من مناهج الغرب الحديثة في دراسة النص القرآني

قيس الجهضمي

يتناول رضوان السيد في مقالته التي بعنوان "جوانب من الدراسات القرآنية الحديثة والمعاصرة في الغرب" الدراسات التي قام بها الغربيون على النص القرآني، فقد كان هدف الكتابات في القرن الثاني عشر في الغرب الرد على القرآن والإسلام لصالح المسيحية، وقد قسم بعض الدارسين التعامل مع القرآن عند الأوروبيين إلى مرحلتين: مرحلة العصور الوسطى المتأخرة والتي تتميز بالرد على القضايا اللاهوتية في القرآن، أما المرحلة الثانية فكانت لمقاربة الرؤى اتجاه العالم بين الشرق والغرب أو الإسلام والمسيحية، وقد تحول الاهتمام لدى العلماء في القرن التاسع عشر إلى دراسة القرآن بطريقة فيلولوجية تاريخانية، ويتجلى من تجربة علماء اللغة الغربيين السابقين عند استخدام هذه الطريقة للفتك بالعهدين القديم والحديث وهم يحاولون أن يأخذوا نفس المسلك في تعاملهم مع النص القرآني، هذا لأنَّ طبيعة المناهج الفيلولوجية التاريخانية في قراءة النصوص تتعامل مع المفردات والكلمات لكي تدرس أصولها وتاريخيتها وليس النص كاملاً كوحدة كاملة.

ومن الدراسات القرآنية الحديثة في الغرب اشتهر المستشرق الألماني البارو تيودور نولدكه وكتابه "تاريخ القرآن"، وتميز هذا الكتاب بأنه لم يترجم للغة أخرى إلا للعربية، ويحتوي الكتاب على ثلاثة أقسام: أصل القرآن وجمع القرآن وتاريخ نص القرآن، فنولدكه قد طرح في قسم أصل القرآن قضية نبوة النبي وطرائق الوحي ..إلخ وهو يقبل أميّة النبي استناداً إلى أنَّ أنبياء بني إسرائيل كانوا أميين، كما أنه يرى أن طريقة النبي في تدوين القرآن هي الكتابة مع الحفظ الشفوي، لكن هذا لم يثنه عن محاولة قراءة تركيبة النص ومفرداته وألفاظه والنظر في الوحدة الموضوعية، أما قسم "جمع القرآن" فتحدث فيه عن الجمع ومعاني الجمع أيام عثمان وهو لا يصدق رواية الجمع الإسلامية ولا يقدم بدائل سوى ما ذكرنا عن التدوين أيام حياة النبي وترتيب السور في المصحف أيام عثمان، وفي القسم الثالث من الكتاب المسمى بتاريخ نص القرآن: يَحاول نولدكه وتلامذته تتبع مسألة الأحرف السبعة والقراءات القرآنية "المتواترة والشاذة".

لقد سيطر كتاب نولدكه هذا على الدراسات القرآنية حتى مطالع الستينيات وقد ظهر هذا التأثير على الدارسين من خلال تقسيمه للمرحلة المكية إلى ثلاث مراحل موضحا الخصائص الأسلوبية لكل مرحلة، إضافة إلى فكرته أن النبي اتخذ من أنبياء بني إسرائيل نموذجا له، وبما أن العهدين لم يترجما قبل الإسلام فيرى أنه أخذ النصوص شفهيا.

وقد قام كل من البريطاني ريتشارد بل والفرنسي ريجيس بلاشير والألماني رودي بارت بترجمة القرآن إلى اللغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية مستندين إلى قراءات فيلولوجية وأسلوبية، ويلخص السيد الدراسات الفيلولوجية التاريخانية لدى المستشرقين في ثلاثة خطوط: أولها أنَّ النص القرآني في مجموعه هو ما خلفه محمد، والثاني: أن القرآن دوّن استنادا إلى مدونات كتّاب النبي، أما الخط الثالث فيذهب إلى أنَّ ترتيب السور الحالي هو مُختلف عن الترتيب الذي خلفه النبي لأصحابه وربما اختلف ترتيب بعض الآيات في السور.

يذكر الكاتب أنَّه سادت قراءتان راديكاليتان تفكيكيتان للنص القرآني منذ الثمانينات وحتى اليوم فالأول سعت إلى تفكيك النص من الداخل، أما الراديكالية الثانية فكانت تبحث عن أصول عبرية أو سريانية في تركيبة النص، قاد التفكيكية الراديكالية الأولى البريطاني جون وانسبورو واعتمدت على نقض الرواية التي تقول إن نصوص القرآن جمعت في عهد عثمان من كتّاب النبي وأصحابه، وبعد هذه الكتابة الأولية جاءت عمليات النقط والتشكيل، ولهذا جاءت التلاوة للنص ضابطة له، ومنها ظهرت القراءات السبع أو العشر، ويذهب وانسبورو ومن بعده تلامذته مثل كوك وكرون إلى أن النبي لم يدون شيئاً وإنما بقيت نصوص من القرآن في ذاكرة وصحف أصحاب النبي وجيل التابعين وتلاها إعادة ضبط وتعديل وتحرير وتغيير ثم استقر النص الحالي في القرن الثالث الهجري.

تعرض وانسبورو لنقد من كتاب غربيين لعدة أسباب منها أنَّ القول بتحرير وتعديل النص لمدة قرنين بحاجة لإثبات ذلك عن طريق مخطوطات أولى، ثانياً إن اختلاف المسلمين اختلافاً شديدًا في أواخر خلافة عثمان وظهور الفرق الإسلامية ومجموعة من الغلاة قالوا بنقص القرآن ولم يقل أحد بتحريفه، وخالفوا أكثرية المسلمين في تأويل النص القرآني وخلاصة الأمر أن النص استقر قبل الانقسام ولولا ذلك لظهرت مصاحف متنوعة.

اعتمدت التفكيكية الراديكالية الثانية على إعادة النص القرآني إلى عناصره الأولية والمسؤول عن هذا التوجه هما ليلنج ولوكسنبرج، ويرى ليلنج أن القرآن المكي ليس الذي نزل على النبي بعد بلوغه الأربعين فقط، وأنَّ المسيحية كانت منتشرة بصورة كبيرة في شبه الجزيرة وربما كان محمد نصرانيًا أو من الحنفاء أخذ أناشيد مسيحية وترجمها ثم أعيدت صياغتها للعربية، ويرى أنَّه بالتخلص من الإضافات يمكن اكتشاف الطبقة العميقة في المسيحية التي تمثل القرآن الأوَّل، لكن ليلنج لم يقم بمحاولة شاملة لإظهار الطبقة العليا، والواقع أنه من دراسته يحاول أن يثبت أن أصل الإسلام هو مسيحية مقنعة أو ظاهرة!.

أما لوكسنبرغ فقد ركز على الفيلولوجيا، ويذهب إلى أن النبي والمفسرين جهلوا معنى تلك الكلمات السريانية الموجودة في القرآن، لكنه رغم ادعائه فإنه يعجز عن أن يأتي بسورة قرآنية ولو قصيرة بأصلها السرياني كاملاً، كما أنَّه يفترض أن النبي لم يكن أميًا وأنه نهل من العالم المسيحي واستعان بكتاب مسيحيين في إنتاج النص القرآني بالسريانية ثم ترجمه للهجة المكية، ولما مات النبي وأصحابه بدأ نسيان الأصول القرآنية وتغير نطق الكلمات وبقيت الإشارات.

ويذكر الكاتب في مقالته أن محاولة لوكسنبرغ تتشابه مع محاولة جوزف القزي في أنَّ القرآن مأخوذ من أصول يهودية مسيحية أو ما عرف بالمذهب الأبيوني، وهم الذين ظهروا عندما كانت المسيحية مُختلطة باليهودية ومنهم ورقة بن نوفل وخديجة بنت خويلد، ويروي الغزي أنَّ ورقة أراد استخلاف محمد لكن محمد هاجر إلى المدينة، فيذهب إلى أنَّ الفرق بين قرآن محمد والمصحف العثماني أن القرآن المحمدي نص شعائري للجماعة الأبيونة أما المصحف العثماني هو كتاب مقدس للامبراطورية الجديدة، ويصل لوكسنبرغ والغزي إلى نفس النتائج أنه قرآن عن أصل سرياني ومعانيه جهلت لزوال قرائه.

يذهب السيد إلى أنَّ أكثر العلماء المسيحيين لم يستطعوا التخلص من فكرة الأصول المسيحية أو اليهودية أو المسيحية/اليهودية للقرآن منذ قرون، وأن الاقتباس الوارد في القرآن ليس ثقافياً أو دينياً لتعليل التشابهات في وحدة الدين وتعدد الشرائع بل ربما كان ترجمة أو نسخًا، ويتجلى في موسوعة القرآن التي أصدرتها مؤسسة بريل في أربعة مجلدات طغيان المنهج التاريخاني مع ميول ايستمولوجية جديدة، وهي توضح مقدار الضياع الذي فعلته التفكيكية في الدراسات القرآنية بالغرب، وأرى أن طغيان المناهج الفيلولوجية هو محاولة الخروج بفهم للنص القرآني خارج واقع لغته الأصلية "العربية" لتمرير أفكار تعزز من رؤى الغرب اتجاه الأديان بما يخدم مصالحهم لأنَّ الاشتغال على الكلمة دون النص كوحدة كاملة يُغاير في فهم المعنى.

 

أخبار ذات صلة