«دليل أكسفورد.. المعين على الفلسفة الإسلامية»

81NwRS55eaL.jpg

مُحمَّد الشيخ

ظُلمت الفلسفة العربية الإسلامية من طرف مجايليها، كما لا تزال تُظلم من لدن مجايلينا اليوم. ظُلمت من طرف مجايليها؛ لأن قطاع المفكرين الإسلامي المحافظ حاصر فلاسفة العرب والإسلام بالتبديع والتفسيق، بله التكفير. فكان أن صدرت فتاوى شهيرة في تحريم الاشتغال بالفلسفة والمنطق، وكان أن أُطلقت مراسيم عدة في منع الاشتغال بكتب الأقدمين، وكان أن أُحرقت الكثير من كتب الفلاسفة. وظُلمت الفلسفة الإسلامية من لدن مجايلينا؛ لأن الكثير من مؤرخي الفلسفة العربية الإسلامية اختزلوا جهود حوالي إثني عشر قرنا من العطاء الفلسفي العربي الموصول، وحوالي مائتي فيلسوف مسلم وما ينيف، في ما يمكن تسميته "كتب الصحاح": كتب ثلاثة من مشرقيي فلاسفة الإسلام (الكندي والفارابي وابن سينا) وكتب ثلاثة من مغربييهم (ابن باجه وابن طفيل وابن رشد). وَلكَ ما شِئْتَ أن تُحَدِّث الناس عن ابن عدي وعن أبي الحسن العامري وعن ابن كمونة، وعن عشرات من أمثالهم من متوسطي مشاهير هذه الفلسفة، كما لَكَ أن تُحَدِّثَهم عن شهيد بن الحسين وعن النوشجاني وعن نظيف الرومي، وعن مائة من أمثالهم من مغموري هذه الفلسفة، فلا تكاد تجد من سمع بهم، ولا حتى من سمع بمن سمع بهم.

والحال أن هذا الكتاب -دليل أكسفورد للفلسفة الإسلامية (2017)- جاء لكي يصحح هذه الرؤية المختزلة إلى تاريخ الفلسفة الإسلامية. وما كان هو الكتاب الأول في العقد الأخير، وإنما هو الأهم والأوفى إلى حد اليوم. فقد ائتلف جمع من خيرة المختصين في الفلسفة العربية الإسلامية، غربيين وشرقيين، بغاية تصحيح مروية الفلسفة الإسلامية التي ما فتئت تنشرخ.

ويشير جامعا الكتاب -أستاذ العربية وتاريخ الفكر الإسلامي بجامعة هارفارد خالد الرويهب (لبناني الأصل)، وزابينه شميدتكه أستاذة تاريخ الفكر الإسلامي بجامعة برنستون (ألمانية)ـ في مقدمتهما التي وضعاها للكتاب إلى أنَّ دراسة الفلسفة الإسلامية قد دخلت حقبة جديدة ومثيرة في الآونة القليلة الماضية، بحيث أمست تشهد على حركة مراجعة جذرية ومساءلة نقدية للأنموذج المكرس عن الفلاسفة المسلمين وعن مروية مسار الفلسفة الإسلامية. ذلك أن مجموع الباحثين الغربيين في القرن العشرين ركزوا على الفترة الممتدة ما بين القرن 9 الميلادي (القرن الثالث الهجري) (نشأة الفلسفة الإسلامية) والقرن 12 الميلادي (القرن السادس الهجري) (أفول الفلسفة الإسلامية المزعوم). هذا بينما من باب إنصاف الفلسفة الإسلامية القول بأنها ما فتئت تشكل جهدا تواصل فيما وراء القرن السادس الميلادي، وأن لكل قرن من قرون الفلسفة الإسلامية المديدة أهميته التي لا يمكن أن تنكر بأي حال.

ومن هنا، سَعَى الكتاب إلى إعادة النظر في "المروية الراسخة" عن الفلسفة الإسلامية التي تجعل منها، من جهة، مجرد "حافظة" و"حاشية" على التراث الإغريقي خلال "عهود الظلام" الأوروبية، ثم كان أن انتقل هذا التراث انتقاله إلى الغرب اللاتيني خلال القرنين 12 و13 الميلاديين؛ مما لا يجعل من قيمة لهذه الفلسفة اللهم إلا في حقبة معينة، بينما يتم إهمال تواصل صدور أعمال الفلسفة الإسلامية المتأخرة. أكثر من هذا، وهذه هي الجهة الأخرى، اعتقد البعضُ أنَّه وتحت ضربات النزعة السنية الكلامية مات التقليد الفلسفي في العالم الإسلامي في القرن الثاني عشر الميلادي. وكان أن انتقلت الفلسفة الإسلامية -ويا للحظ العجيب!ـ إلى الغرب.

والحقُّ أنَّ لهذه الصورة المختزلة عن الفلسفة الإسلامية تاريخا. هذه أهم أعلامه من الباحثين في تاريخ هذه الفلسفة مستعربين وعربا: دي بور (1902)، أوليري (1922)، مدكور (1934)، الفاخوري والجر (1957)، واط (1962)، ثم نسج الباقي على منوالهم.

وأمَّا الروَّاد الذي ساءلوا هذا الأنموذج الاختزالي، فقد كانوا بدءا من الستينيات من القرن الماضي هم: هنري كوربان، سيد حسين نصر، نيكولا ريشر. تأثر الأولان بالتقليد الفارسي، فأظهرا استمرار التقليد الفلسفي الإسلامي في الأوساط الشيعية إلى حدود الحقبة الحديثة. وقد ركزا على بزوغ التيار الإشراقي المعادي للمشائية (السهروردي)، وعلى الفلسفة المتأخرة التوليفية والصوفية في القرن السابع عشر الميلادي. وذلك مثلما أن ريشر نبه إلى استمرار التقليد المنطقي في القرن الثالث عشر الميلادي بعد إعلان أفول الفلسفة الإسلامية المزعوم.

وكان أن ألهم هذا التقليد الجديد مؤلفي كتاب "المعين في الفلسفة العربية" الصادر عن كامبريدج عام 2005، بحيث أنهم -فضلا عن الحقبة القرن 9/12م- أضافوا فصولا حول السهروردي والفلسفة الفارسية المتأخرة، كما طوروا في الفصل المتعلق بالمنطق حدوس ريشر فيما يخص القرن 13 الميلادي.

وعلى أنه في السنوات الأخيرة تمَّ التنبه إلى أن كوربان ونصر بالغا في تقدير التوليفة الأفلاطونية الصوفية الشيعية في القرون المتأخرة. وبهذا رُد الاعتبار إلى التقليد الفلسفي الطبيعي والمنطقي الذي لم يكن قد حظي بكبير اهتمام عند هذين الأخيرين. وذلك مثلما نبه بعض الباحثين إلى أن ثمة مروية أخرى للفلسفة الإسلامية خارج إطار التقليد الإشراقي الفارسي، حتى وإن لم يكن أعلن أبطال هذه المروية من فلاسفة ومناطقة الإسلام في ما بعد القرن 6 الهجري عن جهودهم تحت مسمى "الفلسفة" مخافة أن توجه إليهم الزندقة.

وفضلا عن هذا، عاشت الفلسفة الإسلامية عيشتها ممتزجة بتشبع علم الكلام بمفاهيمها وطرائقها وإشكالاتها (مسألة المعرفة، الصلة بين الوجود والماهية، العلاقة بين الروح والجسد، المقولات الأرسطية، الحمل، الجهة، طبيعة الزمان والمكان، الطبيعيات والكونيات)، كما تم إدماج المنطق في التدريس بالمدارس الإسلامية في القرون المتأخرة. ونسي مقدما الكتاب الإشارة إلى جنوح التصوف نحو الأخذ بطرائق التفلسف؛ بحيث صرنا أمام التصوف الفلسفي، مثلما أمسينا أمام الكلام الفلسفي. وقد مارس الفلسفة الكثير ممن لم يتسموا "فلاسفة" في مناقشة قضايا معرفية وميتافيزيقة وطبيعية ومنطقية.

وعلى مستوى النشر، بفضل جهود كوربان ونصر تم نشر أعمال ملا صدر الشيرازي (ت. 1045 هـ/1635م) على أنه يمثل "ذروة" التقليد الفلسفي الإسلامي المتأخر. لكن أظهرت نشرات أحدث فلاسفة متأخرين فرسا نشطين كانوا ناقدين للملا صدرا، من أمثال رجب علي التبريزي (ت 1080هـ) وآغا حسين خوانساري (ت 1243هـ)، كما تم التنبيه على فلتات مهمة في مروية الفلسفة الإسلامية، كابن كمونة (ت. 683هـ) وقطب الدين الشيرازي (ت. 711هـ) وابن جمهور الاحسائي (ت 883هـ) ونجم الدين التبريزي (ت928هـ)، فضلا عن أنه تمت مراجعة الأفكار المترسخة عن الشروح وشروح الشروح الذاهبة إلى القول بأنها كانت عقيمة بعقم شديد، فكان أن أعيد الاعتبار إلى أهميتها وإلى أهمية منسوب النقد فيها (جلال الدين الدواني نموذجا).

 

ما التصور الجديد الذي يحمله الكتاب بين طياته؟

على جهة السلب، يختلف الجهد المبذول في الكتاب عن الجهود المبكرة في دراسة الفلسفة الإسلامية منذ المستشرق الهولندي دي بور (1902)، وذلك في أمرين:

- لا يفاضل أصحاب هذا الكتاب بين القرون المعروفة (ق.9/ق.12)، وإنما يمنحون لكل قرن قيمته.

- يركز أصحاب الكتاب على عمل الفيلسوف وليس على حياته أو على موضوعات الفلسفة، مفضلين بذلك ما سموه "قوة العمق" على "سعة العرض".

وعلى جهة الإيجاب، اختيار أصحاب الكتاب "المداخل" الثلاثين التي وضعوها للكتاب للتدليل على عدم وجود قطيعة في مسار الفلسفة الإسلامية منذ بدايتها إلى الحقبة الحديثة، وللتركيز على أن النشاط الفلسفي، في القرون المتأخرة، ما كان مركونا في ركن معين من أرجاء العالم الإسلامي، وما كان معنيا بمسألة بعينها. ومن ثمة، لم يتم التركيز -في جديد الكتاب- على الحقبة الصفوية أو القاجارية وحدهما، وإنما تم تنويع البلدان التي شهدت على نشاط فلسفي متأخر خارج عن الأنموذج المكرس: مصر، تركيا العثمانية، هند المغول. لا ولا هو تم التركيز على مبحثي "الميتافيزيقا" و"الأنطولوجيا" -على نحو ما فعل كوربان ونصر- وإنما عمد أصحاب الكتاب إلى تنويع المباحث لكي تشمل، فضلا عن الميتافيزيقا والأنطلوجيا، المنطق والفلسفة الطبيعية. وقد تم اختيار نموذجين من الفلسفة العربية الإسلامية في القرن العشرين: فيلسوف عراقي هو محمد باقر الصدر الذي حاول حل مشكلة الاستقراء كما طرحها الفيلسوف البريطاني ديفيد هيوم، وفيلسوف مصري هو زكي نجيب محمود الذي حاول تبني فكر الوضعيين المناطقة. وذلك كله كان من أصحاب الكتاب بغاية إثبات أن الفلسفة الإسلامية ليست مجرد نزعة روحية لا صلة بها باهتمام الفلاسفة الغربيين التحليليين.

ويتكوَّن الكتاب من ثلاثين "مدخلا"، فضلا عن تقديم كشف بأسماء الأعلام وبالاصطلاحات، وعن تعريف موجز بالمساهمين الذين بلغ عددهم 28 باحثا من مختلف البلدان والجامعات.

وتدُوْر مَدَاخل الكتاب الثلاثين على الكتب والأسماء التالية: كتاب أتولوجيا "كتاب التفاحة" المنحول على أرسطو، ورسالة الكندي إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى، وكتاب الطب الروحاني لأبي بكر بن زكريا الرازي، ومقطع من كتاب ضائع لابن مسرة الأندلسي: "توحيد الموقنين"، وكتاب الواحد والوحدة للفارابي، وكتاب تهذيب الأخلاق ليحيى بن عدي، وكتاب إلهيات شفا لابن سينا، وكتاب جامع الحكمتين لناصر خسرو (بالفارسية)، وكتاب تهافت الفلاسفة للغزالي، وكتاب مصارعة الفلاسفة للشهرستاني، وكتاب حي بن يقظان لابن طفيل، وكتاب التلويحات اللوحية والعرشية للسهروردي المقتول، وكتاب فصل المقال لابن رشد، وكتاب شرح الإشارات لفخر الدين الرازي، وكتاب شرح الإشارات لنصير الدين الطوسي، والرسالة الشمسية في المنطق للكاتبي التحتاني، وكتاب المواقف في علم الكلام لعضد الدين الإيجي، وكتاب مجلي مرآة المنجي: جمع الجمع وجامع الجمع في الكلامين والحكمتين والتصوف لابن أبي جمهور الاحسائي، وكتاب حاشية على شرح القوشجي لتجريد الكلام لجلال الدين الدواني، وكتاب القبسات لمير داماد، وكتاب الشواهد الربوبية لملا صدرا الشيرازي، وكتاب سلم العلوم في المنطق لمحب الله البهاري الهندي، وكتاب أحمد الملوي الشافعي الأزهري أرجوزة في لوازم الشرطيات في المنطق وشرحها، وكتاب الهدية السعيدية في الحكمة الطبيعية لفضل الحق الحيدر أبادي، وكتاب غرر الفرائد لحاجي ملا هادي سبزواري، وكتاب مبادئ النقلة في حركة الأجزاء لعلي سداد باي (بالتركية)، وكتاب تجديد الفكر في الإسلام لمحمد إقبال (بالإنجليزية)، وكتاب الأسس المنطقية للاستقراء لمحمد باقر الصدر، وكتاب العلامة الطباطبائي نهاية الحكمة، وأخيرا كتاب نحو فلسفة علمية لزكي نجيب محمود.

وفي عرضهم لمداخلهم المتنوعة هذه التي بسطت بعض أهم كتب الفلسفة الإسلامية منذ بدايتها إلى اليوم -وإن لم تكن في نظرنا الأهم، وإن كان ما يشفع لهؤلاء الباحثين أن الكتب الأخرى في جزء كبير منها معروفة للقارئ المهتم- أظهر الباحثون التزاما بسنن البحث الأكاديمي، كما أبانوا عن الدور التنسيقي الذي قام به منسقا الكتاب، من حيث الإيحاء إلى كتبة المداخل باتباع خطة في العرض محكمة تقوم على عناصر ثلاثة أساسية -مع بعض التباينات بين الباحثين: بسط سياق العمل المتناول، والوقوف عند بنيته وأهم قضاياه، ورصد معالم تلقيه في زمنه وفي الأزمنة التي تليه.

كلُّ هذه المزايا تظهر أنَّ هذا الكتاب كتابٌ لا غِنَى عنه لكل مهتم بالفلسفة الإسلامية، لدقة وعلمية المداخل، وللآفاق التي يفتحها لكل مهتم بهذا المجال. ولئن كان من أسف أبداه منسقا الكتاب، فإنما هو الأسف على أن العديد من الباحثين طلب منهم تغطية جوانب أخرى من الفلسفة الإسلامية، ولم يستجيبوا لأسباب شتى. ولهذا؛ غابت مداخل عن فيلسوف منطقي عظيم مثل سعد الدين التفتازاني (ت 792هـ) وعن فلاسفة أتراك كثر، وعن رجب تبريزي، وعن مهدي نراقي صاحب الكتاب العجيب "قرة العيون في الوجود والماهية"، حيث كان معاصرا لعصر الأنوار، وكان من الأفيد المقارنة بين ما كتبه داخل إطار الفلسفة الإسلامية والقضايا التي كان يفكر فيها فلاسفة التنوير زمنه، فضلا عن غياب مدخل عن أحمد الاحسائي.

أمَّا نحن، فنأسف أكثر على غياب عشرات الأسماء من كل قرن قرن، شأن أبي الفرج بن الطيب وأبي الحسن العامري وأبي سليمان السجستاني وأبي حيان التوحيدي وإخوان الصفا وبهمنيار وأبي البركات البغدادي وابن جبيرول وابن ميمون وابن باقودة من يهود فلاسفة الإسلام ونصرانييه.

وأخيرا.. إذا كان الكتاب قد حاول رفع الظلم الذي حدث عن الكثير من فلاسفة الإسلام بالأمس، فلربما يكون قد ظلم فلاسفة العرب اليوم بأنْ ذَكَر منهم فقط مُحمَّد باقر الصدر وزكي نجيب محمود، ولربما نسي أنه أثمرت جهود المهتمين بالفلسفة في العالم العربي، منذ الثلث الأول من القرن العشرين إلى يومنا هذا، عن ظهور العديد من التيارات الفلسفية العربية ناهزت الأربعة عشر: من أقدمها: الرحمانية (زكي الدين الأرسوزي (1899-1968))، إلى أحدثها التداولية (طه عبد الرحمن 1944)، مرورا بالمدرحية (أنطون سعادة 1904-1949)، وبالعقلانية المعتدلة (يوسف كرم 1886-1959)، وبالجوانية (عثمان أمين 1905-1978)، وبالشخصانية المتوسطية (رونيه حبشي 1915-2003)، وبالشخصانية الواقعية (محمد عزيز الحبابي 1924-1993)، وبالوجودية (عبد الرحمن بدوي 1917-2002)، وبالكيانية (شارل مالك 1906-1987)، وبالتعبيرية (نظمي لوقا 1920-1987)، وبالتاريخانية (عبد الله العروي-1933)، وبالأصولية التأسيسية (عزت قرني-1940)، وبالليبرالية التكافلية (ناصيف نصار-1940).

---------------------------------------

- الكتاب: "دليل أكسفورد.. المعين على الفلسفة الإسلامية".

- منسقا الكتاب: خالد الرويهب، وزابينه شميدتكه.

- الناشر: "Oxford University Press"، 2017، باللغة الإنجليزية.

- عدد الصفحات: 700 صفحة.

أخبار ذات صلة