لفرانسوا هيران
سعيد بوكرامي
في فرنسا، تتلاحق "مشاكل الهجرة" بوتيرة متسارعة ومعقَّدة، كما أنَّ النقاشَ حَوْلَها يتكرَّر ويحرَّف باستمرار، تغذيه دورات الحياة السياسية وعلى وجه الخصوص حمى سباق الانتخابات الرئاسية: (أزمة اللاجئين، الإسلام والعلمانية، الصفاء العرقي والثقافي والحضاري لأوروبا، الجنسية المزدوجة، التجمع الأسري، غابة كاليه..) قضايا لا تنتهي، يستغل فيها المهاجر استغلالا أيديولوجيا مريبا؛ سواء في البلدان التي عرفت الهجرة منذ الخمسينيات والستينيات كفرنسا وبلجيكا وهولاندا وألمانيا، أو البلدان التي قدم إليها المهاجرون منذ الثمانينيات كإسبانيا وإيطاليا والبرتغال. ورغم وعي الدول الأوروبية بحتمية جلب المهاجرين خلال السنوات المقبلة نظرا للخصوصيات الديموغرافية للقارة المهددة بالشيخوخة وانخفاض الخصوبة، إلا أنَّها لا تزال تعتبر المهاجرين وسيلة وأداة فحسب للإنتاج الاقتصادي، وليسوا كائنات بشرية تتميز بخصوصيات لغوية ودينية وثقافية، يجب الاعتراف بها والتعايش معها وتحويلها إلى مكون حضاري واجتماعي يُساهم في تجديد دماء أوروبا. وهذا يتطلب تدبير تدفقات المهاجرين وإعداد إجراءات قانونية وعملية تُسهِّل عملية اندماج المهاجرين في مجتمعات تلك الدول التي يعاملون فيها معاملات فيها الكثير من التمييز والإقصاء في كل المجالات: السكن، والتعليم، والعمل، والحقوق الاجتماعية والثقافية.
الباحث المتخصِّص في قضايا الهجرة فرانسوا هيران، ينقلُ هذا النقاش إلى بحث ديمُوغرافي وسياسي، يعود إلى عهد ساركوزي، أي تسع سنوات من السيطرة على سياسة الهجرة في فرنسا، ولكن من أجل أي نتيجة؟ هل من أجل إجهاض سياسة الهجرة المفتوحة لصالح "الهجرة الانتقائية"، من ذوي الخبرة وبطريقة قانونية؟
يقول الباحث إنَّ هذه السياسة الانتقائية في ميدان الهجرة تسعى لاستقطاب بعض المتخصصين في مجالات معينة من العلم والمعرفة وإغلاق الباب أمام الراغبين في الهجرة من ذوي الاختصاصات العادية. وهذا التمييز والإقصاء يفتح الباب أمام الهجرة غير المشروعة إلى أوروبا.
يُنبِّه الباحثُ إلى أنَّ فرنسا وحدها يعيش فيها بين كل أربعة أشخاص فرد من أصول مهاجرة أو أبناء مهاجرين. لهذا؛ تقوم تيارات سياسية متطرفة تحلم، بغلق المنافذ على المهاجرين والقفز على الحقوق الأساسية. باستغلال هذه المعطيات لزرع الرعب في نفوس الفرنسيين من خطر انمحاء كلي للعرق الفرنسي إذا سمح لسلطة سياسية معتدلة أن تراعي الشروط الإنسانية والقانونية في تعاملها مع المهاجرين.
ويشدد فرانسوا على ضرورة الانفتاح على معرفة المهاجرين وقضاياهم وخلفياتهم الثقافية، وتكييف القوانين مع جذورهم الأصلية؛ لأنَّه كلما تشددت القوانين ازداد التطرف الفكري من الآخر. يُحاول الباحث كشف الأخطاء الجسيمة لبعض السياسيين (مارلين لوبين في الصدارة)، وكاتب المقالات ومستشار وسائل الإعلام المثير للجدل (إريك زمور)، داحضا أطروحاتهم المتطرفة.
وعلى طول 315 صفحة، يدافع فرانسوا هيران عن أطروحته المساندة للهجرة، قد يضجر القارئ من طول البحث وتعدد مباحثه، لكن إذا كان القارئ يعطي أهمية لقضية الهجرة أو يمنح القليل من الاهتمام لقضايا مستقبل أوروبا، فإنه بالتأكيد سيجد مسارا معرفيا ممتعا وثريا مصاغا من تحليلات صلبة وأدلة مقنعة، بأسلوب واضح يجمع بين شهادة باحث سوسيولوجي مطلع ومعرفة ديموغرافي منفتح على العلوم الاجتماعية.
يُلاحِظ فرانسوا هيران في مُفتتح كتابه أنَّ حصة المهاجرين من المغرب العربي وإفريقيا والشرق الأدنى والشرق الأوسط، زادت بشكل ملحوظ، وكذلك مظاهر الإسلام ازدادت في فرنسا على مدى العقود الأربعة الماضية. كما أنَّ البحوث حول الهجرة أحرزت تقدما كبيرا، والنقاش العام حول هذا الموضوع يستأثر بالرأي العام والإعلام، لكن ما زالت معلومات خاطئة كثيرة تمرر عن عمد ضد المهاجرين، يشير الباحث إلى أنَّ بعض الذهنيات أضحت أسيرة أحكام قيمة أيديولوجية وإستراتيجيات سياسية مدروسة لجهات سياسية أو وسائل الإعلام؛ حيث يتم إقحام الهجمات الإرهابية وتدفق اللاجئين من الدول الفقيرة والمتوترة. رغم أن الهجرة هي واقع "موضوعي" و"دائم" ولم يتوقف منذ نشأة الإنسان، ولن يتوقف بعوائق وعراقيل إدارية وأيديولوجية، لهذا يجب أن تكون من بين الخيارات السياسية الأساسية كي تتمكن السلطة الوطنية من تدبيرها وفق حاجياتها الديموغرافية والاقتصادية. لأنه، وخلافا للأفكار الشائعة على نطاق واسع، القائلة بأنَّ وضع الهجرة في بلد ديمقراطي لا يخضع للفئة الحاكمة إلا قليلا، ولكنه في المقام الأول يكون نتيجة للعوامل الديموغرافية والقانونية والضغوط الاقتصادية.
ويذكر فرانسوا هيران، عِدَّة مرات، على سبيل المثال، بالعدد المستقر منذ العام 2002 بـ200000 تصريح إقامة، التي تم إصدارها سنويا للمهاجرين غير الأوروبيين، وهذا الرقم مرتبط أقل بكثير بهجرة العمالة وحق اللجوء منه بالتجمع الأسري، والزواج المختلط واستقبال الطلبة الأجانب. بينما الواقع يعكس اضطرار الدولة إلى إظهار عدم الانغلاق عن بقية العالم، واحترامها للاتفاقيات الدولية التي تحمي الحياة الأسرية، ولولا ذلك لما تدخلت فرنسا في قضايا الهجرة. ولكن ما دامت "واقعا موضوعيا" يستدعي "الحياد الملتزم والتوثيق الواقعي" ، حسب تعبير الباحث، يجعل اليوم من المستحيل فهم رفض ظاهرة الهجرة أو السكوت عنها، هذا الموقف نجد من يدافع عنه ويجعله مشروعا إستراتيجيا لبقاء فرنسا للفرنسيين، بينما البعض الآخر يدعو إلى إلغاء الحدود الوطنية لتتدفق دماء جديدة في عروق أوروبا العجوز.
ومن بين أجزاء الكتاب السبعة، يكرس هيران الجزأيْن الأولين من كتابه لسياسة الهجرة في فرنسا منذ وصول نيكولا ساركوزي منذ ماي 2002، وما طرأ عليها من تغييرات في وزارة الداخلية سواء خلال زيارته لساحة بوفو أو خلال فترة رئاسته، أو تلك التي جاء فيها خلفه هولاند. هذه الفترة عكستْ سياسة الهجرة التي استعملت وترجمت محدودية الإرادة السياسية وعدم فهمها للديناميات في العمل.
ومن بَيْن الإجراءات الدالة على ذلك عدم تمكن السلطة من حظر التجمع الأسري، وتطبيق سياسة "الهجرة المنتقاة" وهذا يدل على الفشل الكبير الناجم عن عدم القدرة على فهم العوائق؛ بدءا من التكلفة التي يفرضها تطبيق القوانين الجديدة المنظمة للهجرة. وتحت ضغط الأحزاب اليمينية التي تقدم أطروحات غير واقعية وتدابير تتعارض مع المبادئ الديمقراطية. بالمقابل قدم اليسار في السنوات الخمس الماضية بيانات موضوعية عن تراجع الدولة عن مبادئها الأساسية. وبهذا الصدد، يقدم الباحث مجموعة من البيانات والإحصائيات المدعمة لأطروحة التراجع، مستندا في ذلك إلى المعهد الوطني للإحصاء والدراسات الاقتصادية، والمعهد الوطني للدراسات الديموغرافية.
تقدم الأجزاء الأربعة التالية، وبوضوح كبير، الفاعلين الأساسيين في الإحصاءات الرسمية حول قضايا الهجرة والرهانات السياسية التي يثيرها العمل بها. يقول الباحث: إنَّ قليلا من الباحثين لهم وضع جيد لتقديم شهادة مطلعة ومعمقة عن إشكالات الهجرة؛ لهذا يعتبر إنجازه المستند إلى مرجعية علمية بحكم أنه كان المدير السابق لمعهدين متخصصين لمدة عشر سنوات. فهو إذن يعرف جيدا ظروف إنتاج البيانات الإحصائية، والتحفظات التي تفرضها الاحتياطات والتفسيرات التي يجب أن يخضع لها أي تقييم لوضع الهجرة.
يعُوْد فرانسوا بخاصة إلى الخلافات بشأن الإحصاءات عن أصول المهاجرين وأحفادهم "الإحصاء العرقي"، والذي تسبَّب له في غضب زميله الديموغرافي هيرفي لو برا واعتراضه على مجموعة من نتائجه. يعرض فرانسوا في هذه الحالة الشرط المزدوج الذي يضمن جدلا علميا، وهو "جزء من عمل الباحث" (كما في ص:149) لكن يجب أن يبقى العمل في إطار أكاديمي وخاضع لبراهين علمية. مهما كانت العقبات في طريق الباحثين، وعلى الرغم من ذلك، فإن البيانات الإحصائية عن الهجرة زادت إلى حد كبير منذ 1990 يذكر فرانسوا هيران بالاستخدامات السياسية التي تمكن المؤرخ جاك دوباكير من استغلالها، المعارض الشرس للتعداد الجديد والمجادل لإريك زمور المشهور بتأثيره على وسائل الاعلام. ومع ذلك، فإنَّ البحث يقدم أدلة قاطعة، أن تحقيقات المعهد الوطني للإحصاءات والتوثيق الذي يهتم أيضا بالمهاجرين داخل السجون. الموضوع الذي هو أبعد من أن يعتبر "محظورا" كما يدعي البعض، بل يكشف عن غياب نظرية "استبدال كبيرة" للسكان بسبب الهجرة غير الأوروبية. وبالرغم من ذلك، فإن هيران لا يدافع عن تصور واحد لمقاربة إشكالية الهجرة، بل يدفع الباحثين إلى الاهتمام بالإحصاءات والبيانات من طرف المتخصصين؛ لأنها ستُسهم في جعل النقاش العمومي والاختيارات السياسية أكثر إيجابية. ومن الضروري أيضا أنْ يغني الحوارات البناءة بين الأطراف المعنية حتى لا تقع في أشكال مختلفة من الاختزال المتكرر باستمرار بمجرد الحديث عن الهجرة.
ويتألف القسم الأخير من ثلاثة فصول وخاتمة عامة، وتشمل معظم الموضوعات التي سبق الحديث عنها. عنوانه: "زمن الاندماج"، وتشير على نحو فعال إلى الصبغة والمحتوى. وإلى المعرفة الإحصائية، التي تطورت خلال العقدين الماضيين، مُستنتجا أن معظم السكان من المهاجرين يندمجون فعليا في المجتمع الفرنسي مع مرور الوقت، حتى وإن كانت لا تزال في بعض الأحيان تقدم فروقا ذات دلالة إحصائية بالنسبة للفرنسيين المزدادين بفرنسا، وذلك بسبب التمييز الذي يتعرضون له. لهذا السبب، يجب أن يفكر في الاندماج كإستراتيجية عمل مرتبط بالجسم الاجتماعي كله، بما في ذلك المهاجرين وأبنائهم والمقيمين لفترة طويلة. وهذا يفترض، كما يكرر فرانسوا هيران، أن تعتبر الهجرة قاعدة بيانات تؤلف حتما مجتمعا، بغض النظر عن أصل تدفقات الهجرة والقلق الذي تسببه لبعض الهيئات السياسية بالدرجة الأولى.
نجح هذا الكتاب في نهاية المطاف نظرا لتحليله المزدوج والبارع. لأنه من جهة، وفر عن كثب معلومات دقيقة؛ لأنَّ الباحث قريب ومُلم بالأحداث والتطورات حول موضوع الهجرة، كما تبرهن على ذلك الصفحات المكرسة لقضية اللاجئين وتحليل الهجرة في برامج مرشحي الانتخابات الرئاسية في العام 2017. ومن جهة أخرى لا تزال ظاهرة الهجرة تدرج ضمن تاريخها من خلال إبراز خصوصية الحالة الفرنسية مقارنة بدول أخرى مختارة بعناية مقصودة. لهذا، فإنها توظف خطابا لجذب انتباه المتخصص والإنسان الحريص على معرفة العالم بطريقة أفضل.
يُمكن القول بأنَّ كتاب فرانسوا هيران يتميز تميزا كبيرا عن باقي الكتب الأخرى المتخصصة في تحليل ظاهرة الهجرة؛ لأنَّ الكاتب يمنح الإحصائيات المستمدة من سجلات وتحقيقات مؤسستين لهما مصداقيتهما في الوسط العلمي مكانة ومصداقية. كما بيَّن بوضوح عدم جدوى سياسة الهجرة التي ينادي بها اليمين المتطرف، ولكن ما يمكن أن يلاحظ على بحث هيران أنه لا يعالج إلا بشكل عرضي النقاط العمياء في مشاريع الهجرة والاندماج في فرنسا، خاصة وأوروبا عامة؛ مثل: مشروع التنمية القصير المدى، أو ما سُمِّي بسيناريو الحدود المفتوحة على الصعيد العالمي. يحظى هذا الموضوع حاليا بانتشار كبير في بعض البحوث حول الهجرة الدولية والجمعيات والدوائر النشطة في مجال الهجرة.
وكذلك سياسات مكافحة التمييز كانت تستحق أن تناقش بعمق أكبر، لكن هيران يلمح في خاتمة الكتاب أنَّ هُناك مسائل كثيرة لم يطلها البحث وهي من صميم قضايا الهجرة، ويمكن لجزء ثان من البحث أن يضيء هذه الجوانب ويتعمق فيها بالبحث والنقاش والحجاج مدعما أيضًا ببيانات وإحصاءات جديدة تراكمت خلال السنتين الأخيرتين، بعد التحولات الجذرية والمفاجئة التي عرفها حوض البحر الأبيض المتوسط اجتماعيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا.
لا بُد من الإشارة في الأخير إلى أنَّ فرانسوا هيران هو عالم في السوسيولوجيا والديموغرافيا، أدار لمدة خمس سنوات (1993-1998) شعبة الدراسات الاستقصائية والدراسات الديموغرافية في المعهد الوطني للإحصاء والدراسات الاقتصادية، ثم تولى إدارة المعهد الوطني للدراسات الديموغرافية لمدة عشر سنوات من عام 1999 إلى عام 2009. من بين مؤلفاته: عصور الهجرة بحث عن مصير الشعب الفرنسي. وكتاب تكوين الأزواج بحث من أجل سوسيولوجيا للأسرة.
-----------------------------------
- الكاتب: فرانسوا هيران.
- المؤلف: "مع الهجرة.. من أجل القياس والنقاش والتعامل".
- الناشر: لاديكوفيرت، فرنسا، 2017، باللغة الفرنسية.
