لجونج هي جيه
محمود عبدالغفار *
ظلَّ هذا الكتابُ لحوالي أربعة عشر أسبوعًا ضِمْن قائمة الكُتب الأكثر مبيعًا في كوريا، بعد أنْ أُعِيْد طبعه في فترة وجيزة.. يبدأ الكتابُ التنويهَ عن موضوعه الشائق من الغلاف مباشرة باقتباس لحوار من دراما كورية، حقَّقت شهرة ولاقتْ اهتمامًا كبيرًا في البلاد قبل عدة أشهر "شيكاجو تاجاكي"، أو " الآلة الكاتبة في شيكاغو"؛ حوار دار بين الشخصيتين المحوريتين في تلك الدراما مكتوب جنبًا إلى جنب مع صُورة للآلة الكاتبة على غلاف الكتاب؛ تلك التي عُثِر عليها البطل في شيكاغو بعد رحلة صعبة من البحث؛ لأنَّها كانت قد صنعت في وطنه كوريا: "أنت! لقد عملت بكدٍ حتى الآن لأجل أن تعيش، لأجل أن تتمكن من البقاء حيًّا في هذا العالم. لقد تعبت كثيرًا بالفعل". بتلك الكلمات أحسَّ المتحدَّث إليه بنوعٍ من الراحة على نحو ما تفسر مؤلفة الكتاب. ومن هنا، وبهذه القدرات التشويقية، تبدأ رحلة البحث عن الكلمات التي ننتظرها جميعًا، ودون استثناء، لنتخفف من مصاعب الحياة وآلامها أينما وجدنا على هذا الكوكب.
ولدت المؤلفة جونج هي جيه في مقاطعة جونام، وبها قضت سنوات طفولتها، ثم عاشت فترة المراهقة والشباب في مدينة بوسان، وانتقلت منذ العام 1996م للعيش في العاصمة سيول؛ مما يعني أنها تتحدث لهجات لثلاث مناطق مختلفة في كوريا، وهو ما عبَّرت عنه بكل فخر في مناسبات عديدة، لكنه فخر ممزوج بنوعٍ من الألم لأن الناس بتلك المناطق لم يتقبلوها باعتبارها من السكان الأصليين، وهو أمر يلعب دورًا كبيرًا في تكوين علاقات قوية مع الآخرين في كوريا الجنوبية بشكل خاص. لذا؛ فقد كانت تحس دومًا أنها مزيج أو خليط بين سكان الريف والحضر، مزيج من الرحالة والأشخاص العاديين المستقرين بالأماكن.
وربما من هنا تشكلت أفكارها حول حاجاتنا لكلمات المواساة والدعم والاعتراف بمنجزنا مهما كان متواضعًا، والتخفيف عن همومنا ومشكلاتنا مهما بدت بسيطة للآخرين. نشرت جونج هي جيه عددًا من المؤلفات، وُصِفَت بقيمتها العالية ولغتها شديدة العذوبة والرقي فيما يتعلق بفهم الذات والعالم والحياة. ومن هذه المؤلفات: "تعلمتُ الحب هناك"، " تمنَّ حظك"، "قصة التّبت"، "الروح التي ليس بمقدورك أن تحبسها"، وهذا الأخير سيرة ذاتية لراهب بوذي شهير في التبت "بالدن جياشو". وبدافع من حبها للأطفال وعشقها اللعب معهم كتبت بعض الكتب المصورة خصيصًا لهم؛ مثل: "ساعدني يا رجل فرشاة الأسنان"، و"انتبهي يا ساحرة المقرمشات". وهي حاليًا منشغلة بالتنقل بين المدن الكورية لتتعرف على الناس، وتتحاور معهم عبر حسابها الخاص على موقع "نيفر"، مُواصلةً رحلتها في فهم الذات والآخر والحياة والعالم من حولها.
أمَّا عن الكتاب، فقد جاء في أربعة فصول.. وقد اشتمل كلُّ فصل على عدد من النقاط. وسنبدأ تناول محتوياته من الفصل الرابع والأخير لأنه الفصل الذي ربما استمد الكتاب عنوانه منه أو العكس: "كلمات ربما تتوق النفس إلى سماعها". تناولت المؤلفة في النقطة الأولى منه الفترة التي كانت خلالها تعيش في الطابق الأخير بمنزل مستأجر، كما تناولت ما يتعلق بفكرة أن تحس بالرثاء لحالك لأنك تتناول الطعام وحدك، لكنها مع ذلك تعتبر مثل هذا الوقت وقتًا مقدسًا. وتحت عنوان "آمل أن تكون الليلة أكثر إظلامًا" تناولت بعبارات شعرية فكرة لطيفة بصيغة حجاجية تشبه ما اعتدنا عليه عند الحديث إلى الأطفال: "بينما تغط في النوم. كل التعاسة والمأساوية التي تتبعتك طيلة النهار ستنام هي الأخرى. إنه الظلام. الظلام التام. وسيكون من المُلهم لعقلك المشوش باليأس أن يستعيد -دون شك- الإحساس ثانية بالبحث عن رغبة لم تتحقق بعد". ثم تتناول بعد ذلك عدة نقاط مثل: المكان الذي تود أن تسير فيه سيرًا حثيثًا، وإليك يا مَنْ ستقطع طريقًا مُنهِكًا إلى عملك في الغد! والسعادة تكمن في قدرتك على تنتزع يومك الجديد انتزاعًا من اليوم الحالي. وهنا تحديدًا تتحدث عن علاقتنا المؤقتة بالسعادة تلك التي تشبهها بعمل غير دائم لعدد من الساعات يوميًّا: "السعادة تكمن في كل عملٍ لا يمكنك إرجاؤه إلى الغد!". ثم تختتم هذا الفصل بالتأكيد على أنَّ الإنسانَ يعيش حياته لمرة واحدة فحسب. لا يعني هذا أن يعيش المرء دون اهتمام بالأشياء من حوله، وإنما يعني أن يعيش دون أن يحمل نفسه من الأعباء ما لا طاقة له به. الحياة بسيطة وعلينا أن نعيشها بخفة تتناسب مع بساطتها. فكل ما يحتاجه المرء لأجل أن يظل حيًّا هو الطعام؛ أبسط أنواع الطعام تكفيه. وكل ما يحتاجه لستر جسده هو الملبس؛ ومن حسن الحظ أن أبسط أنواع الملبس تكفيه أيضًا. كما أن أبسط الأمكنة تحميه وتوفر له الأمان. على المرء أنْ يترك لعقله فرصة الاسترخاء وستتكفل طبيعتنا الخيرة بملء كل الأمكنة المتاحة في رأسه آنذاك. إنَّ كل ما يحتاجه المرء قابعٌ داخله؛ ذلك الداخل الجميل والمتميز. بهذه الكلمات الجميلة ذات الجذور البوذية تختتم المؤلفة الفصل الأخير من الكتاب.
وبالعودة إلى افتتاحية الكتاب تحت عنوان "تغلبتُ على الأوقات التي لا تُطاق بفضل العبارات المشرقة الحماسية"، تقول المؤلفة إنها كلما نظرت إلى الوراء، تذكرت كيف تغلبت على الأوقات الصعبة والأشياء المُتعِبة التي لم تستطع تقبلها بفضل قوة الكلمات التحميسية المبهجة من الآخرين في محيطها. كلمات بسيطة شديدة التواضع في الحقيقة لكن ما تحمله من طاقة إيجابية عند سماعها يفوق الوصف. كلمات تخبرك أن هناك أحدًا يهتم بك ويبحث عنك ويتطلع لأن تكون في أحسن حال. عبارات خفيفة بلغة بالغة الاعتيادية تستطيع بكل تلقائية أن تجعلك في حال أفضل: "هل أكلت؟" "أين أنت الآن؟" "لقد اشتقت إليك". وهذا الكتاب على أية حال يدور في فلك مثل هذه العبارات التي تتوق نفوسنا جميعًا لسماعها لتمسح عنا أوجاعنا اليومية. عبارات نحتاجها جميعًا رغم بساطتها الشديدة، تمامًا كحاجتنا إلى من ينادينا بأسمائنا بين الحين والآخر. قد ندَّعي أننا بخير وأن كل أمورنا على ما يرام، ولكننا في العمق نظل في حاجة إلى عبارات المواساة والتشجيع من الآخرين.
في الفصل الأول بعنوان "لماذا تدّعي دائمًا أنَّك بخير؟" تذكر الكاتبة أنَّه يحدث أحيانًا أن تشعر بالامتنان والرضا لثناء الآخرين ودعمهم، ولكن في أحيان أخرى تكون كلماتهم غير مرضية ولا مريحة. في هذه الحالة ليس عليك أن تتقبلها بعقل مُسترخٍ، كما أنه ليس عليك أن تدعي ساعتها أن كل شيء بخير. في النقطة التالية من هذا الفصل بعنوان "أكثر ما تتوق نفسي لسماعه من أمي" تقول لو أنَّ أمك لا تزال على قيد الحياة فهذا يعني أن هناك من يرعاك ويهتم لحالك كما كانت أمي تفعل معي. ففي تلك الليلة ذات صيفٍ تذكرتُ دموعها، ثم تحشرجت الكلمات التي لم يكن باستطاعتي أن أبوح بها إليها بحلقي لأنها لم تعد معي. في النقطة التالية تتحدث المؤلفة عن الأشياء التي يجب معرفتها بعد انتهاء علاقة ما خاصة علاقة الحب. فبعد فشل مثل تلك العلاقة عليك أن تخبر نفسك أنه ليس عليها أن تقلق على مصير الروح فيما بعد لأنها مع ذلك الحب -حتى مع انتهائه- قد ولجت الجنة وعرفت مذاقها ولو لمرة واحدة. ورغم ما قد تصيبك به تفاصيل الحياة اليومية من يأس فلا تندم أبدًا على تلك الأوقات التي اقترضتها فيما سبق من تلك الجنة! بعد ذلك تتحدث الكاتبة عن كيفية أن يكون المرء نافعًا؛ نفع المرء لا يتحقق وحصوله على تقدير الآخرين لن يتحقق، إلا إذا كان المرء نفسه مقتنعًا بقيمته وأهميته ونفعه لنفسه وللغير. أما عن النقطة التالية بعنوان "أشد الحقائق بساطة عن معنى العمل" فقد ركزت خلالها لا على العمل بالمعنى الذي نعرفه جميعًا، وإنما على فكرة مؤداها أنه من الجميل ومن المقبول أن تكون عنيفًا عندما تتطلب الأمور ذلك. ثم يتناول الفصل عددًا آخر من النقاط؛ مثل: عندما ينفطر القلب ألمًا بسبب الآخرين. لقد فعلوا ذلك لأن فيهم رعونة مثلي. الحياة بلهاء ولكن الرحلة مستمرة. ثم أخيرًا: ذلك الشيء المسمى بالشتاء قارس البرودة أيقظني؛ فعندما يأتي الربيع ألملم الأشياء التي تركتها ورائي متسائلة عن مقدار ما أحسته من برد بعد أن سُلِبت الدفء.
وفي الفصل الثاني بعنوان "لحظات الخوف عندما كان الوالدان على قيد الحياة". عندما تغيب الشمس فهذا يعني أنك قد أتممت يومك. لقد كنا نشعر بالخوف والقلق أحيانًا حتى في وجود والدينا أحياء بجانبنا؛ لذا فليس هناك ما يدعو للقلق إن شعرنا بالخوف بعد رحيلهم عن عالمنا. علينا أن نكون قد تعلمنا من غياب الشمس المتكرر أننا ما زلنا بأمان، ومن ثم، وعلى هذا النحو من التفكير سنكون في أمان مستقبلاً. ثم يتناول هذا الفصل عددًا من النقاط الأخرى مثل: لقد أثرت في ذاتي. هل أندم؟ على الإطلاق. الأوقات الطيبة والعصيبة في الحب. حتى مع غياب الحب، فإنهم يعرفون كيف يحبذون الأشياء. صعوبات مرحلة المراهقة. لا تكن متشبعًا بأحساس معين في لحظة معينة؛ فالمشاعر تأخذ وقتها وتمر، ومع ذلك ومهما تعلمنا يحدث كثيرًا أن نظل رهن شعور ما لفترة من الزمن. ثم أخيرًا يعرض في هذا الفصل ما ذكرته الكاتبة تحت عنوان "الأشياء التي يمكنك أن تفسرها بكلمة (الأفضل)". فإلى متى وبأي درجة يجب عليَّ محاولة أن أكون الأفضل؟ وما السبب في ذلك؟ بل ولماذا من الأساس عليَّ محاولة أن أكون الأفضل؟ هل نخشى أن نكون وحدنا إن لم نكن الأفضل؟ لا أعرف الإجابة في الحقيقة. كل ما أعرفه في هذا الخواء المسمى "الحياة" أنني قد أكون الأفضل أحيانًا، والآخرون من حولي هم الأفضل في أحيان أخرى، وأنني بقدر ما تصيبني التعاسة سأفرح؛ فهذه سُنَّة الحياة.
الفصلُ الثالث بعنوان "حقًّا تعجبني لحظة إحساسك بالضعف!"، يبدأ هذا الفصل بالحديث عن سبب ذهاب الكاتبة المتكرر إلى المطار؛ حيث تقول إنها تريد أن تتبع ذلك الفارس الذي حارب الريح في الأساطير القديمة، لكنها تقر بعجزها عن امتلاك القدرة على استجماع قواها حال هزيمتها. إنها شخصية لا يمكنها أن تكون في مكان ما دون أن تخوض صراعًا داخل عقلها، كما أنها لا تتمتع بشجاعة الاستسلام والرحيل. على إية حال، وعلى لسان الكاتبة تقول: كلما وقعت أزمة أحسست أمامها بضآلتي، اتجه على الفور إلى المطار ولو لتناول وجبة خفيفة وفنجان من القهوة ثم أعود إلى بيتي. فخلال وجودي في المطار أحس كما لو كنت رحالة تبغي احتضان العالم الغريب عنها بمنتهى القوة. النقطة التالية في هذا الفصل بعنوان: "سبب ذلك أننا وحيدون". ففي لحظة ما نحس كما لو كنا فارِّين، وكأن أرواحنا تهرول بحثًا عن مكان لتتخفى بعيدًا هربًا من اليأس والوحدة والقلق والصدمات، إلى أن ندرك أنه ليس علينا أن نهرب أو نتخفى أمام كل ذلك. كل ما علينا أن نعيه هو تقبُّل ذلك عندما يحدث لأنه، وبأي معنى من المعاني، لن يدوم. ثم يتناول الفصل عدة نقاط أخرى: الكلمات التي أسمعها عندما أشعر بالحب. إنه ليس شيئًا تراه عندما تسافر فحسب. الإنسان الراضي رحالة داخل نفسه يدرك قيمة الأشياء التي لا تقدر بثمن في حياته. الحياة في غاية البساطة. ثم تتحدث تحت عنوان "بعد أن نتجاوز المراهقة" عن أنه ليس هناك إجابات في الحياة. عليك أنْ تتقبَّل ذاتك على النحو الذي هي عليه دون شد وجذب، وأن تحاول تغيير ما تستطيع تغييره فحسب. أما النقطة الأخيرة في هذا الفصل، فهي التي استمد الفصل عنوانه منها "تعجبني لحظة إحساسك بالضعف"، وتتحدث فيها عن مدى بساطة ما يطلبه الناس أو يتمنونه. لكن العجيب في الأمر أن البعض لا يدرك أن طلب الأشياء البسيطة يعني أنك شخص بسيط؛ وبالتالي علينا أن نعيش الحياة ببساطة دونما تعقيد وأن نتعلم كيف نقدم الدعم والتشجيع الذاتيين لأنفسنا، فكم من مرة أنا شخصيًّا أضم راحتيّ معًا وأقول هامسةً: "أنا هنا معك أشجعك وأدعمك. أنا هنا الآن ودائمًا لأجلك. وبهذه العبارات الشعرية التي نحتاج أن نرددها لأنفسنا جميعًا إن لم نجد من يقولها لنا تختتم الكاتبة بلغتها العذبة هذا الفصل من الكتاب.
-------------------------------------
- الكتاب: "كلماتٌ ربما تتوق النفسُ إلى سماعِها".
- المؤلفة: جونج هي جيه.
- الناشر: جيل ليون، 2017م، باللغة الكورية.
- عدد الصفحات: 256 صفحة.
* مدرس الأدب الحديث والمقارن، كلية الآداب - جامعة القاهرة
