أم كلثوم الفارسي
يناقش الباحث السوري محمد جمال باروت في مقاله المعنون بـ "الدولة القومية، الأمة والهويات في تحولات النظام الدولي" مفهومَ الدولة القومية وتاريخها حيث يرى أن المفاهيم المرتبطة بالدولة القومية قد تبدلت، وأخذت تتطور في فضاء جديد ضعفت فيه قدراتها على التحكم باسم حقوق السيادة الداخلية أو حقوق السيادة الخارجية، وهي لن تزول في أي شكل من أشكال الاندماج؛ لكن ستتولى الاتفاقيات وعمل وكالات التنمية ورأس المال وزخم عولمة القوانين العالمية وتكييفها مع عولمة مجالها "الوطني" .
ولكي تكون صورة هذا المفهوم المهم والخطير واضحة سنتطرق إلى ما يحمله من معنى ولو أنه من الصعوبة بمكان وجود تعريف للقومية مجمع عليه بسبب اختلاف نظرة دعاتها إلى ركائز القومية، ويمكن أنْ نقول في تعريف القومية: “إنها حركة سياسية فكرية متعصبة، تدعو إلى تمجيد فريق من الناس، وإقامة دولة موحدة لهم، على أساسٍ من رابطة الدم والقربى واللغة والتاريخ، وإحلالها محل رابطة الدين. ولقد ظهر هذا المصطلح في أوربا في القرن التاسع عشر الميلادي . فالقومية هي إيديولوجية وحركة اجتماعية سياسية نشأت مع مفهوم الأمة في عصر الثورات (الثورة الصناعية، الثورة البرجوازية، والثورة الليبرالية). فالعناصر الأساسية في تكوين القومية هي وحدة اللغة ووحدة التاريخ، وما ينتج عن ذلك من مشاركة في المشاعر والمنازع، وفي الآلام والآمال..."
ومما تجدر الإشارة إليه أن نشوء نمط الدولة-القومية- في التاريخ الأوروبي عملية تاريخية طويلة ومعقدة، ولّدتها سلسلة الحروب الدينية الضارية، وكان من أهمها حرب المائة عام وحروب السنوات العشر ما قبل إبرام معاهدات السيادة والاستقلال عن الإمبراطورية، فأوروبا العصور الوسطى كانت خالية من مذاهب القومية الحديثة؛ فدول أوروبا -العصور الوسطى – التي يرتبط بعضها ببعض من خلال مفهوم العالم المسيحي المتحد واللغة المشتركة للكنيسة الكاثوليكية – شكلت أجزاءً من ميراث الأسر الحاكمة. وكثيرًا ما افتقرت حدود تلك الإمبراطوريات والممالك والإمارات إلى التجانس العرقي أو اللغوي أو الديني؛ فقد كانت المملكة هي نتاج ما أمكن للملك إحكام قبضته عليه في مواجهة خصومة منافسيه العسكرية والدبلوماسية؛ ولذا احتفظ رعايا الملك بهيكل ثلاثي من الولاءات يتمثل ضلعه الأول في ولائهم وخدمتهم لسيد المنطقة التي يعيشون فيها. وكثيرًا ما اضطر الملك أو السيد للجوء إلى القمع متى حجب الولاء أو الخدمة؛ أما الثاني فيتمثل في ولائهم وواجبهم نحو الكنيسة (التي نظر إليها على أنها منفصلة عن الحكام الدنيويين وسامية عليهم) وكان والثالث موجها نحو الولاء للملك، لذا لم يحمل مصطلح "القومية" أهمية سياسية حتى أواخر القرن الثامن عشر، وكان معناه ببساطة، حسب تعبير إيلي قدوري: "جماعات مُنتمية ومرتبطة بعضها ببعض بسبب تشابه محل الميلاد، وتكون أكبر من العائلة، لكنها أصغر من العشيرة أو الشعب أو مسقط الرأس".
وما يُميز التشكيل القومي في أوروبا الغربية، والولايات المتحدة، أنَّه ظهر في مرحلة لم يكن هناك تشكيلات قومية (بالمعنى الحديث) في آسيا وإفريقيا، تتحداه حضاريًّا أو عسكريًّا. وانطلاقًا من نماذج إدراكية اختزالية تتسم بدرجة عالية من التجانس والتحدُّد تكاد تقترب من الانغلاق على الذات. ويلاحظ أن صياغة رؤية الجماعات القومية في غرب أوروبا لنفسها قد استغرق وقتًا طويلا جدًّا تم أثناءه صهر (أو إبادة) أعضاء الأقليات الإثنية التي لا تنتمي للأسطورة القومية، وحينما بدأت التشكيلات القومية في شرق أوروبا ووسطها أخذت طابعًا أكثر تطرفًا في صيغتها السلافية والجرمانية، حيث طرحت الفكرة القومية كانتماء عضوي يكاد يكون بيولوجيًّا. وقد تمت الثورة القومية في الغرب تحت راية الطبقة المتوسطة وقيمها، وبخاصة الملكية الفردية والعقد الاجتماعي، وهي قيم انطلقت من مفهوم أن الفرد (وليس المجتمع أو الجماعة) هي نقطة الانطلاق ووحدة التحليل، وقد تم تخيُّل المجتمع على نمط السوق، وقد ترجم ذلك نفسه إلى رؤية للتاريخ تتسم بالتجانس، حيث تركز على أهمية ومركزية الغرب في العالم، وأهمية ومركزية كل ذات قومية ـ فمجَّد البريطانيون الذات البريطانية ومجد الألمان الذات الألمانية. وفي هذا الإطار ظهرت أسطورة الإنسان البدائي والإنسان غير المنطقي ولا عقلانية الشعوب المتخلفة. وعُزلت الحضارات بعضها عن البعض، وعُرِّف التاريخ بأنه ما هو مكتوب وحسب، ثم تم تقسيمه إلى فترات محدَّدة تتحرك نحو هدف حُدِّد مسبقًا يكون عادة هو تحقق الذات القومية الضيقة المتجانسة المحددة. ويصل هذا الاتجاه إلى ذروته (أو هوته) في الأسطورة النازية التي قامت على إعلاء النزعة القومية وجموحها نحو التمجيد القومي، وإحياء العرقية كأساس للقومية؛ مما عزز دعوتها العنصرية، وقد أضفى عليها هتلر بشخصيته أفكاراً تنزع إلى تمجيد الدولة وترسيخ فكرة الزعيم والشخصانية ولكن في نهاية المطاف دفع الألمان الثمن غالياً نتيجة احتقارهم الآخر، كما أن الدعوة إلى الشعارات العنصرية القديمة بقيت دون أي نجاح .ثم بعد ذلك نجد القومية متجسدة في الأسطورة الصهيونية التي دعت اليهود للعودة إلى أرض الآباء والأجداد ورفض اندماج اليهود في المجتمعات الأخرى للتحرر من معاداة السامية والاضطهاد الذي وقع عليهم في الشتات، من هنا نجد أن كلا من الألمان واليهود اتخذوا القومية جسرا للعبور فوق الدول إذ إن كليهما مجَّد الذات القومية واستبعد الآخر تمامًا.
فزادت من تحدد الأسطورة ومن عدوانيتها وتجانسها وانغلاقها، وأضافت لها مقولات التفوق والنقاء العنصري التي تختزل الآخر في عنصر واحد متدنٍّ، حتى يمكن تحويله إلى مادة استعماليه. وكأننا فعلاً أمام فلسفة "كانت" حين رسم هذه الصورة المتجزئة للعالم ورغبة البعض في التهميش واستقصاء الآخر بفكرة عصفوره الذي كان يتمنى أن يكون الفضاء خالياً من الهواء كي يستطيع أن يحلق بيسر أكبر ولمسافات أطول وأعلى بجناحيه الصغيرتين؛ فهو لم يدرك أنَّ الهواء ذاته هو الذي يمنحه القدرة على التحليق وأن انتفاءه يعني فقدانه هذه القدرة. ولعل شأن هذا العصفور كشأن بعض الذين يريدون أن يكون الفضاء محاطاً بأسوار لهم فلم يستطيعوا تعريف هذا الهواء إلا بمنطق النفي والاستبعاد للآخر.
