«نهاية الخيمياء: المال والصيرفة ومستقبل الاقتصاد العالمي»

41WSYYwxkoL._SX331_BO1,204,203,200_.jpg

 لميرفن كينج

مُحمَّد السالمي

تعدُّ الأزمة المالية العالمية الحدثَ الاقتصاديَّ الأبرز خلال العقدين الماضيين؛ حيث استطاعتْ هذه الأزمة كشف عيوب هذا النظام المالي الكبير، كما أنَّها سلَّطتْ الضوءَ على النظريات الاقتصادية القائمة، وطرحت تساؤلاً حول إمكانيتها في تفسير الظواهر الاقتصادية، وعن إمكانية تحديثها. نشرت العديد من الكُتب والدارسات حول هذه الأزمة، وكشف تداعياتها. ولكن في هذه الحالة فالأمر مختلف. فكتاب "نهاية الخيمياء: المال والصيرفة ومستقبل الاقتصاد العالمي"، هو من تأليف اللورد ميرفن كينج، والذي شغل منصب الرئيس التنفيذي لبنك إنجلترا في الفترة من 2003 إلى 2013 الذي تعامل مع الأزمة المالية في 2007-2008؛ مما منحه مقعدا محوريا في الأزمة المالية، وربما قدرا من المسؤولية عنه. فهذا الكتاب ليس بمذكرات، وإنما يطرح بعض الأفكار لإصلاح النظام المالي العالمي. مشيرا في المقدمة إلى أنَّ المذكرات تميل إلى أنَّ تكون تحت عنوان فرعي: كيف أنقذت العالم. قبل انخراط اللورد ميرفن كينج في بنك إنجلترا، عمل كمحاضر في أرقى الجامعات مثل كامبريدج، وبرمنجهام، وهارفرد، ومعهد ماساشوستس للتكنولوجيا، ويعمل حاليا في مدرسة لندن للاقتصاد. في كتابه هذا، يُعطينا نظرة ثاقبة للأزمة باعتبار كينج أحد اللاعبين الرئيسيين في الأزمة المالية. يتمحور كتاب كينج على أربعة عناصر: عدم التوازن، وعدم اليقين الجذري، ومعضلة السجين، والثقة. وتتمثل أطروحته الرئيسية في أنَّ فشل الاقتصاد في مراعاة دور هذه الأفكار الأربعة بشكل صحيح هو ما دفع الاقتصاديين، ومن ضمنهم أولئك الذين في البنك إلى الفشل في منع الأزمة المالية.

يبدأ كينج بطرح تساؤل عام: ما هو المال؟ والإجابة لا تختلف عن تعريف الاقتصادين للمال. أولا وقبل كل شيء، جميعنا نحتاج المال للحصول على السلع والخدمات. وفي رأي الاقتصاديين: لكي نطلق على الشيء مالاً يجب أن يكون مقبولا من الجميع كوسيلة للتبادل، ويمكن استخدامه أداة للتسعير، وأنه يحمل قيمة تسعيرية. يرى البعض أنَّ المال يجب أن يقوم على شيء حقيقي وملموس، مثل الذهب على سبيل المثال. ولكن كينج يبين أن مفهوم المال واسع ويتضمَّن تحته عدة أصناف؛ مثل: الأوراق النقدية والذهب، وقد يتضمَّن أيضاً سجائر مارلبورو وهو المعمول به في السجون، والبتكوين إذا تضمن هذه العوامل. كما يرى ميرفن كينج أنَّ المحرك الرئيسي للمال هو السلطة. فالسياسة هي إلى حدٍّ كبير ما يجعل اليورو عملة. كما أنَّ البيان المشترك الذي أدلى به كل من المستشارة ميركل والرئيس هولاند، يبيِّن مدى التزامهم الكامل باليورو. ويظهر هذا جليًّا في خطوات البنك المركزي الأوروبي في شراء ديون الحكومة الإسبانية والإيطالية أو ينظر فيها بنشاط.

"نهاية الخيمياء" يُعطي وجهة نظر من الداخل عن دور وتطور البنوك المركزية في السنوات الـ20 الماضية. ويحدد المؤلف بلغة واضحة كيف تعمل البنوك المركزية والنظريات الاقتصادية التي ترسم تلك العمليات وكيف تغيرت تلك النظريات وممارسة السياسة النقدية مع تغير الظروف. ويوضِّح المؤلف كيف أنَّ دور مقرض الملاذ الأخير يتسم بطابع مختلف تماما اليوم مقارنة بالسابق، ومدى عدم مراعاة طبيعة عدم اليقين الاقتصادي بشكل مناسب عند التفكير في حساب المخاطر. هذا الكتاب يعطي وصفا واضحا للتحديات الاقتصادية اليوم وبعض الوصفات السياسية التي ستكون حلولا جزئية لبعض المخاطر الأخلاقية والتحديات التي نواجهها.

فهذا الكتاب يُعْطِي القارئ الكثيرَ من الخلفيات لبعض النظرية الاقتصادية التي تدخل في دور البنك المركزي في الاقتصاد. يناقش المؤلف عرض النقود، والخدمات المصرفية الاحتياطية الجزئية، والتقدم في الخدمات في البنوك المركزية. كما تطرق المؤلف أيضا لطبيعة عدم اليقين التي نواجهها في حياتنا اليومية. وهذا يتجلى في النظر في مفهوم عدم اليقين للعالم الاقتصادي فرانك نايت؛ حيث توزيع النتائج بطريقة غير معروفة؛ وبالتالي ليس هناك طريقة موضوعية لتحسين القرارات. ويستندُ المؤلف إلى هذه الفكرة، ويناقش كيف يمكن لآليات السوق الحديثة أن تنسق النشاط الاستثماري في ظل هذا النوع من عدم اليقين، وتستخدم الطلب الطويل على النفط كمثال على ذلك. كما يقضي المؤلف وقتا في مناقشة دور المصارف في تحويل النضج إلى مشاريع طويلة الأجل محفوفة بالمخاطر عن طريق الاقتراض من الودائع قصيرة الأجل. هذه العملية وصفها المؤلف بأنها الخيمياء المالية. يناقش المؤلف كيف نَمَت المخاطر في القطاع المصرفي مع توجه نظامنا لتوجيه المخاطر نحو اتخاذ نفوذ متزايد. وإضافة إلى ذلك، أدَّتْ المعدلات المنخفضة على المدى الطويل إلى تفاقم أزمة الإقراض التي يبدو أنها تحدث. وذكر المؤلف كيف يتم دعم البنوك الحديثة وحجمها الهائل من قبل سياسات مقرض الملاذ الأخير من قبل البنوك المركزية التي تدعمها، وبيَّن كيف أنَّ البنوك المركزية قلقة جدا بشأن التداعيات المالية للسماح للنظام يواجه فشل المؤسسات.

تطرَّق كينج لموضوع اختلال التوازن بين العرض والطلب في الموارد المالية؛ حيث يعتقد الرئيس السابق للبنك المركزي أنَّ غياب شروط التوازن هو أمر لم يعرفه الجميع، إلا ربما المصرفيين المركزيين. بحيث يرى أن عدم القدرة على توقع جميع الاحتمالات الممكنة قد توقعنا في أخطاء؛ بمعنى آخر أنَّ الجميع من أسر، وشركات، وبنوك، وبنوك مركزية وحكومات مُعرَّض للخطأ. والإشكال الذى يُطْرَح هو ما إذا كان لدينا مؤسسات قوية بما فيه الكفاية للتكيف مع تلك الأخطاء وتقليل عواقبها.

وبالنسبة للبنوك المركزية، تتمثَّل إحدى الوسائل في الحدِّ من عدد الأخطاء عبر تقليل عدد القرارات التي يتخذها المصرفيون المركزيون. فلو نظرنا في "قاعدة تايلور"، التي اقترحها عالم الاقتصاد الكلي جون تايلور، فهي إحدى الوسائل في تحديد كيفية قيام المصرفيين المركزيين بتعديل سعر الفائدة الاسمي على أساس البطالة والناتج المحلي الإجمالي. فقانون تايلر تبنى على اليقين: أنَّ الأفراد والشركات يعرفون كيف سيتفاعل البنك المركزي مع البيانات الاقتصادية مقدما. كينج ينتقد قاعدة تايلور، بحجة أنه لا توجد قاعدة خالدة من المرجح أن تبقى الأمثل لفترة طويلة، وأن البحوث الجديدة من شأنها أن تقوض أي قاعدة أعلن عنها. وهذا يفتقد للنقطة المركزية التي مفادها أن البنك المركزي القائم على القواعد سيصبح أكثر قابلية للتنبؤ؛ مما يحد من عدم اليقين في الاقتصاد.

خاض كينج بشكل واسع في موضوع عدم اليقين الراديكالي، والذي يقصد به عدم التيقن العميق؛ لدرجة أنَّه من المستحيل تمثيل المستقبل من حيث جعل الاحتمالات قابلة للعلم وشاملة للنتائج. ويقول الكاتب كيف يمكننا خلق أسواق من السلع والخدمات التي لا يمكننا تخيلها في الوقت الحاضر؟ فهذا تحدٍّ مستحيل لاقتصاد السوق. كما هو المعلوم أن العالم يتضمن الكثير من "عدم اليقين الجذري". ولكن المشكلة تكمن في أن النموذج الاقتصادي يقوم على افتراض وجود مجموعة كاملة من الأسواق أو مصرف مركزي يتخذ قرارات تعتمد على نماذج تتضمن هذه الافتراضات على الأقل دون التفكير في النتائج المترتبة على التنبؤات بغياب هذه الأسواق. وقد دعا الاقتصاديون إلى الابتعاد قليلا عن تحليل العرض والطلب، والتركيز على الاحداث الحاصلة. وفي المقابل، كثير من الاقتصادين يتفقون على أن كثيرا من التنبؤات الاقتصادية ما تكون خاطئة بشكل خطير، ولكن البعض يرى أن هذا لا يعتبر سببا كافيا للتخلي عن أدوات التحليل التقليدية التي دعا إليها كينج.

كما تطرَّق كينج لنظرية الألعاب وضرب المثال الشهير والمسمى بمعضلة السجين. تبنى نظرية الألعاب أن جميع اللاعبين ينظرون لمصالحهم الخاصة في المقام الأول دون الاهتمام بمخرجات اللاعبين الآخرين مع الأخذ بعين الاعتبار الخطوات التي يتخذها اللاعبين في اللعب. ويعرف كينج معضلة السجين بأنها "صعوبة تحقيق أفضل النتائج الممكنة عندما تكون هناك عقبات تعترض التعاون". فالسيناريو الذي تستند إليه معضلة السجين هو السيناريو الذي أنشئ صراحة للقضاء على فرصة التعاون. حيث يتم حجز المتهمين بزنزانة منفصلة ويمنعون من الاتصال. وبالنظر إلى أوراق اللعب لدى المتهمين إما الاعتراف أو الصمت، فإنهم يختارون الاعتراف على الرغم من أنهم سيحصلون على أحكام أخف إذا بقوا صامتين. فلو قام المتهمون بالتعاون سيحققون أفضل النتائج ولكن الاهتمام بالمصالح الشخصية وعدم الوثوق باللاعب الآخر سيؤدي بهم في نهاية المطاف للسجن لفترة أطول. يرى كينج أن المصرفيين في البنوك المركزية قد استجابوا بطبيعة الحال للحوافز التي واجهوها خلال الأزمة المالية. لذلك؛ فإنَّ جميع الفاعلين الرئيسيين في الدراما كانوا يتصرفون بمصلحتهم الذاتية -في ضوء تصرفات كل شخص آخر- وهكذا كانت النتيجة الجماعية كارثية. لم يكن المصرفيون قبل الأزمة المالية وأثناءها وبعدها مماثلين للسجناء غير القادرين على التواصل مع بعضهم البعض. ويؤكد الملك أنه حتى اليوم "، فإن البنوك الداخلية محاصرة في سياسة أسعار الفائدة المنخفضة بسبب الاعتقاد المستمر بأن حل ضعف الطلب هو اللجوء لمزيد من التحفيز النقدي. يرى كينج أنه يجب الخروج من معضلة السجين وذلك عبر فتح حلقات التواصل بين البنوك المركزية حول العالم من الصين والبنك الفيدرالي...وغيرها.

وفي نهاية الكتاب، قدَّم كينج بعض الإصلاحات الاقتصادية لتعزيز الإنتاجية، كما تطرق لموضوع تحرير التجارة، لاسيما في الخدمات مثل التأمين، والاستشارات، وتحليل البيانات...وما إلى ذلك مثل استعادة مرونة سعر الصرف. كما يعطي كينج في "نهاية الخيمياء" خلفية غير مألوفة عن البنوك المركزية والسياسة النقدية. وأيضاً يعطينا نظرة تاريخية لبعض التيارات الفكرية التي تحرك الإجراءات السياسية وشرحا وافيا حول البيئة الاقتصادية الحالية والنظام المؤسسي في الأسواق المتقدمة. ويناقش المؤلف أيضاً ما يعتقد أنه قابل للحل في البنوك المركزية، وعلى وجه الخصوص، بعض جوانب المخاطر الأخلاقية والدعم الضمني، وما الذي لا يزيل خطر الكنيتياني (الخطر الذي لا يمكن قياسه).

وعلى الرَّغم من الجدل الذي أثاره الكتاب، يظل كتاب "نهاية الخيمياء" قراءة مدهشة؛ حيث يعطينا محافظ بنك إنجلترا المركزي السابق صورة قاتمة لنظامنا المالي الحالي، ويخدمنا جميعا عن طريق تذكيرنا بمدى هشاشة فهمنا للعالم دائما، ومدى خطورته في التصرف كما لو كنا نعرف أكثر مما نقوم به. استطاع الكتاب جذب الأضواء لأن مؤلفه من صناع القرار خلال الأزمة.

--------------------

- الكتاب: "نهاية الخيمياء: المال والصيرفة ومستقبل الاقتصاد العالمي".

- المؤلف: ميرفن كينج.

- الناشر: W.W.Norton & Company،  (March 21,2016)، باللغة الإنجليزية.

- عدد الصفحات: 448 صفحة.

أخبار ذات صلة