أحمد الرَّحبي *
يُقدِّم هذا الكتاب الصَّادر باللغتيْن الروسية والإنجليزية نظرةً مُوسَّعةً لمفهوم الشمال بمعناه الثقافي والاجتماعي بالدرجة الأولى، والتاريخي والسياسي باعتبارهما تجليًّا أو أثرًا تابعًا للبُعد الثقافي/الاجتماعي لظاهرة الشمال. والكتابُ عملٌ مشتركٌ قام به مُؤرِّخون وباحثون من روسيا والنرويج، ضمن مشروع دولي كبير يُعْرَف باسم "الجوار غير المتماثل" الذي يهدف لدراسة ظاهرة الشمال من مُختلف جوانبها، إلى جانب دراسة تاريخ العلاقات بين البلدين الجارين في الشمال الأوروبي؛ أي: روسيا والنرويج.
إنَّ مفهومَ الشمال لروسيا والنرويج وبضعة بلدان أوروبية أخرى ليس مفهومًا سياسيًّا، أو جغرافيًّا وحسب، وإنما يمتلك كذلك بُعدا ثقافيًّا تتجلَّى خصوصيته في أمزجة سكان الشمال ونمط تفكيرهم وخصائصهم العقلية وعاداتهم وتقاليدهم الاجتماعية. وفيما يخصُّ النرويج بالذات، لا يختلف اثنان على أنَّ الشمال بمفهومه الاجتماعي والثقافي والنفسي يُشكِّل الهوية الوطنية للغالبية الساحقة من النرويجيين. وفيما يتعلق بروسيا، فإنَّ طابعها الشمالي لصيق بهوية إنسانها أيضا، ولكن إذا ما حكمنا على هذا الطابع من الجانب الأيديولوجي والعاطفي المرتبط بالشمال والمتأصل في العقلية الروسية منذ الماضي البعيد. وعلاوة على ذلك، وعلى الرغم من كلِّ الفوارق بين القوم الروسي السلافي (يتوزَّع العرق السلافي في ثلاث جهات: السلاف الشرقيون وهم االروس والبيلاروس والاوكرانيون، والسلاف الغربيون ومنهم التشييكيون والبولنديون، والسلاف الجنوبيون ومنهم الصرب وسكان الجبل الأسود، على الرَّغم من كلِّ الفوارق التي تميِّز هذا القوم بالأقوام الاسكندنافية، إلا أنَّ الباحثين يكشفون عن شبه كبير في نظم القيم النمطية والسلوك البشري العام بين سكان المناطق الشمالية: النرويج وروسيا والسويد وفنلندا.
ويُؤكِّد الباحثون أنَّ الاهتمامَ الدوليَّ بالمناطق الشمالية ما برح يشهد نموًّا مستمرًا. وينطلق الباحثون من فكرتين كبريين لصياغة أطروحتهم حول الشمال: الأولى تنفي الفرق بين شمال وجنوب، شرق وغرب في بناء الحضارة الإنسانية وتجعل جميع الجهات الأربع على قدم المساواة في هذا الشأن. أما الفكرة الثانية فهي -كما يشير العنوان- أنَّ هناك أْشمُلَ في الشمال نفسه. أي الاعتراف بتنوُّع الشمال داخليا من جهة الجغرافيا ومن جهة سير التاريخ. مع ذلك يمكننا التحدث عن الحضارة الشمالية باعتبارها وحدة متجانسة في حوارها المتوتر مع الجنوب. ويحدد الباحثون حضارة الشمال في ثلاثة أقطاب: الأوروبية، والروسية، والأمريكية، ويرون أن هذه الحضارة شابة قياسا بحضارات الجنوب، وأنها جاءت لتحل محل الحضارات الجنوبية القديمة. وفي فترة السبعينيات من القرن الماضي بدأ السجال يشتد بين الشمال والجنوب، وبدأت بوادر الصراع تظهر على السطح لا سيما عند مناقشة مسائل تتعلق بالنظام الاقتصادي الدولي الجديد.
وعلى الرغم من أنَّ البعض ما زال ينظر إلى الشمال كموضوع عديم الأهمية، وأنَّه ليس إلا جزءاً من الغرب ولا يحظى بالاستقلالية، وأنَّ الثقل الفكري والبحثي يتمركز على ثنائية "الشرق-الغرب"، مع ذلك بدأت ظاهرة الشمال تخرج من الظلال وتتموقع في المساحة التي ستؤهلها لاحقا لملء حيزها الحقيقي، وقد بدأت إرهاصات ذلك تظهر للعلن؛ حيث أصبح من المستحيل اليوم التحدُّث عن التنمية العالمية وتنبؤ المستقبل البشري بمعزل عن الشمال. إضافة إلى ذلك، فإنه: "في إطار تغير الاتجاه الجيوسياسي إلى الشمال، فقد تفاقم التناقض الشمالي الجنوبي وذلك بسبب اشتداد المنافسة العالمية على القطب الشمالي لما يضمه من موارد طبيعية هائلة، ولرغبة البلدان الجنوبية في أخذ حصتها منه. وعلى هذه الخلفية، يتراجع اليوم الصراع التقليدي للعصر الحديث بين الشرق والغرب الذي بدأ أثناء الحروب النابوليونية، بينما تبقى أكبر بؤرة لهذا الصراع، المواجهة بين الولايات المتحدة والصين" (ص:48).
ومن المعلوم أنَّ في فلسفة المجتمعات التقليدية تتأصل الصورة النمطية التي تقدم الجنوب على أنه غني ومتحضر، خلافا للشمال الفقير والبدائي والقاسي. اليوم، كما يشير إلى ذلك مؤلفو الكتاب، نشهد انقلابَ هذه الكليشات الاجتماعية والثقافية. ويؤكد الباحثون على دور الشمال في راهن حياتنا وتمتعه بخصائص الزعامة الحضارية، وإمكاناته العلمية والصناعية الكبيرة وتوفره على الحياة الكريمة لسكانه. بعكس الجنوب العالمي الذي يعيش راهنا قرينا بالفقر والتخلف والاكتظاظ السكاني ما فتح شهية النزوح منه إلى الشمال المزدهر. ويرى الباحثون أن الضغط السكاني للجنوب يمثل عامل تهديد للمناطق الشمالية، وأن موجات الهجرة من الجنوب، وغيره من الجهات، مرشحة للتصاعد بشكل دائم.
وفي فصل "مفهوم الشمال في الخريطة العقلية للأوروبيين"، يتطرق الباحثون إلى المفهوم المتحرك للشمال، وأنه ظل متأثرا بالأحداث التاريخية والتحولات السياسية الكبرى؛ وذلك بدءا من بروز الصدام بين الامبراطورية الرومانية المتحضرة والقبائل الجرمانية البربرية القادمة من الشمال؛ حيث أدى قدومهم ذلك إلى رسم صورة لهم مغايرة لصورة الجنوبيين من سكان أوروبا. في الحقبة اللاحقة، التي تنسحب حتى الزمن الحديث، اتسع التباين بين الجنوب والشمال على خلفية النزاع بين العالمين الكاثوليكي واللوثري، وأخيرا في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، نشأت وانتشرت الفكرة عن أجناس الشمال الأوروبي واعتبار سكان الشمال من أكثر سكان القارة الأوروبية طاقة وتحملا لأعباء الحياة.
وفي فصل "البُعد التاريخي للشمال الروسي"، يحصر الباحثون مهمتهم في تقصي طابع وهوية الشمال في التاريخ الألفي لروسيا. ينبشون في هذا الفصل الخصائص الثقافية والاجتماعية المكونة للهوية الشمالية لروسيا، فيرونها في الغالب في دائرة الحوار بين الروس وجيرانهم من الدول الاسكندنافية. حدث ذلك في فجر التاريخ الروسي عندما دعا الروس الأمراء الاسكندنافيين لإدارة بلادهم. وفي فترة الفتنة الكبرى، حين قام الجيش الروسي والسويدي بطرد قوات القيصر دميتري المُحتلة من موسكو، ومن ثم، بعد مائة عام من ذلك، حين أسس الأمبراطور بطرس الأول مدينة سان بطرسبورج وجها لوجه مع الدول الاسكندنافية، وجعلها عاصمة لبلاده، ومن يومها بدأت مفردة شمال تترسخ في الوعي الجمعي الروسي وتجلت في مختلف مناحي الحياة (من ذلك أسماء المجالات الأدبية المعروفة: النحلة الشمالية، زهور الشمال، أرشيف الشمال...إلخ). كما ظهر موضوع الشمال مع بداية السلطة السوفيتية؛ حيث قامتْ بتجربة جريئة تتمثَّل بشق الطريق البحري الشمالي على مقربة من القطب الشمالي. ولكنْ اعترضت هذا المشروع مشاكل فنية كبيرة مما تسبب في تعطيله، ويتوقع لهذا المشروع في حالة إتمامه مد الاتصال بين الجزء الأوروبي لروسيا بشرقها الأقصى، وهي مسافة تستغرق أسبوعا بالقطار حيث تلتف بسيبيريا. ومع انهيار منظومة الاتحاد السوفيتي الذي كان يُمثل الشرقَ الاشتراكيَّ، ويقف في مُواجهة الغرب الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة، اختفى وضع روسيا كبلد شرقي في مقابل تعاظم هويتها الشمالية.
وفي الفصلين التاليين من الكتاب -وهما: "البرابرة الشماليون والحضارة الشمالية"، و"تأثير العوامل المناخية في تشكيل العلاقات الاجتماعية بين سكان الشمال الروسي الأوروبي"- يهتم الباحثون بدراسة الجانب الثقافي لمناطق الشمال محل بحثهم. في نظرهم أنَّ طبيعة الظروف القاسية للشمال الروسي حتَّمت على السكان الالتزام بطريقة عيش جماعية، حتى غدت الجماعية إحدى أهم سمات المجتمع الروسي قاطبا. ومن السمات الأخرى التي ورثها المجتمع الروسي من الطبيعة القاسية: الإعلاء من قيمة الإنسان وتثمين وجوده على قيد الحياة. فالحاجة إلى الأفراد كانت ملحة للأعمال الزراعية التي تتطلب الكد وسرعة التنفيذ؛ فالصيف قصير للغاية والحياة متعلقة بمحاصيله. وللسبب نفسه كان الجميع رجالا ونساء يعملون جنبا إلى جنب، وبنفس الوتيرة والطاقة، أمَّا تربية الأطفال فيعهد بها للجدات، وهو تقليد راسخ لا يزال يؤخذ به في روسيا حتى اليوم.
ثمَّة آثارٌ أخرى رسمتها طبيعة الشمال القاسية في ملامح الحياة والشخصية الروسية. فالمساحات الهائلة الخالية من الطرق لعبتْ دَوْرًا في تشكيل المجتمع القوي بدنيا، وثبتت من علاقاته الداخلية، وعززت المعايير العالية تجاه أفراده. وبسبب فترات الفراغ الطويلة؛ حيث الثلوج تغطي الأرض وزرعها معدوم، تطورت في المجتمع الحرف اليدوية التي تعتبر النواة الأولى للصناعات الروسية المتقدمة. وبالمقابل، يشير الباحثون إلى أن: "بُعد المستوطنات الروسية الشمالية وغياب المصالح المشتركة مع الآخرين مهدت للعدمية القانونية هناك، والتي أصبحت فيما بعد سمة للشعب كله. مثال على ذلك: فبسبب وفرة الغابات لم تواجه السكان مشكلة الوقود ومواد البناء والموارد الغذائية، وعندما أرادت الحكومة المركزية في الوقت الحاضر اتخاذ إجراءات لحماية الغابات والحفاظ على البيئة، عارضها الناس واعتبروا ذلك تعديا على حقوقهم الموروثة عن أسلافهم. وقد عقَّد عدم التفاهم هذا العلاقات بين السلطات والسكان الذين عودتهم الطبيعة على الرضوخ السطحي لها فيما الداخل يحتد بقوة. ونجد سِمَة التعامل مع الظروف المناخية هذه ماثلة في طبع الإنسان الروسي، فكما لم يكن بمقدوره أن يقاوم جبروت الطبيعة واضطراره إلى التجمل بالتواضع تجاهها، فقد تحمل بنفس المقدار السلطة ومنفذيها من رؤساء ومديرين؛ حيث ينظر إليهم باعتبارهم "مَصْدرًا للضرر ليس إلا" (ص:176).
يجمع الباحثون على أن قدرة السيطرة على المساحات الواسعة هي ميزة أساسية مشتركة لكل ثقافات الشمال. والواقع أن انخفاض الإنتاجية الزراعية للمناطق الشمالية يتطلب توزُّع السكان وحركيتهم العالية في سبيل كسب الرزق؛ لذلك: "أسس أسلاف الفايكنج دولا ذات مركزية صارمة (...) تبرز فيها العقلية الرصينة والبراجماتية التي كان يتحلى بها حكام الممالك النورمانية. تمثل ذلك في النظرة إلى القانون باعتباره أفضل آلة لترسيخ أركان الدولة. وظهرت البراجماتية حتى في المعالجات الحذرة للدين والكنيسة: تم الحفاظ علي البابوية، ولكن مشاركتها في الشؤون الدنيوية كانت محدودة. نرى إرث الفايكنج أيضا في طابع التمدد لشعوب أوروبا، وسعيهم الاستثنائي للسيطرة على الأراضي الخارجية، وحركتهم العالية التي يشوبها الجشع. كما لا ننسى أن الثقافة الأنجلوسكسونية المهيمنة على العالم الحديث هي الثقافة التي أرست جذورها بُعيد غزو النورمان لبريطانيا (ص:56-55).
ويدرس مؤلفو الكتاب الميزات الثقافية والاجتماعية للشعوب الأخرى، وبينهم المغول الذين تعتبر عاصمتهم "أولان باتور" أبرد عاصمة في العالم (لا يرتقع متوسط درجة الحرارة فيها عن أربع درجات تحت الصفر، فيما المتوسط السنوي في موسكو خمس درجات وثمانية أعشار الدرجة). ويعتقد الباحثون أن التسامح والانفتاح أبرز سمتين ميزتا المغول وسمحت لهم إثبات إمكاناتهم الحضارية: "تمكنوا من استيعاب المجتمعات الأخرى، واستخدموا مواردها للمزيد من التوسع. وقد أثبتت تلك الممارسة فاعليتها العالية في تنظيم الجيوش وإدارة الدولة (ص:57-56).
يستنتجُ الباحثون في فصل "الفضاء الروحي والفكري لمنطقة القطب الشمالي" أنه -وعلى الرغم من التنوع العرقي، وتفرد التطور التاريخي والهوية الثقافية لشعوب الشمال، إلا أن- ثمة سمات مشتركة كثيرة تجمع بينهم؛ ومنها: الميل إلى التوسع الاستعماري، والقدرة على التكيف والبقاء على قيد الحياة في ظروف بيئية قاسية، وضآلة التمييز الاجتماعي، ووجود فكرة المساواة الاجتماعية المتأصلة في الوعي، والانتشار المتأخر للمسيحية، والمستوى العالي من التنظيم الذاتي للمجتمع، والابتعاد عن بؤر الحياة السياسية.
-----------------------------
- الكتاب: "لا وجود لشمال واحد: ثمة أشْمُل".
- المؤلف: مجموعة مؤلفين.
- الناشر: دار ليناند، موسكو 2016، باللغة الروسية والإنجليزية.
- عدد الصفحات: 288 صفحة.
* كاتب عماني
