فاطمة بنت ناصر
تتعدد الإشارات إلى ماضينا الإسلامي فمنها ما يرى أنَّه ماضي البطولات والتفوق الإسلامي على الأمم ومنها ما يرى أنَّه منبع ضيق الأفق لا يقبل الآخر. ولعل الأستاذ سعيد بنسعيد العلوي قد تمكن في مقاله المُحكم المعنون بـ"ثقافة الاختلاف والتفاهم في الفكر العربي الإسلامي في (العصر الكلاسيكي) " أن يسلط الضوء على زوايا مبهرة جديرة بأن يُلفت النظر إليها خاصة في حاضرنا القائم والذي يشهد واحدة من الفترات الزمنية العصيبة التي تضيق فيها القلوب والأفكار.
أولاً: لماذا لفظة "كلاسيكي"؟
يقتبس الأستاذ بن سعيد هذه اللفظة من المفكر الفرنسي ميشيل فوكو والذي كانت له دراسات متعددة للفكر الغربي في تلك المرحلة إلا أن الفرق في استخدام اللفظة بين المفكرين هو أن فوكو استخدمها (للحصر) وللإشارة إلى فترة زمنية معينة وهي القرن السابع عشر، بينما يستخدمها المفكر بن سعيد بغرض توفير (السعة) حيث يشمل العصر الكلاسيكي الإسلامي من وجهة نظره مراحل متعددة من التاريخ الإسلامي تبدأ بعصر التدوين ولا تنتهي عنده بل تتعداه إلى عصور أخرى ازدهرت فيها العلوم وأينعت فيها الأفكار. فالكلاسيكي هنا إذن تشير إلى المرجعية والنموذج المحتذى وهذا النموذج في العصر الإسلامي والذي يشمل عهوداً إسلامية مختلفة. وفي هذا يحاول الكاتب أن يدعم حجته باستعراض الأدلة والمشاهد المشرقة من الماضي والتي تؤكد على مصداقية إدعائه وغلبة التفاهم والقبول على العهود الإسلامية الكلاسيكية.
ثانيا: وعي الاختلاف
في هذا القسم يستعرض الكاتب ثلاثة نماذج تمثل في رأيه أبرز العقول الإسلامية المؤثرة التي عكست في نتاجها الفكري مقدار وعيها بالاختلاف ومن هذه الأمثلة: الجاحظ والبيروني وأبو حيان التوحيدي.
مثال (الجاحظ) :
من المعروف افتخار الجاحظ واعتزازه بالعرب ومناقبهم التي يتكرر ذكرها كثيراً في كتاباته. ويقول الكاتب إن الجاحظ على الرغم من فخره الكبير بهذه العروبة والذي يصل إلى حد التعصب في بعض الأحيان إلا أنَّه ينصف الأمم الأخرى وفي هذا يضع الكاتب اقتباساً مأخوذاً من كتاب "البيان والتبيين" يذكر فيه الجاحظ ما للهند وما للفرس وما لليونان من براعة في صنوف العلوم والمعارف، فيقول: "وجملة القول إنا لا نعرف الخُطب إلا للعرب والفرس، وأما الهند فإنما لهم معانٍ مدونة وكتب مجلدة ولليونان الفلسفة وصناعة المنطق ... وفي الفرس خطباء إلا أنَّ كل كلام الفرس وكل معنى للعجم فإنما هو عن طول فكرة وعن اجتهاد وخلوة ... وكل شيء للعرب فإنما هو بديهة وارتجال وكأنه إلهام ... وخطباؤهم أوجز، والكلام عليهم أسهل".
وكلام الجاحظ هذا يأتي في سياق بحثه المطول عن معنى البلاغة واختلاف الشعوب في بيانها حيث نرى أن الجاحظ يرى أن بلاغة العرب تتمثل في النظم، واليونان في التدقيق المنطقي، وللرومان المعرفة بالأحوال ومتى يتطلب الاقتضاب ومتى يتطلب الإسهاب، وللهنود الوضوح والقدرة على الاحتجاج. وهذا إن دل على شيء فإنه يدل على وعي الجاحظ بأمر هذا الاختلاف بين الثقافات والأمم وعياً آخر بأنَّ الإصابة لا تكون إلا بالاستفادة من هذا الاختلاف والتفاعل بين هذه المدارس.
ثالثا: ثقافة الاختلاف
تتجلى ثقافة الاختلاف كما يرى الكاتب بوجود ممارسات معينة تثبت تجذر هذه الثقافة وممارستها في العصور الإسلامية المختلفة. ولعل (المناظرة) إحدى هذه الممارسات المعروفة والتي تدل على قبول الاختلاف والاعتراف بمن ينتصر فيها مهما اختلفت وجهة نظره عن صاحب الرأي المخالف. وأبرز من أسسوا قواعد هذا المبدأ هم المتكلمة حيث قسم علماؤهم المعرفة إلى نوعين: أحدهما "ضرورية – اضطرارية" وهي ما يضطر الفرد إلى قبوله مسلماً به كالبديهيات والمعطيات المباشرة. أما الأخرى فهي "المعرفة النظرية" والتي تعتمد على الحجة العقلية الناتجة عن التفكر والتأمل. وهناك نوعان للمتكلمين إما (صاحب دعوى) وهذا لزمت عليه الحجة وعرض الدليل الذي يثبت دعواه. والصنف الآخر يكون مطالباً أي يطلب من الخصم الأدلة وإثبات ما يدعيه. ونرى أنَّ العلماء أسسوا قواعد مهمة في هذا الجانب لعل أهمها: تصنيف الخصوم في دوائر تتدرج من الخاص إلى العام. وهناك أمثلة كثيرة في هذا كمنهج القاضي أبي بكر محمد بن الطيب الباقلاني الذي درس بعمق دعاوى من ينكرون الألوهية بالجملة ومن ينكرون النبوة ومن ينكرون أنبياء معينين وردَّ على كل منهم حسب ادعائه. واستلزم بحثه معرفة معتقدات وحجج الخصوم بشكل عميق ليتمكن من الرد عليها. ونرى في ذلك منهجاً يعتمد على الأخذ والرد ومعرفة الآخر عن قرب وعمق. وهناك قاعدة أخرى تكمل القاعدة السابقة وهي قاعدة الاعتراف بالخصم وقبوله وفي هذا يقول الشهرستاني "إن الخصم وإن أخطأناه لا نخرجه من علماء الكلام". وأما القاعدة الثالثة فهي التمييز والتفريق بين المقامات والأحكام. ومثال على ذلك التفريق بين (التكفير) و(التصويب أو التخطئة) فكما يرى الشهرستاني أن (التكفير حكم شرعي بينما التصويب حكم عقلي). ولكل قاعدة شواذ فمنهم كعبد القاهر البغدادي يرى أنَّ التكفير والخطأ سواء. ويقر الكاتب أن المتكلمة في الإسلام رغم لغتهم الشرسة وعنف الخطاب قد التزم معظمهم بالقواعد المذكورة وهذا في وجهة نظره دليل على ترسخ ثقافة الاختلاف.
وهنا أختلف قليلاً مع الكاتب في التهوين من شأن شراسة وعنف اللغة، فلقد شهدنا مواقف عديدة يمتنع فيها العلماء من التكفير ولكن عنف لغتهم وهجومهم ضد مخالف بعينه استطاع تحريك الموتورين من عامة الناس ليلحقوا الأذى وأحياناً الموت بالمخالفين. ونشهد اليوم تجنب كافة العلماء لتكفير داعش وهذا قد يفهمه العامة بالاعتراف الضمني بهم. فنحن هنا أمام إشكالية حقيقية فعقل العالم مُتَّبَع من شريحة كبيرة من العامة وتوجهاته الفكرية ليست شأناً خاصاً به بل هي خطوط سير لكثير من الناس. ومن هنا تبرز الحاجة إلى ضرورة رفع وعي الجماهير وتجنب ما يُثيرهم وخاصة لغة المنابر الشرسة والتي قد تتجنب أن تصرح بالتكفير ولكنها تقوله ضمنياً عبر عنفها اللفظي اتجاه المخالف.
رابعاً: الاختلاف والاقتباس
يقول الكاتب إن العصر الإسلامي الكلاسيكي لم يكن فقط مثالاً على زمن التفاهم وقبول الاختلاف ولكنه زمن متفاعل طَبق الاقتباس من المخالفين ولكنه وضع حدوداً واضحة لهذا الاقتباس فلا يُأخذ ما يخالف نصا صريحاً في قرآن أو سنة. وأمثلة على الاقتباس: اقتباس المعاني والأفكار واقتباس كلمات من لغات أخرى وغيرها. ولعل حركة الترجمة ونقل صنوف العلوم والفنون إلى العربية من أبرز مظاهر الاقتباس وقبوله. وهذا التفاعل والأخذ والرد بين العقول الإسلامية وغيرها انعكس على كتابات ذلك العهد. ختام القول: إن ذكر هذه النماذج يدعو للفخر ولكنه لا يدعو للإصلاح؛ فالإصلاح يتطلب الاعتراف بوجود القمع أيضاً في ذلك العصر.
