«إبادات جماعيَّة»

Screen Shot 2020-06-14 at 2.12.32 PM.png

للهندي كليم

ويلابوراتو عبدالكبير

في مُقدِّمة الكتاب تحت عنوان "لماذا هذا الكتاب؟"، يقول مُؤلفه كليم، إنَّما خُيِّل له أن الإبادات الجماعية والجرائم الحربية تستحق مزيدا من الدراسات في عمقها، كان ذلك لما قرأ عن المحامي المغامر من قارة أوربا رافائيل ليمكين (Rafeal Lemkin 1900 – 1959). إذن من هو هذا المحامي المغامر "رافائيل ليمكين"؟ الكاتب يلقي عليه الضوء في الفصل الأول. هو الذي لفت نظر العالم إلى جريمة الإبادة الجماعية التي وصفها رئيس الوزراء البريطاني الأسبق وينستون تشرشل "جريمة ليس لها اسم". ينسب إليه مصطلح (Genocide) الذي يعني الإبادة الجماعية. هذا اليهودي البولندي سعى في العام 1944 إلى وضع وصف للسياسات النازية للقتل المنظم بما في ذلك إبادة الشعب اليهودي الأوروبي فقام بتشكيل مصطلح  (Genocide)؛ وذلك عن طريق الجمع بين الكلمة اليونانية (Geno) التي تعني سلالة أو عرق أو قبيلة مع الكلمة اللاتينية (Cide) والتي تعني القتل. كان يعاني طول حياته من الفقر المدقع، حضر مؤتمر الأمم المتحدة الذي انعقد للبحث عن تعريف الإبادة الجماعية لابسا سترة ذات ثقوب، وقال أثناء خطابه: (I am here with a holey coat for a holy cause)، إنني حاضر هنا لابسا سترة ذات ثقوب لقضية مقدسة، ولما مات كان عدد الحاضرين في جنازته سبعة رجال فقط.

ونظراً للجهود المتواصلة على نطاق واسع التي قام بها رافائيل ليمكين بنفسه في أعقاب "الهولوكوست"، أقرَّت الأمم المتحدة في 9 ديسمبر 1948 اتفاقية تقضي بمنع جرائم الإبادة الجماعية ومعاقبة مرتكبيها، واعتبرت هذه الاتفاقية الإبادة الجماعية جريمة دولية ضد الإنسانية، تتعهَّد الدول التي وقَّعت عليها بمنعها والمعاقبة عليها. والإبادة الجماعية تعرف على أنها القتل المتعمد الجماعي لمجموعة كاملة من الأشخاص تقوم بها حكومة معينة ضد شعب على أساس ديني أو عرقي أو قومي أو سياسي. ووفقا للمادة الثالثة من تلك الاتفاقية لا يقتصر التجريم على الإبادة الجماعية فقط، بل نطاقها شامل يحتوي على التآمر على ارتكابها والتحريض المباشر والعلني عليها ومحاولة ارتكابها والاشتراك فيها. وبموجب استشارة قانونية لمحكمة العدل الدولي في 28 مايو 1951، تسري أحكام هذه الاتفاقية حتى على الدول التي لم تصادق عليها. وقد تعزَّز ذلك بتقرير من الأمين العام للأمم المتحدة في مايو 1953 كما صادق عليها مجلس الأمن؛ باعتبارها جزءاً من القانون العرفي. الإبادات الجماعية إنما وجدت طريقها إلى الدفاتر القانونية بعد الحرب العالمية الثانية فقط. ومحكمة "نيورامبرج" لم تعتبرها جريمة حرب. وقد تغيَّرت الآن هذه الحالة؛ فالإبادات الجماعية والتطهير العرقي أصبحت اليوم من جرائم ضد الإنسانية. وجدير بالذكر أنَّ المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي قد حكمت عقوبة على المجرمين من هذا النوع من يوغوسلوفيا السابقة وأفريقيا. تركز التطور الدولي والقانوني للمصطلح حول فترتين تاريخيتين، الفترة الأولى (1944-1948) بدأت منذ صياغة المصطلح وحتى قبوله كقانون دولي. وأما الفترة الثانية (1991-1998) فهي فترة تفعيله في ظل تأسيس المحاكم العسكرية الدولية للبت في جرائم الإبادة الجماعية. غير أن الالتزام بالاتفاقية يظل التحدي الذي تواجهه الدول والأفراد.

وقد حدث عدد كبير من القتل الجماعي في الهند، وإن لم تتسم بهذه المسميات. والهند بلد قابل لاندلاع اضطرابات مفاجئة في أي وقت كما أشار إليه كثير من المحللين. وفي نظام ديمقراطي توجد أشكال كثيرة من السياسية الهندوسية اليمينية ظاهرة وباطنة في كل مكان فيه، تتحول حوادث بسيطة بسرعة إلى قتل جماعي. وفي ظل القومية العرقية والأمن الوطني يتسنى لمن يتولى كبرى الجرائم أن ينسلوا من المقاضاة والعقوبة. هكذا نستطيع أن نجد في سدة الحكم حتى في الوقت الراهن من يجني أرباح آلاف الألوف من القتلى في "نيلي" في ولاية "أسام". وكذلك لم يعاقب إلا شرذمة قليلة ممن ترأس الإبادات الجماعية في "غوجرات" و"دلهي". وفي هذا السياق يبحث الكاتب عن الإبادات الجماعية.

ويتناول الكتاب موضوع ثلاث عمليات من القتل الجماعي التي يمكن أن تضم إلى تعريف الإبادات الجماعية والتي وقعت في ولاية "أسم" و"دلهي" و"غوجرات" في الهند. وقد ورد ذكر هذه الحوادث الفظيعة في عنوان الكتاب ذاته مما يدل على أن الكاتب يريد تسليط الضوء على تفاصيل هذه الأحداث المأساوية. وتمهيدا لتحليل هذا الموضوع يأتي بحث مفصل عن الإبادات الجماعية التي جرت على خشبة المسرح العالمي قديما وحديثا، وعن الدوافع الاجتماعية والثقافية التي تعمل وراء هذه المماراسات الوحشية.

ينقسمُ الكتاب إلى جزأين.. الأول: يحتوي على ثلاثة عشر فصلا بمثابة مدخل إلى المآسي في الهند من "نيلي" إلى "غوجرات". يبدأ هذا الجزء بأول إبادة جماعية حدثت في التاريخ، كان ذلك قبل 30000 عام تقريبا حين قام "الإنسان" الذي يحمل الاسم العلمي "الهوموسابيين" باستئصال النسل الإنسان البدائي "النياندرتالي" للاستيلاء على كرة الأرض كما يزعم العلماء الحفريون. وقبل زهاء مائتي وخمسين ألف سنة كانت كرة الأرض يسودها الإنسان النياندرتالي، وكانوا لايختلفون عن نوع الإنسان الهوموسابيين جسديا إلا باختلافات بسيطة. وتوجد وثائق حجرية تثبت تنقلاتهم من أوروبا إلى الشرق الأوسط. وكانوا يعجبون من الحلي ويدفنون جثامين موتاهم. كان "شان شان هبلان" الأستاذ في جامعة "بوردو" أول من تقدم بنظرية قيام "الإنسان الهوموسابيين" بإبادة النسل "النياندارتالي" جماعيا. وهذا يصدق الاستنتاج بأن الفوارق العرقية البسيطة قد تقود إلى إبادة جماعية. وصحيح ما يقول المؤلف من أنَّ الإنسان هو النوع الوحيد في عالم الحيوانات الذي يُمارس قتل إخوانه بشكل جماعي يستهدف الهيمنة عليهم. وراء جميع الإبادات الجماعية يمكننا أن نرى شعور الهيمنة القبائلية أو العرقية. وفي غابر الزمان، كانت هناك قبائل ينسبون جذور أصلهم إلى الشمس الإله أو الإله الإغريقي "سيوس" أو "تورس" أو غيرها. كان اليهود يعتقدون أنهم شعب مختار من الرب "يهووا"؛ لذلك ينظرون إلى عرب الجزيرة بنظر دوني دون أن يراعوا التزاماتهم المالية نحوهم؛ لأن العرب في نظرهم أمِّيون أي قوم بدائيون بلا كتاب مقدس؛ لذا يجوز لهم أن يتعاملوا مع العرب كيف يشاؤون. وقد انتقدهم القرآن انتقادا لاذعا في هذا الشأن. وهذه الذهنية التاريخية هي التي تسودهم حتى الآن ضد الشعب العربي في فلسطين.

وفي هذا الفصل، ينقل الكاتب أمثلة كثيرة للإبادات الجماعية من التاريخ القديم. فمثلا حين نقرأ ملحمة "الياد" لـ"هومار" نسمع إشارات إلى الإبادات الجماعية في أمر الملك "آجامنان" لتدمير مدينة "تروي" دون أن يبقى فيها أثر حياة أحد. وتوابع هذه الظاهرة نراها تتكرر في الثورة الفرنسية التي قامت في العام 1789 برفع شعار الحرية والمساواة والمؤاخاة؛ حيث أصبح أصحاب الثورة المضادة في نظر الثوار ممن يستحق الإبادة الجماعية. فضموهم إلى قائمة أعدائهم ليس رؤساء الإقطاعيين فقط، بل الفلاحين العاديين أيضا حتى الأطفال والنسوان. ورأت لجنة الثورة أن الأطفال يمكن أن يتحولوا إلى نهابين فيما بعد. الدوافع وراء عملية الإبادات قد تكون عقدة الاستعلاء العرقي أو الديني بينما تكون في حين آخر التهديد الناجم ضد مجموعة هيمنت على المجتمع منذ فترة. وعلى سبيل المثال: يُشير الكاتب إلى تدمير الروم مدينة "كارتيج" التي كانت تحت سيطرة الفينيقيين.

وفي الفصول التالية في الجزء الأول تأتي شريحة من إبادات جماعية حدثت في التاريخ المعاصر. وكانت رواندا أول دولة تعرضت للإدانة ضد جريمة الإبادة الجماعية. وفي عام 1998 حكمت المحكمة الدولية على مرتكبي الإبادة الجماعية في رواندا بالسجن مدى الحياة، وكان من بينهم "جان كمباندا" الذي كان في منصب رئيس الوزراء في بداية عملية الإبادة والذي اعترف بمسؤوليته عن إبادة المدنيين "التوتسيين". ويرى ناشطوا الحقوق الإنسانية أن ما تقوم به إسرائيل اليوم من الاعتداءات الهمجية على سكان غزة، وما قامت به العصابات الإرهابية الصهيونية المسلحة مثل "هاجانا" تاريخيًّا في دير ياسين، وما تلاها كمجازر صبرا وشاتيلا...وغير ذلك هي من صميم الإبادة الجماعية.

التطهيرُ العرقيُّ جزءٌ من الإبادة الجماعية. وقد تكون عمليات التطهير في حالات عديدة مرافقة لمجازر ترتكب ضد الأقلية المستهدفة، يذكر أن هذا المصطلح قد درج استخدامه بعد سنة 1990 خلال عمليات التطهير العرقي في يوغوسلافيا السابقة ومذابح رواندا. وبموجب قرار رقم 780 من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، تمَّ إنشاء لجنة لتعريف التطهير العرقي. وحسب صياغة اللجنة يعرف التطهير العرقي بأنه "مخطط للتخلص المتعمد من سكان إقليم معين لأشخاص من مجموعة عرقية معينة، وذلك باستخدام القوة أو التخويف حتى تكون تلك المنطقة متجانسة عرقيا، وقد اعتمد التعريف على العديد من التقارير التي تصف السياسات التي تم تنفيذها في يوغوسلوفيا السابقة "علميات التطهير العرقي" باستخدام وسائل القتل والتعذيب والاعتقال التعسفي والاحتجاز والإعدام خارج نطاق القضاء والاغتصاب والاعتداءات الجنسية وترحيل السكان المدنيين بشكل قسري. كانت يوغوسلافيا في عهد مارشل تيتو توصف بجنة الشيوعية التي أتت في حيز الوجود نتيجة من الصراع الطبقي. ولكن التطورات اللاحقة أثبتت بطلان تلك النظرية؛ حيث احتل مكانها الصراع العرقي بين القوميات المختلفة. وجدير بالذكر أن الدكتور علي عزة بيجوفيتش المفكر الإسلامي الكبير الذي انتخب فيما بعد رئيس البوسنة كان يذكّر "الصرب" بالعصر الذهبي الذي عاش فيه المسلمون البوسناك والمسيحيون الصرب متسامحين، بينما كان قادة الصرب المسيحيين الأورتودوكسيين أمثال رادوفان كاراديتش يبثون سم الكراهية نحو البوسناك والكروات. ويعود سبب هذا الفارق إلى التصوُّر الإسلامي الواسع عن الوطنية الذي يتبناه بيجوفيبش خلافا عن فكرة الدولة القومية (Nation State) الضيقة الرافضة للتعددية التي كانت تسيطر على عقلية كاراديتش. وقد رأينا الروس في ذاك الوقت يؤيدون الصرب لأنهم كانوا ينتمون نفس الكنيسة الأرثودوكسية التي ينتمي لها الصرب.

وفي ظل التطهير "الاثني" واسع النطاق الذي رافق الحرب في البوسنة والهرسك إبان 1992-1995 اضطرت أعداد كبيرة من مسلمي البوسنة والكروات البوسنيين إلى الفرار من منازلهم وتم طردهم على يد صرب البوسنة، وقد شملت الأساليب المستخدمة خلال حملات التطهير العرقي في البوسنة أساليب العنف ووسائل مستلهمة من الإرهاب ضد السكان المدنيين من مجموعة عرقية أو دينية مختلفة من مناطق جغرافية معينة. ومن أمثلة التطهير العرقي حرب الصهاينة ضد الشعب الفلسطيني عام 1947-1948 وما جرى في إفريقيا الوسطى وما يجري الآن في ميانمار ضد السكان المسلمين في منطقة "أراكان ".

"الهولوكوست" و"اوشفيتز" والمحرقة... كلمات مشهورة ترتبط بمجازر اليهود سمعناها كثيرا. ولكن قلما سمعنا كلمة: بورامايس، وساموداريبين، وهما مصطلحان يصفان إبادة الغجريين الرحالة التي تمت في أوروبا من قبل النازيين. لما احتل النازيون شرق أوروبا أقاموا فيها معسكرات لإبادة الغجريين جماعيا. وفي الفصول المتبقية من هذا الجزء نقرأ الحكايات المرعبة عن إبادات جماعية جرت في كامبوديا في عهد بول بوت الشيوعي المتطرف وما قامت به اليابان في "نانجينغ" في الصين، ومجازر سونجور المنغوليين من قبل ملوك كوينج في الصين، ومجازر السكان الأوائل التي قام بها البيض في أمريكا...وهلمَّ جرًّا.

وانطلاقا من هذا المدخل، يخوض الكاتب إلى مشهد الهند من إبادات القرن التي حدثت في "نيلي" في ولاية أسم، و"دلهي" عاصمة الهند، وولاية "غوجرات" في عهد حكومة مودي رئيس الوزراء الحالي. والسيخ هم كانوا ضحية الإبادة في دلهي بينما المسلمون هم كانوا ضحية الإبادة في "نيلي" و"غوجرات". حين قام أحد الحراس من السيخ باغتيال رئيسة الوزراء إنديرا الغاندي انتقاما من اقتحام شرطتها معبدهم المقدس لإخضاع "بيندران والا" رئيس منشقي ولاية "بانجاب"، ثار غضب أتباعها في دلهي. الاضطرابات التي تفجرت إثر هذا الواقع والمجازر التي تبعتها في عام 1984 كلها كانت تحت قيادة بعض الشخصيات المهمة في حزب المؤتمر الحاكم آنذاك. وملاحظات الكاتب بنقل المحللين السياسيين أمثال "نانديتا هاكسار" و"تشاران سينج" و"جارنايل سينج" عن مجازر جالية السيخ التي قامت بها الأحزاب العلمانية ذاتها لها وزن خاص في الهند المعاصر. قد ورد في كتاب "مانيشا سيتهى"، الذي تم استعراضه في عدد يناير من ملحق "مراجعات"، ما قام به رئيس شرطة ولاية "بانجاب" من الممارسات الوحشية ضد السيخ. أما مجازر "نيلي"، فقد مضى 34 سنة بعد حدوثها، وكان ذلك في يوم الجمعة الثامن عشر عام 1983. ربما لا يذكرها أحد الآن. القوات الهندوسية المتطرفة أحرقت جميع بيوت المسلمين بعد أن حاصرت القرى في منطقة نيلي لكي لا يكون لهم ملجأ ينقذهم ثم قتلت أكثر من 3000 شخص. تقرير "قمسيون تيفاري" الذي قام بالتحقيق عن قتل نيلي الجماعي لم تَكْشِف عنه الحكومة حتى الآن.

القتلُ الجماعيُّ في غوجرات أثار -ولا يزال- جدلا كبيرا في داخل الهند وخارجها. وفي قضية رفعتها امرأة تسمى بلقيس راني ضد من اغتصبها جماعة، ثم قتل جميع أعضاء أسرتها أثناء اضطرابات غوجرات، حكمت المحكمة في الشهر الماضي بالسجن مدى الحياة على هؤلاء المتهمين، كما عوقبت "مايا كودواني" الوزيرة في مجلس وزراء مودي لمشاركتها في المجازر. ولا تزال في المحاكم قضايا رفعها ناشطو حقوق الإنسان وتنتظر إصدار حكم المحكمة.

وقد جعل المؤلف كتابه موثقا بمراجع مُعتمدة، ومزودا بصور فوتوغرافيا، ومذيلا بقائمة من الكتب للقراءة الإضافية.. وليس له سابق في الموضوع في لغة مالايالام.

----------------------------------

- الكتاب: "إبادات جماعية".

- المؤلف: كليم.

- االناشر:Thejas Books,Nallalam,Kozhikode,Keral, India ، بلغة مالايالام.

- عدد الصفحات: 228.

أخبار ذات صلة