التعددية الدينية بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر «نيويورك»

داود الهطالي

من القضايا الحية المثيرة للجدل في الوسط العالمي التي حظيت - ولم تزل تحظى- بالاهتمام البالغ على مر العصور، قضية تعدد الأديان، وهي الظاهرة التي تطفو على السطح بظهور تعارض الاعتقادات الدينية المطلقة بين الأديان، فكل دين يعتقد بأنه هو الحق وغيره باطل، وقد تولد من هذا الفكر أن أتباع هذا الدين لهم  الفوز والفلاح فقط دون غيرهم، أما عن الغير فيكون مصيره إلى النار، وفي الحقيقة نجد مثل هذا الاعتقاد شائعاً ليس فقط بين أتباع الأديان، بل نجده أيضًا بشكل واسع بين أتباع المذاهب والفرق داخل الدين الواحد، هذا الفكر سبيل العنف والحرب، ويَفْتًقد السلام والتعايش والتفاهم  في المجتمعات التي تحتضن هذا الفكر. في هذا المقال سنستلخص بعض الفوائد التي ذكرها دوغلاس ليونارد في مقاله عن (التعددية الدينية والثقافية وإمكانيات التفاهُم والانقسام - التجربة الأميركية ).

يحكي دوغلاس عن اليوم الذي وقع فيه الحادث الإرهابي - كما يطلق عليه-  كعادة دوغلاس كان في اجتماع مع أعضاء الكنيسة البروتستانتية التي يعمل فيها مساعدا للكاهن، إذ دخل عليهم الكاهن المسؤول عن الكنيسة د. Rev.Arthur Caliandroمتأخرا عن اللقاء وعلامات التعجب تعلو مُحَيّاه وقال غاضباً: لقد مرَّت فوق رأسي طائرة على طول الشارع رقم 5، فحملها الجميع محمل الصدفة لا غير. لحظات، وأقبل السكرتير مسرعًا يقول إنَّ طائرة اصطدمت بالمركز العالمي للتجارة. بهذا الخبر رفع كُهَّان الكنيسة اللقاء وصلوا للرب وللمسافرين . بعد ذلك خرجوا للشارع المقابل للمركز العالمي للتجارة وإذا بالطائرة الثانية تصطدم بالبرج أمام أعينهم، فخيم الصمت عليهم وهم يشاهدون الدخان يصعد من البرج والناس يهرعون من المدينة خوفاً من هجوم آخر، فقد علموا أن المدنية ضحية هجوم إرهابي، قرر الكهنة البقاء في أماكنهم وهم يرون رجال الأعمال ذي البدلات الغالية والرفات عليهم كأنهم أموات تم إحياؤهم.

في ذلك اليوم جاء الكاثوليكيون والبروتستانتيون للكنيسة للصلاة كما جاء اللادينيون للبحث عن الأجوبة، في هذه المأساة فقد العديد من أفراد الكنيسة بعضًا من أهليهم، فكان دوغلاس والكاهن المسؤول يعطون أهل الضحايا دروسًا للمواساة على فقدهم، وختموا تلك السنة بهدايا تذكارية وضعت بالقرب من الحفرة التي أحدثها الانفجار، أصبح الكل يتخيل أن نيويورك ستصبح مدينة الانتقام والحقد والتعصب جراء ما لاقته من هجوم، إلا أنَّ الأمريكيين أصبحوا أكثر يقظة وأقل سذاجة وأصبحت المدينة مدينة رحمة، هذا الحادث لفت انتباه الكثير لوجود مُسلمين أمريكيين، كما دفعهم لتعلم الإسلام ومعرفته، هذا الوعي المتزايد عظم التآلف بين المسيحيين واليهود والمسلمين.

تعد مدينة نيويورك كما يذكر الكاتب مدينة التعددية الدينية لأكثر من 350 سنة؛ فهم يطبقون قول عيسى إذ قال: "فليحب بعضكم بعضا كما أحببتكم"، وتشير الأرشيفات الموجودة في الكنيسة على وجود التعايش بين الكاثوليكيين والرومان واليهود والبروتستانتيين والمسلمين في المدينة منذ القرن السابع عشر، ورغم أن الإعلام أوجد انطباعاً بشأن شعور سكان نيويورك تجاه المسلمين لكن الهجوم والإعلام لم يؤثرا على  شعور المدينة تجاه المواطن المسلم..

أحداث الحادي عشر من سبتمبر أدت إلى تراجع حوادث العنف ضد المسلمين في الأسابيع التي تلت الحادث حيث إن الصحفي Gustav Niebuhr بعد تتبعه لتلك الحوادث لم يقف إلا على ستة منها فقط، والكاتب في هذا السياق يعاتب الإعلام الأمريكي لكونه غض الطرف عن الشيء الأهم في هذه القضية، وهو  اهتمام الآلاف من الكنائس المسيحيةٌ وتنظيمها لدورات من أجل الاهتمام بالمساجد المجاورة وحمايتها من أعمال العنف، فقد وجد المسلمون باقات من الأزهار أمام مداخل المساجد مرفقة بكتابات تحمل مشاعر الحب والصداقة، كذلك النساء المسيحيات والعلمانيات في كل أرجاء البلاد ارتدين أوشحة الرأس للتعبير عن تضامنهن مع النساء المسلمات، وهذه الأعمال المجسدة للسلام والتعاون بين الأديان لم تكن في اهتمام الإعلام ولم يعرها أية اهتمام.

والحدث الأغرب الذي أوجدته المنظمة العالمية للتعايش بين الأديان عند إحصائها لعدد المنظمات في الولايات المتحدة الأمريكية، وهذه  المنظمات شكلت من قبل المجتمع من أجل تحقيق المصلحة العامة للجميع، حيث وقفوا على أن 1000 من هذه المنظمات أسست بعد الحادي عشر من سبتمبر، وهذا دليل على تغير الوجهة من انتقام إلى تآلف، كما وقعت حادثة تدنيس كنيسة يهودية وتبول المخربين على التوراة وإحراقهم الكراسي والزرابي وذلك عام 2006، لكن تعبيرا للحب الذي يسود بين الناس وقف مسؤولو المساجد تعبيرا عن مساعدتهم لجيرانهم اليهود وقدم البروتستانتيون المساعدة المالية لهم، كما ذكر أنَّ مجموعة من المُسلمين الفلسطينيين اشتروا مدرسة كاثوليكية وطلبوا ترخيصا لتحويلها لمسجد. في البداية تم رفض طلبهم لأسباب غير منطقية، لكن بسبب هذا الرفض اجتمع رجال الدين من الديانات الموجودة من أكثر من مئة منطقة وطلبوا من إدارة المدينة إعطاء المجموعة المسلمة حقها في بناء المسجد، والآن المسجد يشهد تجمعات كثيرة في المنطقة.

الكاتب يدعو إلى الحوار المدني الذي يفضي إلى المودة والتسامح لا إلى الحقد والتعصب، وهذا الفكر الراقي الواعي لابد أن يعم أرجاء الكون لكي تعيش البشرية بسلام، كما أن على الذين يطوعون هذا الوضع الإنساني لخدمة مطامعهم الشخصية التوقف عن تنميق الكلام وعليهم فتح آذانهم وقلوبهم للجميع ويحث الجميع على تعلم المزيد عن الإسلام، وإن كانت المعارضة تكشف عن شيء ستكشف عن سوء فهم للدين الإسلامي.

أظهرت التغطية الإعلامية قسّا ينتمي لطائفة دينية بفلوريدا حاول إحراق نسخ من القرآن الكريم، هذا الحدث جعل الكنيسة البروتستانتية في أمريكا ترد على مخطط القس كما قامت الطوائف المسيحية في البلاد بشجب القس وعمله اللارباني، لأنَّ هذا الأمر يخلخل الدعامة التي ينشدها المجتمع الأمريكي، فالهجوم الإرهابي الذي لحق المدينة لا يمكن أن يتصل بالإسلام على الإطلاق، ولا يمكن الحكم على دين من الأديان من خلال التصرفات المتطرفة التي تأتي من المنتمين إليه.

الخلاصة: إنَّ احتفال المجتمع الأمريكي بأحداث الحادي عشر من سبتمبر تدين كل أشكال التعصب الديني، ورغم أنهم يؤكدون مبدأ أن لكل شخص حرية التعبير عن أفكاره، لكن يجب ألا نتغاضى عن الأفعال التي يقوم بها البعض التي تدنس الرموز الدينية للآخرين من أجل التعبير عن رأي معين. لن يتم نشر رسالة دين بالإساءة إلى الأديان الأخرى؛ وعوضا عن ذلك علينا التحدث مع الآخرين بنزاهة وموضوعية؛ إذ إنّه فقط بالاحترام المتبادل يمكن أن نبني العالم الذي نريد أن نعيش فيه.

 

أخبار ذات صلة