لليو كلاين
فيكتوريا زاريتوفسكايا *
مُؤلِّف هذا الكتاب "معاناة العلم" الروسي ليو كلاين -ولد عام 1927- عالم شهير في الأثريات والأنثروبولوجيا واللغة والتاريخ وفقيه في مجالات أخرى بحاجة إلى بضعة سطور لإحصائها. وإلى جانب لغته الروسية الأم، ينشر مؤلفاته باللغة الإنجليزية. لم يكتف هذا العالم الموسوعي بمساق علمي واحد، فعرف عنه سأمه من الوقوف طويلا في محطة علمية بعينها؛ لذلك جعل من حجه بين العلوم سمتا لحياته العلمية وديدنا لبحثه المعرفي. بدأ في حقل علم الآثار، وحصل بمجهوده الذي كرَّسه للقضايا النظرية لأسس المعرفة الأثرية على اعتراف المراكز العلمية حول العالم، وإلى جانب اشتغاله في الآثار، أشعل كلاين نقاشات حادة حول نقده لبعض المسائل العلمية وتشكيكه للصور النمطية الشائعة في العلوم الإنسانية. وفي غضون دراسته الجامعية، صاغ تقريراً ينتقد فيه العقيدة التي هيمنت آنذاك لمواطنه العالم الروسي نيكولاي مار التي قاربت بين النظرية الشيوعية لماركس وعلم اللغة، وأصرت على العلاقة بين اللغة ونوع النظام المجتمعي (نظام الرقيق المتخلف، البرجوازية المضرة أو الاشتراكية المتقدمة).
وفي الستينيات، بادر كلاين بجولة جديدة من النقاش حول دور النورمان في إنشاء الدولة الروسية القديمة، وأثبت وجود الاسكندنافيين في المناطق الشمالية لروسيا (كانت نسبتهم حسب نتائج كلاين تصل إلى أربعة عشر بالمئة)، وأيضا الأصل الاسكندنافي لأول الأمراء الروس. في الثمانينات توجه كلاين إلى دراسة الملحمة الشعرية اليونانية "الإلياذة" وأثار تشكيكا حول وحدة النص وموقع مدينة طروادة الأسطورية؛ وذلك مثلما أشار إليها عالم الآثار الألماني هاينريش شليمان. في السنوات الأخيرة اكتسبت أنشطة كلاين وبحوثه في العلوم الإنسانية وفي الثقافة والتدريس طابعا جديدا ينحو إلى أسلوب الصحافة العلمية والفكرية ويرتكز موضوعها على دراسة العلم في بُعده الاجتماعي. وبعد عُمر مديد قضاه في جادة العلم والثقافة، نجد أن صوت هذا العالم يزداد اقترابا من روح العلم وجوهره الكوني، ونجد موضاعاته تختلف بين التدقيق على سلوك العلماء والتمحيص في علاقة العلم بالسلطة والتأكيد على أخلاقية العالِم.
وفي كتابه الأخير "معاناة العلم"، يُشمِّر كلاين عن ساعديه للتعليق على الحال الذي يعيشه العلم في بلاده روسيا، ويستفيض في رسم الأبعاد التي نشأت فيها العلوم الروسية وتعيين مآلاتها. وعلى الرغم من قِدم المقالات التي تضمنها الكتاب (فالكتاب عبارة عن مقالات نشرها الكاتب في أوقات سابقة)، إلا أن قيمتها وأفكارها تلائم الوقت الراهن، بل إنها تكتسب أهمية بالغة في رؤية الراهن العلمي الروسي رؤية واقعية وقريبة. الجاذب في هذا الكتاب صوته المستقل الذي لا يذوب مع جوقة السلطة ولا تغويه الكنيسة، ولا يضيع في معمعة الدراسات العلمية الزائفة، ولا يخضع لشؤون إدارة السلطات الأكاديمة.
جَمَع المؤلف كتابه في اثني عشر عنوانا دالا؛ وهي على التوالي: العمل والسلطة، هزيمة الأكاديمية، المال والمال والمال، نظام التعليم، هجرة الأدمغة، العلم والدين، العلم والمطبوعات، العلوم والجمهور، المنظور التاريخي، الأخلاق والعلم، العِرق، المسائل الشخصية.
ومن خلال إلقاء نظرة سريعة على العناوين، يتبدَّى لنا المغزى الذي يرومه الكاتب. سوى ذلك، فالمؤلف ليس بوارد نثر الشكاوى أو تسليط سيف النقد لإلحاق الأذى بأشخاص أو مؤسسات بعينها، ولكنه يعّرف الخلل ويقدم طرائق حلها.
لقد شهد كلاين مراحل تطور العلوم الروسية، وإذا ما أخذنا سنة التحاقه بجامعة لينينجراد عام سبعة وأربعين من القرن الماضي كنقطة بداية لحياته المهنية، نجد أن مجمل سني مسيرته العلمية حتى اليوم تصل إلى سبعين عاما. والحال كذلك فليس أفضل منه من يحدثنا عن الاتحاد السوفيتي وحياة العلم والعلماء فيه؛ الأمر الذي فعله في كتابه هذا. يذكر في هذا السياق الحيل التي لجأ إليها العلماء السوفييت لنشر أعمالهم خارج البلاد دون الحصول على إذن السلطات، ويتطرق إلى عملية الدمج بين الأفكار والنظريات التي مارسها العلماء أثناء إعداد المواد للنشر وذلك درءا من مواجهة السلطات. يعْبر كلاين في كتابه بكل محطات القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين، يتحدث عن قلة تمويل العلوم الروسية في التسعينيات واللامبالاة التي أحاطت البحوث العلمية في مطلع القرن الجديد.
يُؤكِّد كلاين أنَّ رُوسيا تمرُّ اليوم بغروب شمس علومها، وبأنها لا تدخل في مصاف الدول العلمية العظمى. يكتب عن ذلك: "لا تدخل روسيا ضمن أفضل عشرين دولة في العالم من ناحية اقتباس علومها، ولا تتجاوز مقالات العلماء الروس في العلوم السلوكية والكمبيوتر وعلم الأحياء الدقيقة واحد في المائة من حجم الإجمالي العالمي، أي أنها غير مرئية (...) نتيجة لذلك تقلص تمويل العلوم، واختفت مدارس بأكملها في مجال الفيزياء والبيولوجيا والاستشراق. ويموت العجائز من العلماء ولا أحد ينوبهم فتنقطع التقاليد. وبجانب ذاك نشأت مجموعة من الأكادميين بشهادات مُشتراة، وهم الآن يسيطرون على القطاع العلمي ويفرّخون أشباههم. أما الشباب الأكثر نشاطا فيغادرون إلى الخارج. ثمة مئتان وخمسون ألفا إلى ثلاثمائة ألف منهم غادر البلاد خلال العشر/خمسة عشرة سنة الأخيرة" (ص:131).
ويشترط كلاين لبناء مستقبل للعلوم في روسا وجود التمويل الحكومي بالدرجة الأولى، ويؤكد أنه من المستحيل أن ينكب العالم على بحوثه حين لا يكفي راتبه لإطعام نفسه وعائلته، بالمعنى الحرفي لكلمة إطعام. وحين يكون العالم يعمل في مجال الآثار (كما هي الحال معه) فكل شيء مناط عليه، وعليه أن يدبر نفسه في كل ما يتطلبه العمل كأن يقوم بغسل الشظايا الأثرية بنفسه. ولتقريب الصورة أكثر وتسليط الضوء على التغيرات التي طرأت على الوضع العلمي في روسيا خلال القرن الماضي يقول المؤلف: "عشية الحرب العالمية الأولى كان عدد الطلاب في روسيا يزيد بثلاثة أضعاف ونصف الضعف عن مثيله في فرنسا، وكانت تكلفة التعليم أقل بعشرين مرة منه في الولايات المتحدة وإنجلترا (...) قبل الثورة الاشتراكية عام 1917م، كان العامل الماهر في روسيا يعيل من أجره أفراد أسرته، أما المدرس فكان راتبه أكثر من ذلك بخمس عشرة مرة. وفي نهاية العشرينيات، أصبح راتب المدرس أعلى من راتب العامل الماهر بأكثر من أربعة أضعاف. اليوم لا يستطيع العالم العيش إن لم تكن زوجته تعمل أيضا، كما أن راتب الأستاذ أقل من راتب العامل" (ص:43).
ويستمرُّ المؤلف في كشف المناطق القبيحة في المجتمع العلمي الروسي الراهن، وفي طليعتها تلك المتعلقة بنشر المقالات العلمية (التأليف المشترك الزائف بين الباحث ورؤسائه في العمل، وورش كتابة الأطروحات، والانتحال...وغيرها)، كما يتأمل في استحالة انتشار المعارف العلمية في ظل تمنع الحكومة عن دعم العلوم مما يؤدي إلى ازدياد حجم، ما يسميه كلاين: النتاج العلمي غير المرئي، أي الكتب غير المقروءة والخامدة في المستودعات فيما القراء والباحثون لا يعرفون سبيلا للوصول إليها. وحسب كلاين، فإنَّ هذه القضية تكتسب أهمية كبيرة وذلك في ضوء انتشار النظريات شبه العلمية والزائفة ونمو شعبيتها، وبرأيه قد يسفر ذلك عن الأمية التاريخية التي من شأنها الترويج للنزعة القومية ومعاداة السامية وغيرها من المذاهب الخطيرة، في جين أن الوقاية الوحيدة منها تكمن في رعاية وتشجيع العلم الحقيقي.
يُقدم كلاين لقارئه ملامح من خبرته المتراكمة في مجال التدريس ويشرح أفكاره عن منهجية تنظيم وتنفيذ ورش العمل. فما الذي يجعل من ورشة العمل التدريسية ناجحة؟ يتذكر كلاين سنوات دراسته الجامعية والسأم الذي كان يعشش على المحاضرات ويحيط بالطلاب، فيفضل الطالب منهم الاختباء خلف هرم من الكتب على أن يتفاعل مع الدرس، ويجيب عن الأسئلة المطروحة. وكيف كانت الأوراق البحثية عن مختلف المواضيع توزع مسبقا، وما على الطالب بعدها سوى التظاهر بالمعرفة والرد على الأسئلة. وعندما بدأ التدريس عام 1964، لم يرغب كلاين في تكرار الحصص الدراسية التقليدية وآثر عليها نهجا مختلفا قوامه المشاركة الفعالة في العملية التدريسية. يعتقد كلاين أنه لا حاجة للمدرس من إقامة الورش إن كان لا يملك ما يقوله وإن كان اعتماده يرتكز على المنهج الدراسي وحده. فبجانب المعرفة التي يتحلى به المدرس، عليه أيضا أن يضع نصب عينيه الفكرة والهدف من تنظيم الورش العلمية. وقد نظم كلاين ورشة عمل لا يطلب من الطلبة فيها قراءة البحوث الجاهزة أو تكرار التجارب المعروفة مهما ارتفعت قيمتها، وإنما عرض أفكار جديدة وتنميتها في سياق حواري وبحث جماعي ومن ثم نشرها بصيغة مقال في مجلة علمية. وفي الوقت نفسه، جذب كلاين للمشاركة في ورشته طلابا من مختلف السنوات الدراسية ومن جامعات أخرى كما أقدم على دعوة باحثين معروفين للمشاركة في الورشة. ومن المعروف أنَّ هذه الورشة أسفرت عن سلسلة "قضايا علم الآثار" التي استمرت جامعة سانت بطرسبيرج في إصدارها لسنوات متعاقبة.
لم يستطع المؤلف إلا أنْ يتطرق إلى علوم الأثار نفسها، فاستعرض العقبات الرئيسية التي تعترضها، والتي يجدها أولا، وقبل كل شيء، في الحركة المضادة للعولمة في العلم. يلاحظ أنه، وإذ تتلاشى النزعة القومية في العلم بين علماء اسبانيا والدول الاسكندنافية، الذين عارضوا فيما سبق جامعة كامبريدج، وهي قلعة علم الآثار، حين منعتهم من نشر أعمالهم بلغتهم الأم واشترطت أن تنشر باللغة الإنجليزية وحدها؛ إذ تتلاشى تلك النزعة هناك، نجدها تنمو في بعض دول المجال السوفيتي السابق. يكتب عن ذلك: "تصدر في أوكرانيا مجلة "علم الآثار" باللغة الأوكرانية، وهي تخلو من المشاركين الروس. فكم هو عدد العلماء الآثار الأوكرانيين الذبن تنشر لهم المجلة؟ (...) إنَّ جميعَ الأوكرانيين يعرفون اللغة الروسية ناهيك عن العلماء، بَيْد أنَّه لا وجود لمنشورة علمية باللغة الروسية. يحدث هذا من قبيل التفاخر القومي وليس إلا، متناسين أن من مصلحة علماء الآثار الأوكرانيين قبل غيرهم انتشار منجزاتهم في أوسع نطاق وتعريف جيرانهم بها. يقولون إنَّ من يريد معرفة إنجازاتهم فعليه أن يتعلم الأوكرانية، وهذا أمر سخيف" (ص:227).
ويشير المؤلف إلى قضايا مختلفة تدور في فلك علم الآثار؛ منها ما يُسمَّى بعلم الآثار الزائف، الذي لا يهدف إلا لتسلية الجمهور وخلق الخرافات الجميلة لهم. يقول عن ذلك: "وهكذا في عام 2004 نظم متحف الأرميتاج الروسي معرضا كبيرا بعنوان "ذهب المستنقعات"، جُمعت فيه معروضات أنتجها خيال الفنانين المعاصرين. وقد مّثل المعرض قبيلة وهمية قديمة من الأقزام كانت تسكن المستنقعات المحلية، وضم تماثيلهم وحليهم الذهبية وخرائط مستوطناتهم وحتى يوميات علماء الآثار الذين كشفوا عنها وحفروها، حفروها في مخيلتهم فقط (...) ومن العجيب أن يقوم المعرض بنشر كتاب فاخر ذو رسوم توضيحية ملونة وبورق مصقول، وهذا النوع من النشر لا تعرفه المنشورات العلمية الحقيقية إلا فيما ندر" (ص:399-400).
وعلى الرغم من الإطار العلمي للكتاب، إلا أنه يتمتع بسهولة قراءته ورشاقة تقسيمه؛ حيث توزع على فصول قصيرة، ولغة أقرب إلى الأسلوب الصحفي، إلى جانب اشتماله على العديد من الذكريات الحية للمؤلف ومراسلاته مع قرَّائه المهتمين.
------------------------------------------
- الكتاب: "معاناة العِلم.. العالِم والسلطة، العالِم والمال، العالِم والأخلاق".
- المؤلف: ليو كلاين.
- الناشر: دار الاستعراض الأدبي الجديد، موسكو 2017، باللغة الروسية.
- عدد الصفحات: 576 صفحة.
* أكاديمية ومستعربة روسية
