الوسطية في الفرائض الإسلامية

الوسطية في الفرائض الإسلامية

عاطفة المسكرية

يُعد القرآن الكريم والسنة النبوية مصدرين للأحكام والقواعد التي تعكس المنهجية المرتبطة بالإسلام الذي يبنى على أسس وقيم محددة لا يكتمل دونها. وتنظم هذه الأحكام حياة الفرد والأسرة والمجتمع والأمة من ناحية وتحدد تكاليف الشعائر التعبدية من صلاة وصيام وغيرها. بناء على ذلك يتحتم على الفرد الموازنة بين هذين الجانبين ليستطيع تسيير أمور حياته مع مراعاة الجوانب الروحانية كذلك. ووردت آيات قرآنية تدلنا على ذلك ومنها قوله تعالى في سورة المزمل {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ. قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا. نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا. أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا}. حيث إنه بجانب الفروض الاجتماعية يترتب على الفرد اتباع ما ورد في الشريعة الإسلامية، سواء أكان ذلك يعد فرض عين أو فرضا من فروض الكفاية. والتي ترتبط بالصورة المتكاملة للبناء التشريعي في سبيل إيجاد أمة حضارية متميزة لها خصائصها وصلتها بالحياة، على المستوى الخاص والعام. وذلك ورد في مقالة - لرئيس قسم الفقه الإسلامي ومذاهبه بجامعة دمشق – وهبة الزحيلي، بعنوان "فروض العين وفروض الكفاية: رؤية جديدة حول الفرائض في الإسلام وعلاقتها بالمصالح والحضارة"

حيث تختلف الحقوق ما بين عام وخاص بناء على اختلاف ونوع العلاقة ما إذا كانت بين العبد وربه أو بين الأشخاص فقط. فالحقوق العامة تتمثل في أمور كالصلاة والصيام، أي بين العبد وربه، ولا تسقط حتى يؤديها الفرد بنفسه مع وجود أحكام مخففة للحالات الاستثنائية كالمرض والسفر. وهنالك الحقوق الخاصة كأن يدين أحدهم للآخر بمال مثلا. وتختلف فروض ومقاييس الأحكام الشرعية بين فرض العين وفرض الكفاية، حيث يتطلب الأول أن يؤدى من قبل كل فرد ويؤثم في حالة تركه له ويؤجر على اتباعه بينما يختلف الأمر في فروض الكفاية. فتسقط عن البعض بمجرد أن يؤديها البعض الآخر وذلك لتحقيق المصلحة العامة من خلال الشعور بالمسؤولية التي قد يتحملها البعض متميزا عن الآخرين. فكافة هذه العبادات تحمل معاني ذات أهمية وتكسبك قيمًا تعينك على الثبات والصمود في الحياة.

ينعكس ذلك على كافة العبادات ما إذا جئنا نعددها كالصلاة والصيام والزكاة مثلا، تغذي الحس الجمعي بالمسؤولية تجاه الأشخاص الذين تستدعي ظروفهم الصعبة أن يبقوا دون مأكل أو مأوى. إضافة إلى تقليص الفجوة بين من هم في هذه الحالة ومن هم أحسن حالاً منهم. لذا قد تكون بعض التكاليف التي أُمِر العبد بها روحانية تؤثر على الفرد نفسه وترفع من معنوياته وتهذبه لكنها تنحصر في حدود العلاقة بين العبد وربه كالصلاة لكونها تنهى عن الفحشاء والمنكر وتؤثر إيجابيا على الطاقة الداخلية للإنسان. وهناك التكاليف التي قد تعد روحانية إلا أن لها أثرا ملموسا على المجتمعات كالزكاة لكونها تخدم هدف تقليل الفجوة بين من يملك ومن لا يملك إلا القليل.

وينطبق ذلك على الكثير من الفروض والحقوق والتكاليف الدينية بأنواعها لكونها تعود بنفع كبير على المجتمعات البشرية إذا ما طبقت بالشكل الصحيح. أبسطها العلم بما فيه من مصلحة عظيمة ترفع الأمم وتشكل عاملا مهما في بناء الحضارات. تنعكس عظمة العلم وأهميته في القرآن الكريم في قوله تعالى ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ وحتى مع وجود بعض الاختلافات في التفاسير تتعلق بنوع العلوم التي يراد بها هذه الآية لكنهم يتفقون على أهمية العلوم بشكل عام وفي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم " طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة" دليل آخر كذلك. وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على شمولية هذه الأحكام التي تلامس الجوانب الاجتماعية للفرد المسلم. حيث إن فرض العين يركز على الأفراد الذين هم جزء من الصورة الكبرى للمجتمع بينما نجد تحقيق المصلحة العامة هدفا رئيسيا في فروض الكفاية وبهذا تتحقق مصلحة الجميع. لكن نجد الواقع يعكس شيئا مختلفا كفئة تأخذ الجوانب الروحانية بعين الاعتبار زاهدة بالدنيا وما فيها، وفئة أخرى منغمسة بالدنيا وما فيها تاركة الجانب الآخر مما يحدث فجوة ويولد فراغا وخواء داخليًا لأن الإنسان بطبيعته يحتاج إلى الالتفات للجانب الروحاني والمعنوي مهما طال به الزمن بعيدًا عنه؛ وذلك بسبب محدودية عقله وتفكيره الذي لا يستطيع بطبيعته الخروج عن نطاقات محددة؛ فلا يستطيع الإجابة على كل الأسئلة وخاصة الوجودية منها.

لذلك نجد الموازنة بين الكفة الدينية والدنيوية هي الأداة المثالية في سبيل خلق حياة متزنة. وتقدم الأحكام التي جاءت بها الشريعة الإسلامية كل ذلك وفق نطاق المنطق وبما يحفظ للإنسان مصالحه. وأيضا ذلك قد يعينه على مواكبة التطورات حيث لا تعد النصوص جامدة بل معظمها معرضة لاجتهادات المفسرين والفقهاء. ومن المفترض ألا تخلق هذه التفسيرات، ولو اختلفت قليلا، كل هذه النزاعات لكون الاختلافات واردة بل صحية من الأساس طالما أنها تحت مظلة دين واحد وتجمعهم أكثر مما تفرقهم. وحتى مع الفئات التي قد لا تؤمن بما نؤمن به، فإن ذلك لا يعطي أياً كان الصلاحيةَ للتعرض لها بسوء. خاصة وأن مثل هذه الأمور نجدها منظمة وفق أحكام معينة، كالتعامل مع الجار غير المسلم على سبيل المثال أو التعامل مع من اختلفت مصالحنا معهم. أما إيذاؤهم بحجج واهية فلا يمت للمنطق بصلة. فكيف بالأمر إذا تعلق بمن هم على دين واحد لكنهم اختلفوا في بعض الأمور.

إنَّ الأحكام التي جيء بها في القرآن إذا ما حللت منطقيا، بعيدا عن التحيز وبعيدا عن العاطفة ومع مراعاة الناسخ من المنسوخ لا تتعارض بطبيعة الحال بل تخدم المجتمعات، لكنها قد تتعرض لتأويلات تخدم مصالح فئة معينة لتحقيق غاية دنيوية مُحددة. وهذه من المشكلات المستحدثة في هذا العصر والتي قد لا تتناسب مع الأسس الثابتة للدين وهنا منبع الخلافات حيث إنها ليست إلا في التفسيرات والتأويلات المخصصة لغرض تحقيق أمر ما أو محاولة زرع فتن وشقاق بين الطوائف مع تجاهل كونها من نفس الديانة أولا وأخيرا قبل كل تلك الاختلافات.

 

 

أخبار ذات صلة