع بولتمان هدفاً من خلال مشروعه وهو "تقبل الأساسي في هذا الفكر المسيحي وتحيينه، والقضاء على هذه المسافة والمكانية التي تعشش فيها الأسطورة"، فيذكر الكاتب أن بولتمان أراد من مشروعه أن تحركه إرادة فهم النص وأن يتحقق مقصد النص في التحدث عن الحدث نفسه وليس الابتعاد عنه، وأنّ على الدائرة التأويلية التي طرفاها الفهم والإيمان أن تخضعنا لما يريد الموضوع قوله، و"لكي نفهم النص يجب أن نعتقد ونؤمن بما يقوله النص لنا، غير أنَّ ما يقوله النص لنا لا يوجد إلا بالنص، ولذا وجب فهم النص لكي نؤمن".

كما يذهب بولتمان إلى أنَّ العلم التاريخي المموضع يسير في اتجاه نازع للأسطورة ما دام المسار فيه تتابع مغلق للأحداث، بمعنى أن المؤلف لا يُمكن أن يقبل انقطاع الأحداث بسبب تدخل القوى الغيبية، وكذلك التاريخ العلمي لا يتحدث مثل نصوص الأناجيل أنَّ الإله يتدخل في مسار التاريخ، فالأسطورة عند بولتمان "تفترض فهماً محددا للواقع"، لذا يذهب بولتمان إلى أن يوجه الباحثين لتوظيف كل ثقافاتهم وطاقاتهم في مواضيع دراساتهم، فهو يرى أن العلم الأكثر ذاتية يكون هو الأكثر موضوعية، وقد صرّح بولتمان أن التجديد اللاهوتي في المسيحية هو بحاجة إلى استخدام منهج النقد التاريخي بصرامته. وفي الحديث عن كون يسوع كتاريخ ويسوع كإيمان يذكر بولتمان أن المصادر لم تكن تهتم بحياة يسوع الحقيقية ولا بشخصيته أو حياته النفسية، وذلك من خلال اعتماده على منهج تاريخ الأشكال في تحليل هذه المصادر، وهو يصرّح في كتابه عن يسوع: "بأن المسيح من حيث هو جسد لا يهمني، إنني لا أعرف ولا أريد أن أعرف ما الذي دار بخلد يسوع"، معتبرا كل ما كتب عنه من صنف الرواية الخيالية.

وأما عن قضية الوعي المشيحاني فكان اعتقاد الجماعة المسيحية الأولى قائما على وعي يسوع بنفسه أنه المسيح أو ابن الإنسان، وفي الأناجيل الإزائية يرى بولتمان أنَّ حياة يسوع ونشاطاته لا يظهران أي ملمح من ملامح المشيحانية بل هو في كثير من النصوص رجل عادي، أما كلمة المشيح هنا فهي بمعنى المخلص في الآخرة، وقد كان يراه يسوع مخلصا سماويا، ويذكر الكاتب أن بولتمان في انخراطه في وضعيته التأويلية الجديدة والنقد التاريخي الحديث لا يستطيع إلا أن يقر بأن الإيمان لا يمكن أن يعتمد على أمور مثل المعجزات، فما فعله المسيح من معجزات وكرامات أيضا مثلها تنسب إلى الكثير من الأحبار والربانيين اليهود، ويرى أن بولتمان أيضا يذهب إلى أن الأسطورة تتحدث عن واقع الإنسان نفسه وعن الطريقة التي يفهم بها العالم وعن وجوده لذا ما يهمه هو ذلك التعبير عن فهم محدد للوجود الإنساني، وفي نزع الأسطرة يسعى لإظهار المقصد الحقيقي للأسطورة.

وفي نقد المشروع البولتماني كان من أشهر من تحدث عنه هو الفيلسوف بول ريكور، إذ يُوافق ريكور بولتمان في أن المؤلف يملك لحظتين أساسيتين: اللحظة التركيبية النصية المموضعة، واللحظة الوجودية، لكن ريكور يؤكد أنَّ بولتمان لم يكن دقيق الفصل بين اللحظتين فكان يميل كثيرا إلى جهة اللحظة المموضعة، كما عاب ريكور أيضًا أن رؤية النص لدى بولتمان هي المجال الأساسي في التأويل ولا يُمكن تجاوزه بالنظر إلى المؤلف وقراءته، فريكور يرى أن التأويلية الفلسفية أولى من التأويلية الكتابية لأنَّ التأويلية الكتابية متسرعة وغير راديكالية. ويذكر الكاتب أن بولتمان يرى أن نأخذ من الأسطورة تلك الرسالة الوجودية التي لا تشوبها شائبة، وبالتالي نقتطع لغة يمكن وصفها أنها غير مموضعة، كما أن بولتمان يذهب في كتاباته إلى ضرورة البحث عن طريقة لتأسيس الإيمان على غير أحداث التاريخ ووقائعه، وبهذا تكشف لنا تجربة بولتمان عن حيوية الفكر المسيحي الذي غامر منذ وقت مبكر في مشروع الإصلاح الديني، كما أرى أنَّ هذه التجربة في مسألة التعامل مع النص المقدس بمناهج جديدة من مثل مناهج النقد التاريخي والوضعيات التأويلية بأنواعها، والتي تحاول البحث عن عمق المقصد ونواة الفكرة الدينية في داخل النص لهي جديرة بمحل النظر والتدبر لدى المسلمين، خاصة بعد التداخلات العميقة بين الأديان واختلاط الأعراق والثقافات وما أفرزته حركة العولمة والحداثة داخل المجتمع من تساؤلات وجودية جديدة تستثير في الإنسان العودة والبحث في منظومته الإيمانية.

 

 

 

أخبار ذات صلة